Reader Mode

إنَّ الإحساس والشعورَ بالمعلومات الإسلامية النظرية على نحوٍ يتناسب مع ماهيتها الحقيقية الكامنة في وجدان الإنسان، وصيرورةَ هذه المعلومات عمقًا من أعماق الطبيعة الإنسانية مع مرور الزمن ليرتبطُ في المقام الأول بالإقرار بأنّ تطبيق هذه المعلوماتِ شرطٌ أساسيٌّ لا غِنى عنه، ولقد لفَتَ بعضُ الفلاسفة الانتباهَ إلى هذه المسألة باستخدامهم مفاهيم كــ”العقل العملي”وما شابه ذلك.

العجز والفقر، الشوق والشكر

لقد أوصى الصوفيّة كذلك بــ”السير والسلوك الروحاني”من أجل تَشَكُّلِ شخصيّة الفرد المسلم واكتسابِ الإنسان فطرةً جديدةً، غير أنّ لهذا سُبلًا ومناهج مختلفة خاصّة به؛ فقد وضع أولئك العظماءُ في حسبانهم العواملَ الضاغطة على المسلمين في الفترة التي عاشوا هم فيها، وأسّسوا أنظمةً قادرةً على التصدّي لتلك الظروف، والصمودِ في مواجهتها؛ وبينما ربطَ بعضُهم نظامَه بــ”مراتب النفس السبع”، أسَّسَ البعضُ الآخرُ نظامَه بناءً على “اللطائف العشرة”.

على الإنسان أن يعتبر نفسه قطرة في بحر أمام كل من الإرادة والقدرة الإلهيتين الأبديتين، ويرضى بوضعه ومقامه ويسلم زمام أمره للخالق سبحانه وتعالى.

أما الأستاذُ بديع الزمان فقد ربط النظامَ الذي وضعه بأربعة أسس هي: العجز المطلق والفقر المطلق والشوق المطلق والشكر المطلق، وتحدث عن أساسين آخرين قَد يُتمّمان هذه الأسسَ الأربعةَ، ألَا وهما: الشفقة والتفكر([1]).

الأساسُ الأوّلُ: هو العجزُ المطلق، ويُقْصَدُ به أنْ يَعيَ الإنسانُ ويُدركَ أنّه يستحيل عليه القيامُ بكلِّ عملٍ يرغب فيه؛ فالحوادث تقع وفقًا لتقدير الحقّ تعالى، ولا نستطيع التدخّل فيها، وحتى وإن لم نُنكر وظيفةَ الإرادة في هذا الموضوع فمن المؤكّد أنّ الله تعالى هو خالق النتائج كما أنّه الخالق لكلِّ شيءٍ، وإذا كان الأمر كذلك فعلى الإنسان أن يعتبر نفسه قطرةً في بحرٍ أمام كُلٍّ من الإرادة والقدرة الإلهيّتين الأبديّتين، ويرضى بوضعِهِ ومقامِهِ ويُسلِّمَ زمامَ أمره للخالقِ سبحانه وتعالى.

أما الفقر المطلق فهو: أن يُدرك الإنسان ويعِيَ تمامًا حقيقةَ أنّ الله تعالى هو الصاحب والمالك الحقيقي لكلِّ الموجودات والأشياء، وما نملِكه ممّا استُخْلِفنا عليه إنما هو منه ولَه، فهو الذي استخلَفَنا في الأرض، ومنَّ علينا بِنِعَمٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، وجعلنا مسلمين، وعرّفنا بسلطان الأنبياء ، وفتح لنا آفاقًا ساميةً عالية على الرغم من عدمِ أهليّتنا لها، وربَطَنا بغاياتٍ ساميةٍ وحثّنا على استهدافِها وتحقيقها، فإن جحدنا النعمةَ وأعرضنا عن الحديث عمّا أنزله الله تعالى علينا من نعمٍ وانتقَلْنا إلى الحديث عمَّا هو مِن عند أنفسنا فلن يبقى في أيدينا بل ولن نجِدَ في جُعبتِنا شيئًا أبدًا!.

التفكّر والشفقة

بالرغم من أنّ هذه الأسس المذكورة مهمّة جدًّا إلّا أنّها لا يمكن أنْ تتوحّد مع طبيعة الإنسان تمامًا بمجرّد قراءتها والتفكيرِ السطحيّ بها، إذ إنّ تحوُّلَها إلى بُعدٍ من أبعادِ الطبيعة الإنسانية مرتبطٌ بحالةٍ من التأمُّل والتدبُّر والتذكُّر الحقيقيّ الجاد، فعلينا أن نُمعِنَ في التفكير والتأمّل في الإنسان والقرآن والكون، ونفعلَ كلَّ ما بوسعنا حتى نجعل حديثنا وكلامنا وسيلةً وسبيلًا لشرح هذه الحقائق، وأن نُديم التفكير فيما نملكه، وكم لدينا من رأسمال، وما مدى وجود قُوّتِنا؛ فالحقيقة أنَّ بلوغ الإنسان آفاق مرتبتي الشوقِ والشكرِ مرتبطٌ ومرهونٌ بتوفُّرِ نظامٍ فكريّ فعّالٍ يَنْشَطُ على هذا النحو.

على الإنسان أن يعي تماما حقيقة أن الله تعالى هو الصاحب والمالك الحقيقي لكل الموجودات والأشياء، وما نملكه مما استخلفنا عليه إنما هو منه وله.

أما الشفقة التي هي مِنْ أسس منهجنا فتعني الرحمةَ بالإنسانية والسعيَ الجادَّ والتفانيَ والتضحيةَ لإنقاذ الآخرين، بل إنّه يجب على الإنسان ألّا يَقْصُر مشاعرَ الشفقة التي يمتلكها على الإنسانية فحسب وإنَّما عليه أن ينشرها وينثرها على الوجود بأسره، ويستثمرَ كلَّ فرصة تَعِنُّ له في عَرضِ هذا الشعور عرضًا عميقًا ودقيقًا، بل إنّه ينبغي له أن يتحلّى بأسمى معاني الشفقة وأَرْحَبها حتى إنه ليبكي إذا رأى نحلةً تُعالِجُ الموت.

ولا شك أنَّ استيعابَ كلِّ هذه الأمور وصيرورتها بُعدًا من أبعادِ الطبيعة الإنسانية مرتبطٌ بجهد وسعي حقيقي وجادٍّ، ولكن قد تتحقّق خوارقُ عاداتٍ في بعض الحالات الخاصة، فَيَصِلُ الناس على جناحِ السرعة إلى ذروة الكمالات الإنسانية.

كذلك ينبغي ألَّا ننسى أنّ الله في عون العبد ما دام العبد يبذل جهدًا حقيقيًّا ويسعى سعيًا حثيثًا في موضوع العبوديّة له تعالى.

“إن تحبِبِ اْلمولى، أتظنُّ أنه لن يحبك؟

وإن طلبت رضا الحق، أتحسبه خاويًا يرُدّك؟

وإن ضحيتَ بالروح عند باب الحقّ

وكنتَ طوعَ أمره، أفيبخسُك الله ثوابك وأجرَك؟”

إنكم إنْ تتّجهوا إلى الله، يتّجه إليكم، وإنْ تحوِّلوا أنظاركم وأبصاركم إليه تعالى ينظر إليكم، وإنْ تفتحوا إليه قلوبكم وأفئدتكم لا يتركها خاويةً فراغًا.

إنَّ بلوغ الإنسان آفاق مرتبتي الشوق والشكر مرتبط ومرهون بتوفر نظام فكري فعال نشط.

وختامًا أقولُ إنْ استطاعَ الإنسانُ جعل تطبيق الإسلام طبيعة فيه فلن يتعسَّرَ ولن يتعب كثيرًا في أداء مجموعة من العبادات والتكاليف المنوطَة به، فمثلًا إنّ الاستيقاظَ من النومِ ليلًا والقيامَ إلى التهجُّد ليثقُل ويشقُّ على النفس، غير أنّ الإنسان إنْ جعل هذا الأمرَ جزءًا لا يتجزّأُ من طبيعته، وكأنه عقدَ اتّفاقًا سرّيًّا بينه وبين الله تعالى؛ فلن ينزعج ولن يتأذّى بسبب النهوض من فراشه، ربما يعاني في أول الأمر من خمولٍ بسبب النوم، إلّا أنّه حين يُسلِمُ نفسَه للصلاة ويتوجه بالدعاء ويشرعُ في التضرُّع إلى الله تعالى؛ فإنّه سيقول من شِغافِ قلبه: “ما أحسنَ أنْ استيقظتُ، واستثمرتُ هذه الساعات الليليّة الموحشة، وتوَّجْتُها بمناجاتي ربي!”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر: بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب الرابع، ص 24؛ الكلمات، الكلمة السادسة والعشرين، ذيل، ص 555.