سؤال: إن ضعف العلاقات الاجتماعية بين الناس يزداد أثرُه يومًا بعد يوم، فنجد أنفسَنا نبتعد تدريجيًّا عن بعضنا، فما الموقف الذي ينبغي أن يتّخذه المؤمن المثالي تجاه هذا الأمر؟
الجواب: يؤكّد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بشدّة على أن المؤمنين إخوة، وأن عليهم أن يتعاونوا ويتساندوا فيما بينهم، حتى إنهما لم يتركا مجالًا لمزيدٍ من الكلام في هذا الشأن.. ومن ثَمّ لا يُتصوَّر من المؤمن الذي يرتبط قلبيًّا بالوحي الإلهي ألّا يكترث بمعاناة إخوانه، فضلًا عن أن يقف موقف المتفرّج على سقوطهم وضياعهم.. وممّا يؤكّد هذه الحقيقة بوضوحٍ هذا التحذيرُ الشديد الذي وجّهه لنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: “مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ“[1]، فالمؤمن الحقيقيّ هو الذي ينشغل بمشاكل إخوانه، ويشاركهم همومهم وأكدارهم وأحزانهم، ويشعر بآلامهم في قرارة نفسه، ولا يتوانى عن السؤال عن أحوالهم والاطمئنان عليهم، ومدِّ يد العون للمحتاجين منهم، وعيادة مريضهم، والتسرية عن المنكسرة قلوبهم، والسعي دائمًا لرفع معنوياتهم.. وهو ما يشير إليه الحديث الشريف: “الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا“[2].
في زمنٍ تمزّقنا فيه بفعل الانقسامات، نحن بأمسّ الحاجة إلى أولئك الذين يكونون بمثابة الملاط الذي يُشيّد به بناء المجتمع المتماسك، فيجمعون شتاته ويؤلّفون بين أجزائه من جديد.. وإنّ وصْفَ النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بأنهم “بنيانٌ مرصوصٌ” هو في الحقيقة إشارةٌ إلى المثل الأعلى الذي ينبغي أن نصبو إليه.
ولا يمكن لمن لا يتفاعل مع أحوال المؤمنين، ولا يراعي حقوق الأخوّة الإيمانية، أن يحقّق مثل هذا الهدف النبيل.
ومن ثمّ فليجتهد كلّ مؤمن أن يجعل من شخصيّته لبنةً في هذا البناء المتين، وليقم بما يُحيي روح الأخوّة ويصون وحدتها حيّةً نابضةً في جسد الأمة.
موقف المؤمن المثالي
لا يمكن أن يقتصر تفكيرُ المؤمن على نفسه فقط، أو أن يهتمّ بحياته الخاصة فحسب، فكما يجب عليه المحافظة على استقامته، فمن مسؤوليته أيضًا أن يُعين غيره على الثبات على الاستقامة.. وتتّسع دائرة هذه المسؤولية لتشمل مجالًا واسعًا يمتدّ من القضايا المتعلّقة بأسس الإيمان إلى دقائق الدين وتفاصيله، فمن واجب المؤمن أن يُدخل السرور على إخوانه بابتسامةٍ تَشرح صدورهم أو بهديّةٍ تُسعد قلوبهم، ويشاركهم أحزانهم، ويزيل العقبات من طريقهم.
من جانبٍ آخر إذا كان لدى أخيه شكٌّ يتعلّق بالدين فعليه أن يسعى لإزالته، وإذا كان يعاني من ضعفٍ في الإيمان فعليه أن يعمل على إيجاد حلٍّ له، وإذا عَلِق بالأرض فيجب أن يكون من أهم واجبات حياته أن يسعى للارتقاء به إلى السماء.
هذا هو موقف المؤمن المثالي؛ وهو السعي دائمًا ليكون نافعًا لمن حوله.. ولكن يجب أن نسلِّم بأن هذا المستوى من الإيثار تجاه الناس ليس في متناول كلِّ شخص، وخاصةً في عصرنا الحالي الذي تسود فيه الأنانية والفردية، وأصبح الوفاء فيه بمقتضيات حقّ الأخوّة أصعبَ من أيِّ وقتٍ مضى، ولهذا نحتاج أوّلًا إلى إيمانٍ راسخ، ثم تطوير شعور التعاطف لدينا، لنفهم أحوال الآخرين ومشاعرهم، وأن نكون أكثر حساسية تجاه مشاكل إخواننا.
يجب أن نتمكن من استشعار آلامهم بمجرد النظر إلى وجوههم، وأن نشعر بأوجاعهم التي لا يبوحون بها أمامنا، حتى عندما لا يرغبون في الكلام، يجب أن نتصرّف بذكاء الطبيب النفسي وفطنته، وأن نتعامل مع آلامهم وكأننا نُجري تحليلًا نفسيًّا لهم.. لكن كما ذكرتُ ليس هذا في متناول الجميع، فمَن يستطيع ذلك هو البطل الحقيقي في نظر الناس، وقبل ذلك في نظر الحق تعالى.
فلا يمكن للمؤمن أن يعيش حياةً متمركزةً حول ذاته فقط، أو أن ينشغل بوجوده فحسب، بل إنه يتجاوز ذاته ليشارك الآخرين مشاعرهم ويحسّ في قرارة نفسه بآلامهم ومعاناتهم. فلا يحصر اهتمامَه على السائرين في طريقه، أو الذين يشاركونه القِبلة نفسها.. فبقدر عمق إيمانه وسعة صدره يفتح قلبه للإنسانية جمعاء، ويسعى لاحتضان أصحاب الأفكار والمفاهيم المختلفة، ويعمل جاهدًا على إزالة معاناتهم قدر استطاعته.
إنه ينظر إلى الوجود بأكمله -على حدِّ تعبير بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله- على أنه “مهد الأخوة”؛ ولذلك يرى الجميع إخوةً له، نشؤوا معه في المهد نفسه، وسمعوا معه التهويدات نفسها، وبالتالي لا يقدر ألا يكترث بمشاكلهم وآلامهم، لا سيما إذا كانت المسألة تتعلّق بالإيمان، أي إرشادهم إلى الطريق المؤدّي إلى السعادة الأبدية، وإيصالهم إلى الله سبحانه وتعالى؛ فمن غير المعقول أن يستخفّ بهذا الواجب.
أفق الرحمة لدى المؤمن
لا ينبغي لنا أن نحرم أحدًا مِمّن حولنا من اهتمامنا ودعمنا، بل علينا أن نمدّ يد العون للجميع وفقًا لدرجة قربهم منا، ولا شكّ أن أكبر العون يكون لأقرب الناس إلينا، بعد ذلك نحدّد مراتب الناس وفقًا لقربهم، وأن نحسن إليهم قدر استطاعتنا.. فبعد أن أمر القرآن الكريم بعبادة الله وعدم الإشراك به؛ أمر بالإحسان إلى الوالدين أولًا، ثم إلى الأقارب.. بعد ذلك ذُكرت الفئات التي يجب الإحسان إليها بالترتيب، كما في قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/36). ومما يلفت الانتباه أن الآية الكريمة لم تُدرِج الأطفال ضمن هذه الفئات رغم أنهم من الفئات التي تحتاج إلى العون أكثر من غيرها؛ لأن الآباء والأمهات بحكم الفطرة يغمرون أبناءهم بالحب والحنان، ويضمونهم إلى صدورهم، ويضحون براحتهم ونومهم في سبيل رعايتهم والاهتمام بكلِّ شؤونهم، فلا حاجة لتشجيع خاصّ على الإحسان إليهم، وبما أن هناك احتمالًا لعدم تعلّق الأبناء بوالديهم أو أقاربهم بالدرجة نفسها، جعل الله تعالى رعاية حقوقهم وإكرامهم واجبًا علينا.
ومن الممكن تقييم العلاقات بين المؤمنين من هذا المنظور أيضًا، فهناك أشخاص نشأتم معهم في البيئة نفسها، وعلى الثقافة عينها؛ أناسٌ تعرفونهم وتعرفون أحوالهم، يشاركونكم الفكرة والغاية والطريق. بينكم وبينهم نقاطٌ مشتركة، ومصالح متبادلة، وبالتالي تشعرون تجاههم بمودة خالصة ومحبة صادقة، وتبادرون لدعمهم ومساعدتهم عند الحاجة دون تردد. لكن قد لا يكون من السهل الشعور بمثل هذه المودة الطبيعية الصادقة تجاه أشخاصٍ لا تعرفونهم أو لا يشاركونكم الرؤى العالمية المختلفة، ومع هذا فإن واجبنا الذي يقع على عاتقنا هو أن نستوفي إرادتنا حقها، وأن نفتح قلوبنا لهم، وأن نبذل ما في وسعنا من خير وإحسان تجاههم.
ولا يُتصوَّر أن نكون غير مبالين بالقضايا التي تمَس حال المسلمين أو ترتبط بمصير الإسلام خاصة، فإيماننا يحتّم علينا إذا وقع أيُّ إجراءٍ سلبيٍّ يتعلّق بالإسلام في أيِّ مكانٍ بالعالم فإنه يشحب لوننا، ويتمعّر وجهنا، وتضيق صدورنا، ونبادر إلى النظر فيما إذا كان هناك أيُّ شيءٍ يمكننا القيام به لتصحيح ذلك الوضع، ونسعى جاهدين إلى مشاركة إخواننا أحوالَهم.. ومع ذلك، فإن توسيع دائرة جهودنا ومسؤوليتنا لتشمل جميع الناس، ومدَّ يد العون لكل من يشاركنا القاسم المشترك للإنسانية -بغض النظر عما إذا كانوا يتوجّهون إلى القِبلة نفسها أم لا-؛ هو تعبيرٌ عن علوِّ الهمّة.
قد يعبر المثل القائل: “النار لا تُحرق إلا موضع سقوطها” عن نظرةٍ مقبولةٍ بين الناس، إلا أن هذا النمط من التفكير هو فهمٌ أنانيّ، لا يقبل به المؤمن أبدًا، فالشخص الذي ينفتح قلبُه على الإنسانية ولو قليلًا، لا يتألّم فقط بالنار التي تسقط في بيته، بل يحترق قلبه أيضًا بالنار التي تسقط في محيطه، وفي بيوت أصدقائه وأحبابه.. لا سيما أصحاب الأرواح الكاملة الذين يحملون الطبيعة النبوية ويحتضنون جميع الإنسانية، فالنار تحرقهم أينما سقطتْ؛ ولذا يسارعون لتقديم المساعدة عند وقوع أيِّ كارثةٍ في أيِّ مكانٍ بالعالم، سواء كانت فيضاناتٌ أو زلازل أو حرائق أو حروب، ويجتهدون لإزالتها قدر استطاعتهم، وحتى إن لم يتمكنوا من تقديم شيء فِعْلي بأيديهم، فإنهم يقفون إلى جانب الأشخاص المتضرِّرين بقلوبهم ودعواتهم ومشاعرهم.
حسبنا قِيَمنا الذاتية
لقد ظهرت تياراتٌ وفلسفاتٌ مثل النسوية والإنسانية والليبرالية في فتراتٍ معيّنةٍ من التاريخ للدفاع عن الحقوق التي انتُهكت.. ونحن أيضًا نرجع إلى مفاهيم مشابهةٍ بدافع الشعور بالنقص أحيانًا، بل ونحاول عرض بعض القضايا الدينية المثيرة للجدل بأسلوبٍ يخفّف من حدَّة الانتقادات والاعتراضات القائمة، وطمأنة مؤيِّدينا والمتعاطفين معنا، غير أنه في الحقيقة لا نحتاج لأيٍّ من هذه الأمور.
أوّلًا: إن الظلم والاضطهاد وما شابه ذلك من انتهاكاتٍ للحقوق التي شهدتها المجتمعاتُ الأخرى لم تحدث بنفس القدر في عالمنا. أجل، ربما كانت هناك بعضُ الممارسات الخاطئة في فتراتٍ معيّنة، ولكن بشكلٍ عام ساد جوٌّ من السكينة والعدالة في المجتمع.
ثانيًا: لقد وضع الإسلامُ الإنسانَ -سواء كان رجلًا أو امرأةً- في المكانة التي يستحقّها، ومَنَحَه كلّ الحقوق الواجبة، وإن انتهاكَ هذه الحقوقِ يُعدُّ ظلمًا للإنسان.
ثالثًا: لقد ظهرت هذه الأيديولوجيات السالفة الذكر كردِّ فعلٍ على الاضطهاد والظلم الذي حدث في التاريخ، لكن غالبًا ما يختلّ التوازن في الحركات القائمة على ردِّ الفعل.
فلا حاجة للاستسلام لعقدة النقص أو تبنّي أسلوبٍ دفاعيٍّ في الطرح، وما يقع على عاتقنا هو التمسّك بقيمنا، وتفعيل أوامر الدين فيما يتعلّق بحقوق الوالدين، وصلة الرحم، والأخوة، ومدّ يد العون للمحتاجين، والتصدق والإنفاق؛ ذلك أن القيمة التي يوليها الإسلامُ للإنسان، والأهميةَ التي يمنحها للتعاون، والحقوقَ التي يكفلها لكلٍّ من الرجل والمرأة؛ تتجاوز بكثيرٍ هذه الأيديولوجيات، فلا يوجد في عالمنا الفكري ما يجعلنا نشعر بالخزي والعار، ولذا فإني لا أُولي الكثيرَ من الاهتمام لهذه الأفكار المستوردة من الخارج، وأرى أنها بشكلٍ عام نوعٌ من الأوهام والفانتازيا، وأنصحُ بالابتعاد عنها.. ومع ذلك فإنني أُكنُّ كلَّ الاحترام للمناقشات والكتابات التي تصاحبها النية الحسنة، وتهدف إلى شرح بعض الحقائق إلى أولئك الذين يقدّرون مثل هذه المفاهيم والأفكار.
في النهاية يجب ألا نترك أحدًا يواجه مصيره بمفرده أو نحكم عليه بالعزلة، لا سيما في عالم اليوم الذي ضاعت فيه الهوية في المدن الكبيرة، وضعفت فيه العلاقات الاجتماعية، وزاد فيه الشعور بالوحدة.. إن الإنسان بطبيعتهِ عاجزٌ وضعيفٌ، قوّته وإمكاناته محدودةٌ، لكن همومَه كثيرةٌ، ومن المستحيل أن يبقى صامدًا دون مساعدة الآخرين ودعمهم، وإذا لم نقم بما يقع على عاتقنا في هذا الشأن، فسوف نكون مسؤولين أمام الله سبحانه وتعالى.
إذن، ينبغي لنا أن نبدأ بأقرب الناس حولنا، فنتفقّد أحوالهم، ونسأل عنهم، ونشاركهم همومهم، ولا نحكم على الناس بالوحدة.. علينا أن ننظر إلى مَن حولنا ببصيرةٍ وإمعانٍ، فنحاول أن نقرأ من نظراتهم وملامحهم وقسمات وجوههم، إن كانوا يعانون من ضيقٍ أو كرب.. وعندما يحتاجون إلينا ينبغي أن نكون بجانبهم، نساندهم ونمدّ لهم يد العون، ونسعى لتضميد جراحهم.. نحن مكلَّفون -على قدر استطاعتنا- أن نرعى الجميع، وأن نعمل على أن تكون أيدينا وقلوبنا مفتوحةً لهم على الدوام.. هذا ليس بالأمر الهين، لكن البطولة الحقيقية للمؤمن هي أن يتغلّب على هذا الأمر الصعب، فطوبى لمن اجتاز العقبات على أجمل ما يكون!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الطبراني: المعجم الأوسط، 1/151، 7/270؛ الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 4/356.
[2] صحيح البخاري، الصلاة، 88؛ صحيح مسلم، البر، 65.
