Reader Mode

لا يتغلب الإنسانُ -وهو العاجز الفقير المحتاج- على مشكلاته إلا باللجوء إلى الله تعالى القدير المطلق الغنيّ المطلق؛ لذا فمن الأهمية بمكان أن يلجأ العبد إلى الله تعالى إن نزلَتْ به مصيبة أو بلاء ويقول: “حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ”.

إنّ هذا الذكرَ دليلٌ على إيمان الذّاكر بأن الله تعالى هو الوكيل الذي إليه مرَدُّ أمورنا كلّها، فإن توجهنا إليه فلن يردَّنا خائبين، ولن يكلنا أبدًا إلى أنفسنا، ولن يدعنا وحدنا.

قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 9/129].

الراحة والسعادة الحقيقية هي الانشراح الذي يقذفه الله في قلب العبد، فإذا نزلت بهذا العبد مصائبُ كالجبال صهرَها في قلبه وأحالها إلى ألعاب نارية تبعث السعادة فيمن حوله.

يقول بديع الزمان سعيد النورسي في تفسير هذه الآية: “معناها: إذا تولى أهل الضلالة عن سماع القرآن، وأعرضوا عن شريعتك وسنتك، فلا تـحزن ولا تغتـمّ، وقل: “حَسْبِيَ اللهُ”، فهو وحده كافٍ لي، وأنا أتوكل عليه؛ إذ هو الكفيل بأن يقيض من يتبعني بدلًا منكم، فعرشُه العظيـم يـحيط بكل شيء، فلا العاصون أفلتوا منه، ولا الـمستعينون به حُرِموا مدده وعونه”[1].

وورَدَ في هذا دعاء أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندعو به صباح مساء:

“يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ”[2].

وإن جاز لنا أن نشرح هذا بتفصيل أكثر فلنقل: “اللهم إني أسألك وأنا أسير في سبيلك ألا تدع شيئًا من الفسق والفجور -يضرّ بلباب الأمر ويخلط الحابل بالنابل- يتسلل إلى عملي؛ اللهم لا تكلني إلى نفسي ولا إلى الشيطان طرفة عين، فإنك إن وكلتَني لم أدر في أيّ غيّ سأتردّى؛ ولو تحكمت فيّ النفسُ الأمّارة -وهي ليست محلّ ثقة- فأنا لا محالة مغلوب، أما إن كنتَ وكيلي فلسوف أهتدي إلى الطريق المستقيم وأتمكن من السير عليه؛ فإنّ النفس والشيطان لا يد لهما تمتد إلى عملٍ تُحيطه سبحانك بحولك وقوتك.

يقول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله رحمة واسعة: “حينما جرّدني أربابُ الدنيا من كلّ شيء، وقعت في خـمسة ألوان من الغربة، فلما أوشكت جذوة الأمل تنطفئ وطأطأتُ رأسي يائسًا إذا بالآية الكريـمة ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/173) تغيثني قائلة: اقرأني جيدًا بتدبرٍ وإمعان، فشرعت أقرؤُها خـمسمائة مرة كل يوم، وكانتْ كلما تلوتُها تكشف عن بعض أنوارها وفيوضاتها الغزيرة…

مَن ضاقت به حياته الروحية والقلبية فلا شك أن الضنك والاضطراب بانتظاره، وأن الآلام تلو الآلام ستدهمه حتى إنه لا يجد مخرجًا من هذا الضيق وإن حاز الدنيا بأسرها.

وكلما تلقيتُ ذلك الدرسَ من تلك الآية الكريـمة أحسستُ بقوة معنوية عظيمة، وشعرتُ أنني أملك قوة أتـحدّى بها العالـم بأسره لا أعدائي الـماثلين أمام عينيّ فحسب”[3].

حقًّا إن من انشرح صدره هكذا لا يضرّه همٌّ ولا كدر، ولا يصده عن غايته سجنٌ أو تضييق؛ هذا هو الانشراح الحقيقي والفسحة والسَّعَة الحقيقية؛ أما مَن ضاقت به حياته الروحية والقلبية فلا شك أن الضنك والاضطراب بانتظاره، وأن الآلام تلو الآلام ستدهمه حتى إنه لا يجد مخرجًا من هذا الضيق وإن حاز الدنيا بأسرها.

أجل، إن مَن لم يستطع أن يرقى بعالمه الداخلي يتعذر عليه أن ينجو من معاناته وضيق صدره وإن ملك مصانع تنتج له يوميًّا آلاف اليخوت وأفخر السيارات، بل ولو أحرز كلَّ الإمكانيات المادية؛ أما الراحة والسعادة الحقيقية فهي ذلك الانشراح الذي يقذفه الله في قلب العبد، فإذا نزلت بهذا العبد مصائبُ كالجبال صهرَها في قلبه وأحالها إلى ألعاب نارية تبعث السعادة فيمن حوله.

*************

المصدر: فتح الله كولن، شد الرحال إلى غاية سامية، ترجمة عبد الله محمد عنتر، وعبد الرزاق أحمد، دار النيل، القاهرة،2015، صـ15-20.

ملحوظة: عنوان المقال من تصرف المحرر.

[1] سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة الحادية عشرة، النكتة الرابعة، ص 75.

[2] النسائي: السنن الكبرى، 9/212؛ الطبراني: المعجم الأوسط، 4/43؛ الحاكم: المستدرك، 1/730.

[3] بديع الزمان سعيد النورسي، الشعاعات، الشعاع الرابع، ص 67.