Reader Mode

الفتوة تعني الشباب، البسالة. ومعناها العرفي؛ جامعٌ لمزيج من المعاني والفعاليات،كالكرم والسخاء والعفة والأمانة والوفاء والرحمة والعلم والتواضع والتقوى.. وغيرها من الحقائق. وهي مقام من المقامات التي يمر عليها سالك الحق، ولونٌ من ألوان الفقر والفناء، وصوتٌ من أصوات الولاية.

والفتوة عنوان الانقطاع التام على خدمة الآخرين، وتحمّل أنواع الأذى والآلام دون إبداء أي ضجر، وهي بُعد عميق لسعة حُسن الخُلق، ولونٌ آخر للمروءة.

وأصل الفتوة، من الفتى، وهو الشاب الحديث السن. وعند البعض: هي رمز التصدي لأي نوع من أنواع الفساد، وعنوان العبودية الخالصة. والترجمة البليغة والبيان الصداح لهذا المعنى هي الآية الكريمة: ]إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا[ (الكهف: 13-14).

أما قوله تعالى: “قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ” (الأنبياء:60) فيبين قوة رجل الفتوة الحق، وتأثيره في المجتمع الذي يعيش فيه، وهو الذي همّته الإنسانية قاطبة، وأمة وحده، وشخصية تفوق الفردية.

أما ما ورد من كلمة فتى في قوله تعالى: “وَدَخَـلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ” (يوسف: 36) و”وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا” (يوسف:60) فهو ليس في معرض الإشادة بشجاعتهم وفتوتهم، بل هم شباب اعتياديون وربما أقل من ذلك، والأصح أنهم خدام مأمورون.

ولقد ذكر الكثيرون أقوالاً كثيرة حول الفتوة منذ عهد النور إلى الآن. فهي لدى بعضهم: ألاّ تنافر فقيراً ولا تعارض غنياً .. وآخرون قالوا: أن تنصف وتنتصف .. وآخرون: إمرار العمر في عداء شديد مع النفس.. وغيرهم: نسيان الفرد نفسه والتفكير بمن تبعه متضرعاً إلى الله في الدنيا والآخرة بـ(أمّتي، أمّتي).. وآخرون: القيام ضد أي باطل كان وكسر كل ما يسدّ الطريق إلى المعبود الحق من الأصنام.. وآخرون: تحمّل الأذى والمساءة التي تعود إلى نفسه وانتفاضته انتفاضة الأسد الهصور في الحقوق التي تخص الله سبحانه.. وآخرون: التأوه والأنين لأصغر تقصير يصدر من شخصه، وغض الطرف عما لدى الآخرين من آثام.. وأن يرى نفسه في أدنى مراتب العبودية، لدى بحثه عن مراتب الولاية للآخرين.. وأن تُقرّب مَن يَقصيك، وتُكرم من يؤذيك، وان يكون في المقدمة عند الخدمة والعمل وفي منتهى المؤخرة لدى أخذ الأجرة.

هذا وإن هناك من أرجع هذه الأوصاف إلى أربعة أسس، حسب بيان سيدنا الحيدر الكرار :

1-      العفو عند المقدرة.

2-      الحلم والأناة عند الغضب والحدة.

3-      الإحسان والإنصاف حتى للأعداء.

4-      الإيثار ولو في الخصاصة.

وفي الحقيقة إن حياة سيدنا علي t قد نسجت نسجاً دقيقاً على هذه الأسس.

أجل، إن معاملته بحق ابن ملجم  وعفوه عن المستسلم له وتألمه الشديد لدى سماعه بمقتل خصمه من الصحابة. وقضاء عمره بالإيثار، حتى كان يلبس ثوب الصيف في عزّ البرد والشتاء   فكان  مثالاً للفتوة في أحواله كلها، وفتى حقاً حتى قال عنه الرسول الأعظم : (لاَ فَتَى إِلاَّ عَلِىٌّ وَلاَ سَيْفَ إِلاَّ ذُو الْفِقَار) فقد وُلد طاهراً مطهّراً، وعاش نـزيهاً منـزّهاً، شجاعاً باسلاً، وارتحل عن الدنيا دون أن يتلوث بشيء منها. فقد كان متبعاً اتباعاً تاماً للجواب الذي تلقاه سيدنا موسى u من الحق تبارك وتعالى حول سؤاله عن الفتوة، حيث قال لكليم الله: “تعيد نفسك طاهرة كما تسلَّمْتها طاهرة”.

نعم إن أبرز أمارة للفتوة وأصلح مرقاة إلى الإنسان الكامل هو: توجيه جميع لطائف الروح المهيأة خِلقة لتقبل التوحيد وفكر الإسلام، إلى التوحيد الحقيقي، والانفتاح لسعة القلب ورحابته متجاوزاً الحظوظ النفسية والجسدية، مع الانغلاق التام على كل شيء سوى التوسل بالأسباب الذي هو من ضروريات توظيفه في الدنيا، وصدّ كل ما يمكن أن يزعزع رؤية الحق تعالى من فكر وشعور منذ البداية. فمن عجز في البداية عن إبراز هذه الفعالية، ولم ينسلخ عن ميول النفس والهوى والشيطان والميل إلى الدنيا ومحبتها وحظوظ النفس لن يبلغ ذروة الفتوة.

طريق كنـز الفتوة يمر من جبل (قاف)

أين منه من يتعب في السـهل البسيط

رَبَّنَا آتِنَا مِن لدُنكَ رَحمةً وَهيّئْ لَنَا مِنْ أَمرِنَا رَشَدًا، وصلّ وسلم على سيدنا محمد المقتدى وعلى آله وصحبه ذوي الإحسان والوفاء.

فهرس الكتاب

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts