Reader Mode

سؤال: عند ظهور أيِّ دعوة كان أفرادُها يؤمرون بالهجرة، فهل يُعدّ الارتحال اليوم من بلدٍ إلى آخر لخدمة الحقِّ هجرةً في سبيل الله؟.

الجواب: الهجرة مسألة عظيمة تنطوي على معانٍ دقيقة وحقائق كبيرة، فكما تعني هذه الكلمة الهجرة من بلد إلى آخر كذلك تعني الهجرة من فكرٍ إلى آخر، وتدلّ أيضًا على هجرة الإنسان من نفسه إلى نفسه، ولا أدري هل أستطيع أن أوفّي هذه الكلمة وما تحمله من معانٍ عميقة حقّها بما يتناسب مع أهميتها وقدرها العظيم أم لا، ولكني سأقوم بعرض ما أستطيعه مستعينًا بالله تعالى وبلطفه وإحسانه.

 الهجرة أساسٌ مهمٌّ في كلّ دعوة عظيمة، لذا فلا يوجد رجل دعوةٍ عظيمة، ولا رجل فكرٍ كبير ولا رجل تحمّل عبء وظيفةٍ عظيمة -وأنا على وعيٍ بما أقول- لم يهاجر.

الهجرة ديدن الدعاة:

لقد ترك كلُّ رجلِ دعوةٍ البلدَ الذي وُلِدَ فيه ورحلَ من أجل دعوته إلى بلدٍ آخر، وأكثر الجوانب بركةً وأهميةً في موضوع الهجرة هي أنها أمرٌ من الله تعالى؛ ذلك لأن هناك معاني ساميةً تقترن بهذه الهجرة لها أهميةٌ خاصة للشخص المهاجر الذي سيقوم بخدمة الدعوة، ومع أن أحدًا لم ينعت سيدنا إبراهيم عليه السلام بـ”النبي السائح”فإن هذه الصفة هو أهلٌ لها وجديرٌ بها، ففي ذلك العهد الذي كانت تتعسّر فيه وسائل النقل فإننا نسمع صدى صوتِهِ يدوّي وهو يدعو “النمروذَ بن كنعان”ملكِ “بابل”إلى الإيمان والتوحيد، قال تعالى حكايةً عن ذلك الحال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/258)، ثم إذا بنا نراه في أرض “كنعان”، ثم في سوريّة، كما يورِدُ المؤرّخون أنّ ملِكًا جبَّارًا كان يحكم الشامَ يُدعى “صادوقًا”مرّ به إبراهيم برفقة زوجته “سارة”، ودعاه إلى الإسلام[1]، وكأنّ لسانَ حاله هو وزوجته “سارة”يقول كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم يوم بدر: “اللهمّ إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبَدَ في الأرض”2.

————————————————————

المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 259-260.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

[1] – ولما دخل إبراهيم ومعه سارة إلى أرض هذا الجبّار قال لها:

“إن هذا الجبار إن يعلم أنكِ امرأتي يغلبني عليك، فأخبريه أنكِ أختي -أي في الإسلام- فإني لا أعلم في الأرض مسلمًا غيرك وغيري”.

فلما دخلا رآها بعض أهل الجبار، فقالوا له:

“لقد قَدِمَ أرضَك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك”.

فأرسَلَ إليها فأُتِيَ بها وقام إبراهيم إلى الصلاة والدعاء، فلما دخلت عليه أعجبته، فمد يده إليها، فأيبس الله تعالى يده، فقال لها:

“ادعي الله أن يُطلق يدي ولا أضرّكِ”.

فدعت، فعاد، ثم وثم، حتى دعا الذي جاء بها، وقال له:

“أخرجها من أرضي”.

وأعطاها “هاجر” وكانت جاريةً في غاية الحسن والجمال، فوهبتها سارةُ لإبراهيم، فولدت له إسماعيل عليهما السلام…إلخ. أوردَ هذه القصّة بالتفصيل ابن حجر: فتح الباري، 6/ 392؛ وغيره.

2- صحيح مسلم، الجهاد والسير،58.