بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على إمام الأنبياء وقائد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن سار على دربهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين، وبعد:
فإن البيان الوحيد الذي كُتبَ له الخلودُ المطلق هو القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
إنه خطبة الحق ورسالة السماء إلى الأرض، وهو البيان الخالد الذي حملَ من المعاني ما تعجز عن حمله الأسفار والأساطير، وهو لسان الغيب في عالم الشهادة.
وهو الذي تأخذُ لمساته البيانيّة بألباب اللغويّين، وتترك العقلاء سكارى وما هم بسكارى، ولكن البيان القرآنيّ بديعٌ فريد.
وقد يكون الإبداعُ والتفرّدُ في الأسلوبِ سببًا في استثارة المخاطبين وتحريك نزعة الرفض والإنكار لديهم، وهذا ما نتج عن القرشيين عندما سمعوا القرآن، ولكن على الرغم من ذلك فقد استحسنوا أسلوبه البديع وعظَّموه؛ مذعنين لسلطانه المكين في أسلوبه المبين؛ إذ إنه يحلق بالمستمع في جوٍّ دافئ لطيف، ويحيط به فيأسر لبّه؛ فما أكثر من استمعوا إليه فلم يستطيعوا أن ينعتقوا من تأثيره الأخاذ، بل منهم من آمن به على جناح السرعة كالفاروق عمر ، وأما من أبى واستكبرَ فقد أذعن لعظمته وجلال قدره.
فهذا الوليد بن المغيرة -رغم عتوّه وضلاله- لما استمع إلى القرآن من فمِ رسول الله رقَّ أيّما رقّة، وتأثّر أيّما تأثُّر، فجاءه أبو جهل منكرًا عليه تأثّره، فقال الوليد: “والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا”.
وجمع قريشًا عند حضور الموسم، وقال: “إن وفود العرب ترِد، فأجمعوا فيه رأيًا، لا يكذّب بعضكم بعضًا، فقالوا: نقول كاهن! قال: والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته ولا سجعه.. قالوا: مجنون! قال: ما هو بمجنون، ولا بخنقه ولا وسوسته.. قالوا: فنقول: شاعر! قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر.. قالوا: فنقول: ساحر! قال: ما هو بساحر، ولا نفثه ولا عقده.. قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا وأنا أعرف أنه باطل، وإن أقربَ القول أنه ساحر..
لقد سحَرَه القرآن ببيانه البديع، وأخذ بمجامع قلبه؛ إلى أن حيّره وجعله يضرب أخماسه بأسداسه معمِلًا ذهنه في التفكير لكن دون جدوى..
وإن القارئَ والمستقرئَ لهذا الكتاب سيلاحظ كيف أنَّ الكاتب يطّوَّف حول عظمة البيان مصطحبًا معه القرّاء في رحلات استكشافٍ حول جزالة النظم وخلود البيان وعُمْق الاختزان.. إنه مثلًا عندما يتناول مسألة الحروف المقطعة التي صُدِّرت في أوائل بعض السور يقولُ فيُجيدُ ويُفيدُ:
“ومن النكات البديعة للحروف القرآنية المقطعة أن زيادتها ونقصانها في سورها له نسق يطّرد مع ترتيبِ ورودها، ومن ذلك مثلًا:
سورة الرعد تبدأ بـ﴿الٓمٓرٰ﴾ فترتيبها (أ، ل، م، ر)، ويتناقص عددها على هذا الترتيب أيضًا: فـ”أ” تكررت (625) مرة، و”ل” (479)، و”م” (260) مرة، و”ر” (127) مرة.
وثَمَّةَ سورٌ سوى هذه يلاحظ فيها هذا التناسب الدقيق؛ منها سورة البقرة، فالحروف المقطعة فيها هي ﴿الٓمٓ﴾، وتكرارها في السورة كالتالي: تكرر حرف “أ” (4592) و”ل” (3204)، و”م” (2195)، فالانسجام في الترتيب جليّ فيها؛ وهو كذلك في سورة آل عمران، فالحروف المقطعة فيها هي: ﴿الٓمٓ﴾، وعددها في السورة مطّرد مع ترتيبها؛ فحرف “أ” تكرر في السورة (2578) مرة، و”ل” تكرر (1885)، و”م” (1251)، على التوالي، والأمرُ جارٍ في سورتي العنكبوت والروم لو عددْتَ حروفَهما.
وأما في سورة (يس) فكان العكس؛ فالحرف الأخير عدده في السورة أكثر، لأن ترتيب الحروف المقطعة فيها على خلاف ترتيبها الهجائي، بدأت بالياء وثنَّت بالسين، فجاء عدد السين أكثر من الياء”. ا.هـ.
إنه يُبحرُ في هذا الميدان مبيِّنًا عظمة كتاب الله المسطور، وما فيه من جلال وجمال وكمال، ثمّ ينتقل إلى الربط والمقارنة بين المسطور والمنظور؛ فالقرآن الكريم هو كتاب الله المسطور، والكون هو كتاب الله المنظور، وإن فيما بين هذين الكتابين من الأهمّية والتضافر كما بين جناحي الطائر.. فكما يتعذّرُ الطيران بجناحٍ واحد؛ كذلك يتعذّر فهمُ الكونِ بالنسبةِ لمن أقبلَ على أحد هذين الكتابين وزهد بالآخر.
فأما الكتاب المسطور فهو منذ أن نزل على النورِ الخالدِ صلوات الله وسلامه عليه، ورغم توالي الأزمنة والعصور ثابتُ المبنى فضفاض المعنى.. وأما الكتاب المنظور فهو رحالةٌ من طورٍ إلى طور، وكما تبلى الأزمنة وتتعاقب وتتجدّد فإنّ الكون رغم ثباتِ أصوله يتطوّر ويتمدّد بفضل الإنسان، فتُضافُ إلى معالمه الأبراج العملاقة والكواكب الصناعية، والسيارات والطائرات، والهواتف النقّالة والرادارات ووسائل الاتّصال الحديثة وغيرها..
وهذا يعني بالضرورةِ عدمَ الاكتفاء بما قدمه العلماءُ والمفسّرون السابقون، حتى وإن كانوا يتدبّرون المسطورَ بعينٍ والمنظورَ بالأخرى، لأن الكتاب المنظور دائم التغيّر سريع التطوّر، وعلى رجال العلم في كل عصرٍ أن يواكبوا حركته ويجاروا تطوّرَه، وأن يُشمروا عن سواعد الجدّ والاجتهاد والحركيّة فيأخذوا العقلَ البشريَّ في سياحةٍ روحانية تدبريّة انطلاقًا من ركيزتين لا يُستغنى بإحداهما عن الأخرى؛ المسطورِ كما أُنزِلَ غضًّا طريًّا، والمنظورِ كما نراه في واقعنا وحياتنا العاديّة؛ ليُقدّموا للعالمِ قراءاتٍ في عالم القرآن الكريم من منظورٍ عصري، تستهدف إشهادَ كلِّ كتابٍ على الآخر، وتصديقَ كلٍّ منهما لِصِنْوه..
ولا نقول بأن مهمة هذه القراءات والسياحات التدبّرية إيجاد التوافق فيما بين الكتابين.. أبدًا.. فلا تعارض بينهما أصلًا، وليس من مهمّتها أيضًا أن تجبرَ القرآن وتلزمه بشمولية كلِّ اكتشافٍ علميٍّ جديد بدعوى أنه “ما فرّطنا في الكتاب من شيء”، فتلوي عنق النصِّ لِتُطَوِّعَهُ في الدلالة على المكتشفات والحقائق العلمية الجديدة.. وإنما مهمتها إيضاح مكامن الاستشهاد وإبراز معالم الصلة الوثيقة، وبلورة التضافر المذكور.. وإرشادُ الناسِ إلى أن التدبّر ينبغي أن يكون على هذا المنوال، وعلى المتدبّر أن يقف على مسافةٍ واحدةٍ من كِلا الكتابين، آخذًا مضامينهما معًا بعين الاعتبار، مشاهدًا تأييد كلٍّ منهما للآخر وتضافره معه.
وليس من السهل على الإطلاق إجراء هذه السياحات الفكرية والجولات التدبّرية، بل إنها لتتطلّب غواصين مهرة وقامات عملاقة قادرة على الغوص تارة والتحليق تارة أخرى ضمن عمليّة معقّدة ودقيقة من الرصد والمتابعة والاستقراء والتحليل والتركيب والاستنباط، ولا يستطيع الاضطلاع بهذه المهمّة إلا بضعُ قاماتٍ طلّقوا المتع الدنيوية والهوى والنفس، واستهدفوا رفعة الأمة وإصلاحها ونهضتها، فهؤلاء هم رجال هذا العصر، فلكلّ عصرٍ دولة ورجال.
إن الكاتب ههنا عندما يشرع في رحلاته الفكرية وسياحاته التدبّرية للبيان الإلهي الخالد متحدِّثًا عن التطوّرات والحقائق العلمية؛ نراه يبتكرُ مصطلحاتٍ ومفاهيم جديدة وعصريّة، ويقرّر بأنه وفقًا للانفجار العلمي الهائل الذي نشهده في عصرنا الحالي فإنه سيتمّ وضعُ الموجودات جميعها تحت مجاهر المراقبة والرصد وأمام عدسات التجربة وقبالة تلسكوبات المشاهدة الحثيثة، وليس من الضروري ربطُ كلِّ اكتشافٍ علميٍّ جديد بالقرآن، ولكن البشرية حيثما تصل في نهاية رحلتها وخاتمة مطافها في استكشاف الكون والأنفس فستسمع كلّ شيءٍ ينادي بلسان الحال أو المقال أن: “لا إله إلا الله”، وذلك انطلاقًا من فيضِ قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/53).
ثم يُعقّبُ على هذه الآية فيقول:
“وقد كان الخطاب في الآية وقتَ نزولها موجّهًا للصحابة، ولا ندري ما فهمه ذلك الجيل الطاهر والبريء، ولم تكن في ذلك الحين أدواتٌ تَرْصُد الآفاق، كما كان من غير الممكن التعرّف على كلّ جوانب النفس.. وأيضًا فلم تكن شعاعاتُ “إكس (X)” قد اكتُشفت بعدُ، كما أنه لم يكن حينذاك المجهر الإلكتروني، ولكن القرآن كان يقول لهم: إننا سنجعل كلّ أحد في المستقبل يقول: “إنه الحق”.. وهذا يعني أن هذه الآية كما كانت تفيد بالنسبة لهم أمورًا، فكذلك تهمس في أُذُن إنسان القرن العشرين أيضًا بعديد من الأمور.
أجل، إن إنسان هذا العصر بفضل التكنولوجيا المتقدمة يُعتبَر مُدركًا -إلى حدّ ما- لهذه البشارة الإلهية، فلقد اكتُشفت أسرارٌ كثيرة حول تشريح جسم الإنسان، وتم تمشيط جسم الإنسان بواسطة المجاهر الإلكترونية، وأجريت العديد من الأبحاث العميقة الأخرى في الآفاق والأنفس، وأصبح الوضع كأن فيه انفتاحًا على أبواب الغيب.
ومن جانب آخر يمكن الحديث في هذا السياق عن ملمح لطيف وهو: أن القرآن الكريم يَعرض الإنسانَ والكون للأنظار في آن واحد وفي نفس المستوى من الأهمية وبنفس الدقة، من دون ترجيحٍ لأحدهما على الآخر، ويريد منا فهمَ كل الوجود في تكامل تام، وفي الخطّ الممتد من أعماق الإنسان الداخلية إلى زوايا الكون الشاسعة، يؤكد على ضرورة البحث
في كل الوجود، ولزومِ بذل الجهد في اكتشاف الآيات الربانية، بأن يصرف الباحثون كلَّ ملكاتهم في هذا المجال، ويوجهُ إليهم أوامره الربانية وكأنه قائد يقول لجيشه: “انطلقوا”.
فهذه النكتة الدقيقة تدل على أنه إذا كان لا بد من البحث عن الاستقامة الفكرية حتى في العلوم البحتة فإنما يمكن ذلك بفضل إجراء البحوث بمقاربة كلية، من دون التغاضي عن المناسبة بين (الإنسان-الكون-الله)، وبالانفتاح على الآفاق والأنفس معًا.
والحاصل أن القرآن الكريم حينما يقدم معلومات عن الأرضين والسماوات وكلِّ الوجود يستخدم أسلوبًا يتمتع بمستوى من قوة الإقناع بحيث يؤكد للإنسان أنه كلما قطع شوطًا في الاكتشافات والاطلاعات والاختراعات الجديدة، فإنه سيتقاطع طريقه في مرحلة من المراحل مع حقيقة من الحقائق القرآنية، ويُذكِّره بالأيام القادمة التي سيتّضح فيها تعلُّق كل شيء بالله.
وليس من المعقول أن يكون كلامُ خالق جميع الكائنات متناقضًا مع الكون والطبيعة والعلوم؛ لذلك ليس من الممكن بتاتًا أن تكون المعلومات التي استقيناها من القرآن متناقضةً مع المعارف التي أخذناها من الكون بأي وجه من الوجوه، طبعًا إذا أخذناها بطريقة صحيحة.
وإذا رأينا تناقضًا بين العلوم وبين القرآن، فإما أننا فهمنا القرآن فهمًا خاطئًا، أو أننا ظننا بعض الفرضيات المطروحة على بساط البحث على أنها “حقيقة علمية”. ا.هـ.
إننا نجدُ الكاتب يخوض غمارَ التدبّر بأدواتٍ جديدة، ويسبرُ أغوار الكون بمنطقٍ فريدٍ مفيد، ويتحدّث عن الجمود العلمي الذي سيطر على البشرية حقبةً من الزمان قبل عصرنا الحالي، وكيف أنه أنتج نظريّاتٍ لا حقيقة لها شغلت بال التاريخ ومختَلف المحافل العلميّة، وجعلتْها تتعثّر في طريقها نحو الحقيقة، ثم يُعقّب على أن العلم في انطلاقته المعاصرة التي جاءت بعد خمول طويلٍ قد دخلَ مرحلة جديدة تتّسمُ بأنها ستجعله يتجاوز نفسه ويسبقها محطِّمًا أرقامه القياسيّة ومتحرّرًا من أطره التقليدية التي لا تخرج عن عالم المادة، فإذا عاشَ العلم هذه المرحلةَ فسيهتفُ يومها قائلًا: “ربي الله”.
ثمّ يجزم بأنه عند تحقق ذلك سيصل كلُّ عِلم واصلٍ ومُوصِلٍ إلى الله إلى مستوى لا نهائي، ولن يتعرض بعد ذلك لانسداد الطريق أو للتعثر بأمور أخرى، ولن يتعرض للتعارضات والتساقطات كسائر الفرضيات الأخرى.
ويُبيّنُ أنّ القرآن الكريم في هذا المضمار بالذات يضعُ لأرباب العلم هدفًا لا نهائيًّا، فيخلصهم من التعثّر بنظريات ذات أحكام مسبقة تعترض طريقهم، ويرشدُهم إلى أن يُوَلُّوا وجوههم شطر النقطة النهائية التي لا يمكن الوصول إليها إلا بتطورات جديدة.. فالقرآن هو جوهر الحقيقة وأساسها وخلاصتها، ولا مجال فيه للأخطاء والتصدعات والانكسارات، وهو كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه (أي في المستقبل) ولا من خلفه (أي من الماضي)، حيث يقول الله فيه: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (سورة فصلت:41/41-42).
إنها حقًّا لمسات تصحّح المسار، وإرشاداتٌ تضع الباحثين على الطريق الصحيح، وبما أنّ خيرَ الكلام ما قلّ ودل، فلنترك الوقت للقراء الأعزاء كي يبدؤوا جولتهم التدبّرية ورحلتهم القرآنية؛ متمنّين لهم حسنَ الفهم وعمقَ النظر.. وطالبين من المولى أن يبارك في عمر وصحة المؤلف ليُتحِفَنا بكل ما هو جديد ومفيد..
سبتمبر/أيلول (2017م)
دار النيل للنشر والتوزيع