سؤال: من علماء الاجتماع اليوم من يجزم أن الحرب بين أمريكا واليابان واقعة، ودليلهم التنافس الاقتصادي، فما رأيكم؟[1]
أنا أستبعد حربًا كهذه، ولا أزعم أنها مستحيلة، فلا أحد يعلم كيف تتجلّى المشيئةُ الإلهية، فينبغي التوازن في الحديث، لا سيما أمور المستقبل، فمن المفيد ترك باب الاحتمالات مفتوحًا ولو كنتَ متيقنًا مما تقول.
أما الحرب الأمريكية اليابانية فهي كالمستحيل لدى الطرفين؛ ولكن أترك باب الاحتمالات مفتوحًا، والدليل على أنها ليست واقعةً الآن أمور:
1- كبّد اليابانيون الأسطول الأمريكي خسارةً فادحةً عندما هجموا على القاعدة البحرية الأمريكية “بيرل هاربر ((Pearl Harbor” عام 1941م، وشجعهم على هذا انتصارات الحروب السابقة؛ لقد أكسبتهم مشاركتهم لإنجلترا في الحرب العالمية الأولى بعض المواقع، وانتصروا في الحرب البحرية على الروس، فعززت هذه الانتصارات المتتالية ثقةَ اليابانيين بأنفسهم أكثر مما ينبغي، فهددوا أمريكا التي لم يكن لها كيانٌ مَهيب يومئذ.
إن اختيار اليابانيين لوقت الهجوم ذكيّ ومناسب جدًّا؛ لأن المناخ يومئذ كان ملائمًا جدًّا للدول التي تريد أن تبلغ مكانةً ما سريعًا؛ فالعالم كان يغلي بالحرب العالمية الثانية التي اندلعت عام 1939م، ومعظم الدول العظمى في أزمة، وحلَّتْ بألمانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا كوارث حالت دون رؤية غيرها؛ فقد تلطخت الدنيا بالدماء وشغلت كل دولة بالبحث عن مخرج من هذه الكارثة بأقلّ الخسائر، أما اليابان فقد كانت قويّة نسبيًّا، فأقدمت على هذا الحدث التاريخي حين وجدت المناخ مناسبًا.
كان هذا هو الحدّ الفاصل بين الوجود والفناء، ولو أنّ اليابانيين واصلوا انتصاراتهم لتغيَّرَ حالهم اليوم جذريًّا، غير أنهم استسلموا تمامًا لـمّا ألقت الطائرات الأمريكية القنابل النووية على هيروشيما وناجزاكي عام 1945م، إذ استمرت الحرب ثلاث سنوات أو أربعًا فأنهكتهم وسلبتهم بعض قوتهم، وعجّلَ في استسلامهم هذا تدمير هذه الضربة للمدينتين ومقتلُ ما يقرب مائة ألف دفعةً واحدة، لقد اختاروا الوقت الصحيح لتنفيذ الخطة التي استهدفوا النصر بها، لكنّهم أخطؤوا التقدير، فأقعدَتْهم الهزيمة وكانوا يتوقعون النصر؛ فاستسلموا دون قيد أو شرط.
وظنّوا أنهم سيهزمون أمريكا، لا سيما أن علاقتهم بها يومئذ ليست بذاك، ولم تكن قوة أمريكا كما هي اليوم، فخاب فأل اليابان، وهذا ما دفعها لتكون أكثر حيطة وحذرًا في المراحل المقبلة.
وأما في المنطق العسكري فأخطأت اليابان بهذا الهجوم؛ لأن المهاجم لا بد أن يكون أقوى من خصمه بضعة أضعاف على الأقل، وهي ليست كذلك الآن كما السابق.
وهيئة أركان الحرب اليابانية خطَّأت يومئذ هجومًا كهذا ولم ترغب فيه، وشبهت أمريكا بأسدٍ رابضٍ في عرينه، وقالت: “لقد هيجتم الأسد الرابض، واستدعيتموه نحوكم” ولا شك أن التقييم والدراسة العسكرية للأحداث أمرٌ مهم، غير أن الحكومة اليابانية ما أدركت هذا الأمر يومئذٍ إلا بعد تجربة.
2- بين أمريكا واليابان تعاون اليوم، واقتعدت اليابان كرسيًّا بجانب أمريكا في دراسات الفضاء، وتسعى أمريكا للاستفادة القصوى من طاقات اليابان وخبرائها الفنيين ومهاراتهم للرقي بالتكنولوجيا إلى آفاق أخرى؛ فما دامت الدراسات المشتركة قائمةً، وليس من باعثٍ على التوترِ حقيقيٍّ مؤثرٍ فلن تجنحا إليه. أجل، إن المصلحة المشتركة عامل سِلْمٍ مهمّ جدًّا في العلاقات الدولية، ولن تغفل اليابان وأمريكا هذا الأمر.
3- مهما تقدّمت اليابان فنيًّا في بعض المجالات، فهي متأخرة عن أمريكا في الصناعة الحربية والخبرة العسكرية، والحال أن الخبرة الحربية ميدانها الممارسة، لا المناورات، وما تعلم العثمانيون فنون الحرب إلا بخوضها، فقد قاوموا بقوة وشدّة صغار الولاة البيزنطيين أوّلًا، ثم وسعوا عملهم تدريجيًّا؛ فتصدوا لبيزنطة، ثم بلغوا أواسط أوروبا، ومردُّ هذه الانتصارات عسكريًّا إلى خبرة العثمانيين في الجبهات.
والجنود الأمريكيون كذلك، خَبَرُوا الحرب بخوضها، وهذا لا يعني تصويب ما وقع ألبتة، ولكن تقريرًا للواقع نقول: إن لدى أمريكا اليوم أكثر جيوش العالم خبرة؛ لأنها خاضت حروبًا متتاليةً منذ زمن طويل: في فيتنام وكوريا وكوبا وأمريكا الجنوبية والعراق ثم الصومال… أجل، فهذه الساحات كانت ميدانًا للتطبيق العسكري، وهيئةُ الأركان الأمريكية تطرح إستراتيجيات حربيّة باستمرار، وهذه نتيجة حتمية لأن رحى الحرب عندها لا تتوقف.
ومثل هذا البحث العميق ميزة لأمريكا قطعًا، فعلى الكل -ومنهم اليابان- ألا يغفلوا هذه الميزة؛ ومهما تقدمت اليابان في مجالات أخرى لكن واقعها أضعف من أن ينافس أمريكا عددًا وعُدّةً، فعلى من يُلوّح بالحرب ولو كانت اليابان -وهو أراه بعيدًا- أن يقيّم الواقع جملةً، ولا أظنّ أن الخبراء العسكريين اليابانيين سيسمحون بمغامرة كهذه ضدّ أمريكا.
4- إنّ أمريكا ترغب بجذب اليابان إليها لأجل مصالحها، واتخاذها مخفرًا لتتفادى مواجهة اليابانيين، وهو أمر لا بُدّ منه لمواجهة الصين ودول المحيط الهادئ المستاءة الكارهة لها، وتشير معلومات زوّار الصين إلى أن المئات بل الآلاف من رجال الأعمال والصناعة الأمريكيين يعملون بهمّة في بكين الآن؛ وستنزع الصين لباس الشيوعية قريبًا وتقذفه بعيدًا، وستتغير كثيرًا تغيرًا قد يقترن بفوضى واضطرابات، وحينذاك ستفضل أمريكا العمل مع البديل؛ فهي لا تثق في الصين ثقةً تامَّة، وتُبقي اليابان احتياطًا، تستخدمها في مواضع إذا آن أوانها، وهذا حال الدول التي هي مخفر لأمريكا مثل إسرائيل، وكوبا، ومصر، وسوريا، وتركيا أيضًا؛ فما أبعد القول بأن أمريكا ستواجه اليابان التي رشحتها لتكون مخفرها بالمحيط الهادئ.
5- وفي آخر هذا التقييم نرى فائدةً في إيضاح الآتي:
لو اتفقت اليابان مع الصين أو غيرها من دول المحيط الهادئ، وقويت صناعتها الحربية، وضربت البورصة الأمريكية، فربما تتذرع أمريكا بهذا لمهاجمة اليابان، ولا بد لمحاولةٍ كهذه من مسوغات قوية مقنعة جدًّا، وأي هجوم لا يعتمد على حجة مقنعة سينزع عن أمريكا الثقة التي تتضاءل يومًا بعد يوم، وهي لا ترغب قطعًا في مواجهة دول العالم أجمع؛ لأنّ في ذلك نهايتها.
ملخّص القول: إن نشوبَ حربٍ كهذه دون سبب وجودي باعث عليها مغامرة لكل من اليابان وأمريكا، ولن تجد دولة حكيمة تُقْدمَ على مغامرة كهذه مجهولة العواقب ألبتة؛ فيُستبعد بل كأنه يستحيل احتمال الحرب بين أمريكا واليابان؛ والله أعلم، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
[1]جمع من حديث جرى في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام (1993م).