سؤال: حوادثُ قتلِ المشهورين والمعروفين إعلاميًّا في بلدنا تُلتصق عادةً بالمسلمين، فما تفسيركم لهذه المسألة؟
بادئ الأمر أؤكّد ما جاء في السؤال، فثمّة مشاهير وشخصيات بارزة في الصحافة والإعلام مثل “بحريّة أُوجُوقْ (Bahriye Üçok)”، و”طُورَانْ دُرْسُونْ (Turan Dursun)”، و”أُوغُورْ مُومْجُو (Uğur Mumcu)” راحتْ ضحيةً لجرائم مجهولة الفاعل، أُلصقت بالمسلمين نظرًا لهويات المجني عليهم[1]، ثم صار المسلمون هم القتلة في تلك الحوادث المقيتة، إذ سارعت وسائل الإعلام دون أن تدقّق في الأحداث وتحلّلها بإصدار الأحكام مستبقةً كشفَ حُجُب الأسرار التي من شأنها أن تبين لماذا وقع ما وقع، علمًا أن أجهزة الدولة المسؤولة تعلم أن المسلمين برآء من تلك الجرائم.
قُتل هؤلاء بأيادٍ محترفةٍ تدرَّبَتْ في منظمات استخبارية عالمية -لن أسمّيَها-، ولم يدَوِّن التاريخُ عن المجرم الحقيقي شيئًا، وهذا يشير إلى أنه مدعومٌ من دولٍ ومؤسسات لا قِبَل للدولة ذاتها بمواجهتها، أو أن هذه المؤسسات هي من خططت ونَفّذت.
إذًا لو قيل: لماذا تلصق تلك الجرائم المجهولة الفاعل بالمسلمين دون غيرهم، فالجواب:
1- هناك عامل مهمّ في توجيه ذلك الاتهام، إنه إثارة أجواء إرهابية تُلصَق بالمسلمين لزعزعة الثقة فيهم وإضعاف دورهم، وهذه الثقة وهذا الدور انكشف جليًّا في هذه الفترة؛ فمنهم من يخطط ليحول دون التوجه إلى الإسلام بعد أن تقبَّلَه العامَّةُ والنخبةُ معًا.
2- باعثٌ آخَر للاتّهام، إنّه دعوة الجيش للانقلاب تحت سِتَار تلك الحوادث، وفي تاريخ تركيا المعاصر ما يدلُّ أنّ مثلَ هذه النوعية من الاضطرابات المفتعلة سبقت انقلابات 1960م، و1971م، و1980م، وأنّ من لا يريدون نموّ بلدنا وتطورها هُم من خطّطَ.
3- يصعبُ بل يستحيل إثبات أن هذه الجرائم المجهولةَ الفاعلِ لم يرتكبها مسلمون؛ لأنّ المعدوم يستحيل إثباته، لذا علينا -نحن المسلمينَ- أن نؤكِّد أننا دائمًا مع أمتنا ودولتنا، وأن نتحدث عن رؤيتنا هذه في كلّ فرصة وساحة؛ فسيَخْتَبِرُنا الشعبُ والمسؤولون عشر سنوات أو عشرين، ويراقبوننا عن كَثَب، وإذا انتهت هذه الرقابة الطويلة إلى أنه لم يصدر عنا أي فعل أو بيان ضد الوطن والأمة فسيصدِّقوننا ويتقبَّلوننا، وأنا متفائل بهذا؛ واليوم مهما وُصف المسلمون وعُرِّفوا بأنهم مجرمون محتمَلون فإن الشعبَ عامةً والمسؤولين والمثقفين خاصّةً سيتجاوزون -إن شاء الله- تلك العقَبات، فتبطل تلك الحيل التي تقف وراءها بعض المنظمات الاستخباراتية العالمية وبعض الدول العظمى، ويستحيل قطعًا تحقيقُ آمالهم.
4- والآن إليكم النقطة التي هي أساس الجواب: فلا إرهاب في الإسلام، والإرهابي لا يمكن أن يكون مسلمًا، والمسلم لا يمكن أن يكون إرهابيًّا. أجل، إنّ للمسلم غايةً واحدة ًوحيدةً على منوالها ينسج أفكاره وأعماله كلّها في حياته، ويرسم خططها ويدوّنها ليبلغها، فما هي إلا رضا الله فحسب، ولا شيء سواه.
أجل، لو أن المسلم فهم الإسلام حقَّ الفهم فعليه ألا يفكّر إلا في رضا الله تعالى، وألا يتعلق بسواه ولو الجنةَ ونعيمَها من وجهٍ ما، فمِن أنفس ما قيل: “إنَّ مَن يعبدون الله للجنة وثمراتها الأخروية هم “عبيد اللذة” و”عبيد الجنة”، والمؤمن الحق يذهب مذهب يونس أمره:
حدَّثوني عن جنان
هي الحور والقصور والغلمان
هَبْهَا إلهي لمن يَشَاء
فأنتَ أنتَ الـغاية العلياء
نقطة مهمة: بينما يسير المسلم نحو هذا الهدف المبارك السامي يجب عليه أن يتحقق من مشروعية الوسائل والسبل المؤدية إليه؛ لأنَّ غايةً عظمى كهذه لا تُنال إلا بالوسائل المشروعة، ويستحيل بلوغها بالصياح والهتاف في الشوارع، أو بقتل البشر أيًّا كانوا، فلا يمكن الجمع بين الإرهاب والقتل والغصب والخطف وغيرها وبين الإسلام، أي يستحيل السير في هذا الطريق بقتل الناس؛ لذلك قررنا ابتداءً: “الإرهابي لا يمكن أن يكون مسلمًا، والمسلم يستحيل أن يكون إرهابيًّا”.
أجل، إنّ قتل النفس يَعدِلُ الشرك بالله عند ابن عباس رضي الله عنهما[2]، والقاتل ظلمًا يخلد في جهنم أبدًا عند بعضهم[3]، أي لن تُقبل توبته أبدًا؛ ولا موضع في العقيدة الإسلامية لما تخلفه مصيبتنا الكبرى اليوم الإرهاب: الأبرياء يُقتلون باستمرار، وتهدم المنازل والدور، وتُرمّل النساءُ، ويُيتّمُ الأطفال فلا أحد يعولهم، يقول الإمام النورسي رحمه الله رحمة واسعة في شرحه لأصول العدالة في الإسلام: “لو اجتمع في مكان واحد شخصٌ بريء وعشرةُ جُناة استوجبوا الموت، وكان في القصاص منهم ضرر قد يلحق بالبريء لَعُدّ القصاص هنا جريمة”[4]. أجل، يتعين في مفهوم العدالة المطلقة أن يكون الأمر هكذا.
ويمتنع أن نتذرّع بقاعدة “يُرتكب أخف الضررين لدفع أشدهما” من أجل القضاء على وجود من لا نشك في عداوتهم للإسلام، أما تضحية الفرد بنفسه في ساحة الحرب لمصلحة دينه ووطنه باختياره هو فهذا شيء آخر، فهذا مستثنى من القاعدة؛ لأنّ الأصل أن الإسلامَ يحرّم الانتحار مطلقًا.
والحاصل أنه يستحيل الجمع بين الإرهاب والإسلام، فالمسلم الذي جعل رضا الله تعالى غايته لا يمكن أن يقتل أيّ إنسان أيًّا كان، ولو كان يهدف من ذلك تمثيل الإسلام على مستوى الدولة، أو أن تكون دولته قدوةً لدول العالم كلها، أو أن تتبوأ مكانةً مهمّةً في التوازن العالمي، أو إن كان يقصد رضا ربه كالمحافظة على حقوق المسلمين لكن بوسائل غير مشروعة… كل هذا لا يبرّر القتل أبدًا.
والحاصل أقول مجددًا: إن الإرهابي لا يمكن أن يكون مسلمًا، والمسلم محالٌ أن يكون إرهابيًّا”.
[1] ” بحريّة أُوجُوقْ (1919-1990م): مؤرخة وسياسية تركية، تبنت بعض المزاعم المناهضة للمسلمين في تركيا مثل “عدم فرض الإسلام للحجاب والصيام” وقد أثارت تصريحاتها بهذا الشأن ردود فعل العامة، وصرحت بأنها تعرضت للعديد من التهديدات، وقد لقيت حفتها في السادس من أكتوبر/تشرين الأول (1990م) نتيجة لانفجار عبوة ناسفة، وقد تبنت العملية جماعة تدعى “الحركة الإسلامية”، لكن السيدة التي اعترفت بزرع العبوة الناسفة تم القبض عليها في مدينة “إِزْمِيرْ (İzmir)” وظهر أنها تنتمي إلى “حزب العمال الكردستاني (PKK)”.
“طُورَانْ دُرْسُونْ” (1934-1990م): كاتب ومفكر تركي وإمام ومفتي سابقًا، ولد عام (1934م) لعائلة جعفرية تابعة لمذهب الإمامية الاثنى عشرية، قام بنقد الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بشكل حاد في الكتب التي ألفها، وفي فترة توليه منصب الإفتاء ألحد واستقال من منصبه، ولقي مصرعه جراء تعرضه لمحاولة اغتيال أمام منزله في الرابع من سبتمبر/أيلول (1990م) وتبنى العملية جماعة تدعى “الحركة الإسلامية”.
“أُوغُورْ مُومْجُو” (1942-1993م): كاتب وصحفي وباحث تركي، كتب العديد من المقالات في مختلف الصحف اليسارية، وقد لقي مصرعه إثر عملية اغتيال بانفجار قنبلة بلاستيكية، علمًا بأنه قام بأبحاث ذات بعد عميق عن شبكة شرطية ومافيا وسياسية قبل أن يتم اغتياله، كما كان له العديد من الكتب والمقالات تدور حول تهريب السلاح ومحاولة اغتيال البابا ومنظمة “حزب العمال الكردستاني (PKK)” وغيرها من المنظمات الاستخباراتية، وقد تبنى عملية اغتياله “الحركة الإسلامية” و”جبهة تيارات الشرق الأكبر الإسلامية” و”حزب الله”.
[2] صحيح البخاري، تفسير القرآن، 25؛ صحيح مسلم، التفسير، 16-20.
[3] صحيح مسلم: التفسير، 17-19؛ الطبري: جامع البيان، 9/57-69.
[4]بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: المكتوبات، المكتوب الثاني والعشرون، المبحث الأول، الوجه الأول، ص 320.