الإخلاص هو الصدق، الصفاء، ما لا شائبة فيه، البعد عن الرياء. الكفّ عن كل ما يكدّر القلب، والعيش هكذا.. أو صفاء القلب، واستقامة الفكر، والبعد عن الأغراض الدنيوية في العلاقة مع الله، وإيفاء العبودية حقها.. هكذا عُرّف الإخلاص، بل يدور أغلب ما ذكره المشايخ الكرام فيما بعدُ من تعاريف حول ما ذكر.
الإخلاص في عبادة الفرد وطاعته، هو كفّه عن كل ما هو خارج عن أمره تعالى وإرادته وإحسانه، حافظاً للأسرار التي بين العبد والمعبود.. وقيامه بأعماله على أساس عرضها على الناقد البصير. وبتعبير آخر: هو قيام العبد بواجباته ومسؤولياته، لأن الله أمر بها، وابتغاء رضاه لدى أدائه لها، وتوجهه لألطافه الأخروية، لذا عُدّ من أهم صفات صفوة الصفوة الصادقين.
وعلى هذا الأساس، عُدّ الوفاء الصادق أصلاً ومنبعاً، والإخلاص زلالاً نابعاً منها. وقد بيّن ذلك سيد البيان الذي أوتي جوامع الكلم r بقوله: (مَن أخلص لله تعالى أربعين يوماً ظهرت ينابيعُ الحكمة على لسانه).
فالوفاء الصادق أُولى الأوصاف التي يتحلى بها عالمَ الأنبياء عليهم السلام. أما الإخلاص فهو أنور أبعاده. فهم منذ الولادة مُنحوا الإخلاص الذي يحاول غيرُهم الحصول عليه طوال حياتهم. والقرآن الكريم يذكّرنا بذلك لدى ذكره إخلاص نبي بقوله تعالى: ]إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا[ (مريم:51).
ومثلما أن كلاً من الوفاء الصادق والإخلاص صفات حياتية للأنبياء الكرام عليهم السلام، فكل منهما أيضاً وصف ضروري كالماء والهواء لممثلي دعوة النبوة. فامتلاك هاتين الخاصتين، والطيران بهذين الجناحين النورانيين، من أعظم منابع قوتهم. فالأُوَل يؤمنون أنهم لا يقدرون على تقديم خطوة واحدة من دون إخلاص، والآخرون عليهم بأن يؤمنوا أنهم لا يستطيعون ذلك.
وحقاً إن الوفاء الصادق والإخلاص عميقان إلى درجة أنّ أحد طرفيهما في قلب الإنسان والآخر لدى العناية الإلهية سبحانه، حتى أنه لم يشاهد أن بقي في الطريق ضائعاً من فتح أشرعة سفينته وخاض غمار هذه الأعماق وطار بذلك الجناح. ذلك لأنهم في ذمة الله. فإن ابتغاء رضاه سبحانه أفضل عنده من كثرة العمل ووفرة الثمرات. “لأن ذرة من عمل خالص أفضل عند الله من أطنان من الأعمال المشوبة”.
والإخلاص عمل قلبي. وإن الله يقدّر الأعمال وفق الميول القلبية كما في الحديث الشريف: (إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ).( )
والإخلاص وثيقة اعتماد يمنحها الله القلوب الطاهرة، فهي وثيقة سحرية تجعل القليل كثيراً والضحل عميقاً والعبادات والطاعات المحدودة غير محدودة. حتى يستطيع الإنسان بوساطتها أن يطلب أغلى ما في سـوق الدنيا والآخـرة. ويتمكن بفضلها أن يقابل بالاحترام والتوقير رغم كثرة الطالبين.
ولأجل هذه القوة الخفية للإخلاص، يقول الرسول r (أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْقَلِيلُ مِنَ الْعَمَلِ) وينبه أن تكون الأعمال خالصة لله (أخلِصُوا أعْمَالَكُمْ فَإن اللهَ لاَ يَقبَلُ منَ الْعَمَلِ إلاَّ مَا خَلَص).( )
فإن كان العمل جسداً فروحُه الإخلاص. وإن كان العمل جناحاً فجناحه الآخر الإخلاص. فلا جسد بلا روح، ولا يوصل إلى مكان بجناح واحد.
ويئن مولانا الرومي في كلامه الجميل:
بَايَـدَتْ إِخْـلاَص دَرْ جُملَه عَمل تَـا پَذِيرَد طَاعَتَتْ رَبِّ أَجَل
چُونْكِه إِخْلاص مُرغِ طَاعَترا جَنَاح بِي جَنَاح كُيْ مِي پَرِي أَوجِ فَلاَح
أي: عليك بالإخلاص في أعمالك وأطوارك كلها كي يقبل الرب الجليل طاعاتك؛ لأن الإخلاص جناح طير الطاعة، فكيف تطير إلى ساحة الفلاح دون جناح.
وكلام جميل آخر ليزيد البسطامي: لقد بذلت ما بوسعي فعبدت الله ثلاثين سنة. ثم سمعت هاتفاً يقول: “يا أبا يزيد إن خزائن الله ملآى بالعبادات. إن كنت تبغي الوصول إليه تعالى، استصغر نفسَك في باب الحق وكن مخلصاً في عملك” فانتبهت.
والإخلاص لدى البعض: التوقي عن ملاحظة الخَلق في العبادة والطاعة. وآخرون قالوا: نسيان رؤية الخلق كلياً. وآخرون: عدم تخطر الإخلاص نفسه.
نعم، الإخلاص لدى هؤلاء: إبعاد العمل عن كل ملاحظة وشائبة، ونسـيان جميع الحظوظ المادية والمعنوية بالمراقبة المستديمة.
والأصح في الإخلاص أنه: سرٌّ بين العبد والمعبود استودعه الله قلب من أحبّه من عباده.
ويستوي في نظر من تنبّه قلبُه بالإخلاص، المدح والذم، التعظيم والتحقير، معرفة الناس أو جهلهم به أو لأعماله، بل حتى ترقب الثواب والأجر… كل ذلك غير وارد عنده، لذا فأحوال أمثال هؤلاء الخفية والظاهرة سواء.
اللّهم اجعلنا من عبادك المخلِصين المخلَصين، وصلّ وسلّم على قدوة المخلَصين وآله وأصحابه المخلصين.