﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾(سَبَأ:12)
كان سليمان عليه السلام يسخر الجن لخدمته ببعض الأدعية وببعض أسماء الله الحسنى التي لا نعرفها. وعندما كان يقرأها -في عالم الأسباب هذا- كانوا يدخلون في خدمته. والحقيقة أن الأسماء الحسنى ليست عبارة فقط عن الأسماء المائة التي رواها أبو هريرة رضي الله عنه، فقد ورد في دعاء من أدعية الرسول صلىوسلمس : “أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنـزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك…”.
ويفهم من هذا أن الله تعالى قد يكون علم كل نبي أسماء مختلفة. ومن المحتمل أن سليمان عليه السلام كان يسخر الجن بقراءة هذه الأسماء. وفي المعنى الحقيقي فالله تعالى هو الذي سـخر الجن والشياطين في خدمة النبي سليمان عليه السلام. ويتبين هذا الأمر بشكل أوضح في سورة (الأنبياء: 79-82).
وقد ورد في بعض الإسرائيليات -وليس في السنة الصحيحة- أن النبي سليمان عليه السلام خشي من سوء استعمال هذه الأسماء من بعده فأخفاها في جانب من جوانب عرشه. وأن بعض اليهود في زمانه سرقوا هذه الأسماء واستعملوها لحسابـهم. وهناك بعض الآيات في العهد القديم ملائمة لمثل هذا التفسير.
هناك بعض التيارات الحالية تحاول تحميل هذا الأمر معاني أخرى تتجاوز ماهيته كثيرا، فيقولون مثلا: “لا حاجة لله -حاشا لله- المهم إرضاء قوى الشر لكي تستقيم كل الأمور”. أو يقولون: “قدرة القوى الشريرة أكبر من قدرة القوى الخيرة، لذا يجب إرضاء قوى الشر”. ومن الممكن إرجاع أصل هذا إلى فكر “كابالا”، أي أن المصدر مصدر ماسوني بحت. ومن الممكن إرجاع العديد من أشكال المراسـيم والشعائر الماسونية إلى المصدر نفسه. وترد في أفلام الكارتون للصغار عبارات من أمثال: “باسم قوى الظلام، وباسم قوى الظلال….”مما تؤدي إلى تسميم العقول الغضة للصغار وقلبها رأسا على عقب، وتفتح جروحا لا تندمل في أرواح الشباب وفي عالمهم الميتافيزيقي الماورائي، وهي سفسطة غير موجودة في تعابيرنا ومصطلحاتنا الدارجة. والظاهر أن مثل هذه التشوهات ستستمر حتى قيامنا بتعديل العالم الداخلي والعالم الروحي لأفراد شعبنا، وتنظيمه.
والأمر الآخر الذي يجب الالتفات إليه هنا هو أن النبي داود وسليمان عليهما السلام أعطيا أشكالا مختلفة من تسخير الموجودات، وكرما به. فتسخير الجبال والحديد لداود عليه السلام الذي كان قد تعرض لمشاكل ومصاعب كثيرة حتى أصبح تمثالا لحقيقة ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ انّهُ أوّاب﴾ (ص: 30). وتكريم سـليمان عليه السلام بالنبوة وبالقوة -التي ورث قسما منها من والده- وبالملك وبأبهة السلطنة، وتسخير الجن والشياطين والعفاريت الذين يعدون كائنات ميتافيزيقية -أي وراء هذا العالم المشهود-، وكذلك تسخير الرياح له، يبدو وكأنه تمثيل للتوازن الموجود في الحقيقة الأحمدية بين العالم المادي والعالم الميتافيزيقي “غير المادي”.
وبـهذا الاعتبار يمكن القول بأن النبي داود عليه السلام يعد نواة للجانب الباطني من الحقيقة المحمدية، والنبي سـليمان عليه السلام نواة للجانب الظاهري منها. وعندما آن الأوان اجتمع كلاهما -الظاهر والباطن- في شخص صاحب الجمع صلىوسلمي .
الله أعلم بالصواب.
﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾(سَبَأ:14)
تريد هذه الآية قبل كل شيء بيان حقيقة معينة وهي أن الجن لا تعلم الغيب. فإذا لم تكن الجن تعلم الغيب، إذن فالذين يأخذون عنها الأخبار لا يعلمون ولا يستطيعون معرفة الغيب كذلك. لذا تقرر بأن مَن يصدق بصحة أخبار الغيب التي يقول بها الكهان يخرج عن الدين والعياذ بالله.
والأمر الثاني هو: هل عمل الجن حقيقة تحت إمرة النبي سليمان عليه السلام؟ فقد ادعى البعض من الكتاب المعاصرين بأن هذه الآيات وأمثالها الواردة في القرآن آيات رمزية ومن قبيل المجاز والاستعارة ولا تقصد معناها الظاهري. وأنا أعتقد بأن جميع الحوادث التي بينها القرآن الكريم وقعت وجرت حقيقة.
وإذا جئنا إلى الدرس المستقى منها فهو يشير إلى موضوع ذي أبعاد عميقة. فمثلاً يمكن القول فيما يتعلق بهذه الآية: إن الكون أسس بإرادة إلهية، ويسير ضمن المشيئة الإلهية وهو عبارة عن نظم متداخلة بعضها مع البعض الآخر. ولا مكان للصادفات في أي حركة في الكون ضمن هذه النظم. وإن تآكل العصا التي كان النبي سليمان عليه السلام يستند إليها حقيقة من جانب، وليس مصادفة من جانب آخر. ومن المحتمل أن الآية تريد أن تقول لنا بأن ملك سليمان عليه السلام سيتشتت في يوم من الأيام. وهو ما حدث بعد سنوات من وفاته، فقد ظهرت انشقاقات كبيرة في المجتمع، وتراجع إلى عهد الفوضى الذي كان موجوداً في الأيام الأولى من عهد النبي داود عليه السلام. وفجأة هوت السلطنة الكبيرة كبر الجبال إلى الأرض وأصبحت جذاذاً، ووجد الناس الذين كانوا في ظلها أنفسهم في وضع آخر تماما.