Reader Mode

ينبغي لرجل الإرشاد والتبليغ أن يكون جوادًا كريمًا، ويضحّي بما يملكه في سبيل دعوته، ويتخذ من جُودِهِ بُراقًا لفتح القلوب.

“عندما أتكلم عن الجود والسخاء لا أتمالك مشاعري وأتذكر على الفور أمنا السيدة خديجة رضي الله عنها”. فعندما تعرفت إلي النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن صلى الله عليه وسلم يملك من حطام الدنيا شيئًا، وأما هي فكانت ثريةً في المالِ، درّةً في الجمال، حسيبةَ النسبِ، طيّبةَ الخِلالِ، ورغم هذا فقد حدسَتْ المعنى الكبير الذي يحمله هذا النبي الكريم، وعرضت عليه الزواج، وتزوّجا فعلًا.

ولقد جهَّزت كثيرًا من القوافل التجارية، وأنجبت للنبي صلى الله عليه وسلم عددًا من الأولاد، ثم رحلت دون أن تُدرك عهدَ المدينة، وهذا من الأمور التي تؤثّر فيّ تاثيرًا بالغًا، فعندما أتذكّر هذا الموقف أجهشُ بالبكاء.

ليس العلماء والوعّاظُ والمشايخ هم أول من يدخلون الجنة، بل هؤلاء الكرماء من تُجَّار وحِرفيين أيًّا كان مستوى دخلهم، لأنهم بذلوا مالهم وأرواحهم في سبيل الله ونَشْرِ الحقِّ والحقيقة.

كانت هذه السيدة العظيمة – التي كأنّها ما خُلِقَتْ إلا لتصبح زوجةً لنبيّ- سخِيّةً كريمةً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فلما بدأ صلى الله عليه وسلم في تبليغِ رسالَتِهِ صدّقَتْهُ وآمنت به دون تردُّدٍ، ثم وضعت كلَّ ثروتها تحت تصرُّفه، فأنفقها في سبيل الله، ولم يبق منها شيء وقت المقاطعة الاقتصادية التي ضربها الكفار على المسلمين في شِعبِ أبي طالب. حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كاد يُغمى عليه من شِدّةِ الجوع. ولَزِمَتْ السيدة خديجة الفراشَ، ولم يستطيعوا توفيرَ علاج لها، ورحلت إلى الرفيق الأعلى فقيرةً مسكينةً، فغاب الأفق الأخير في الجود والسخاء، ووصلت أمُّنا العظيمة خديجة رضي الله عنها – التي نفديها بكلّ أمّهاتنا- قبلَ الجميع إلى ذلك الأفُقِ.

“كانت السيدة خديجة رضي الله عنها – التي كأنّها ما خُلِقَتْ إلا لتصبح زوجةً لنبيّ- سخِيّةً كريمةً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى”.

وكان سيدنا “أبو بكر الصدّيق” رضي الله عنه يُلهي أباه بحصَيات من الحجارة يضعها في جرّته؛ ليوهِمَهُ بأنها مالٌ، ويُنفِقُ كلَّ ماله في سبيل الله، حتى إنه افتقَرَ بعد تولّيه الخلافة، واضطر لكسبَ عيشه بكدِّ يمينه، وحَلْبِ شياهِ الآخرين. لقد ضحى بكلّ ماله في سبيل الحقّ، مع أنه كان واحدًا من أغنى أغنياءِ مكّة قبل الإسلام. وكان سيدنا “عمر الفاروق”رضوان الله عليه يتعيّشُ على بضعِ تَمَرَاتٍ كأفقر رجل.

تنافسوا في الجود والكرم

كان الصحابة يتنافسون في الجود والكرم، لذا فتحوا القلوبَ بما قدَّموه من سخاء وَجودٍ في سبيل الله، وتوالى دخولُ الناس في دين الله أفواجًا. قال “أنس بن مالك”: “إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسلِمُ ما يُريدُ إِلا الدنيا، فَمَا يسلمُ حَتى يَكُونَ الإِسلامُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنَ الدنيا وَمَا عَليهَا “، وروى أن رجلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَينِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَتَى قَومَهُ فَقَالَ: “أَي قَومِ أَسْلِمُوا، فَوَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ” (صحيح مسلم، الفضائل، 57، 59).

   ينبغي لرجل الإرشاد والتبليغ أن يكون جوادًا كريمًا، ويضحّي بما يملكه في سبيل دعوته، ويتخذ من جُودِهِ بُراقًا لفتح القلوب.

وسيَفتح بابَ الجنة الكرماءُ، فافتحوا أنتم أيضًا السبل التي توصِلُ إلى هذا الباب في الدنيا وخذوا بأيدي الكثيرين معكم إليه، وبهذا السلوك فإن من يتعاملون معكم سيصلون إلى مستوى يؤثرون معه الله ورسوله على كل ما سواهما. أجل، ليس العلماء والوعّاظُ والمشايخ هم أول من يدخلون الجنة، بل هؤلاء الكرماء من تُجَّار وحِرفيين أيًّا كان مستوى دخلهم، لأنهم بذلوا مالهم وأرواحهم في سبيل الله ونَشْرِ الحقِّ والحقيقة. أجل، إن هؤلاء تقرَّبوا إلى ربِّهم بإنفاقِ أشياءَ فانية، فكسبوا أشياءَ باقيةً، فكتب لهم الخلود.

————————–

المصدر: محمد فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، صـ34-37.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.