سؤال: تقولون: “لمجالس العلم والذكر قَدْرها في خدمات الربانيّين وحياتهم”، ما معنى هذه المقولة؟
الجواب: نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الربانيّين، وأن نسير على دربهم في كلِّ ما نأتي ونذر، فتلك أفضال الله سبحانه وتعالى يؤتي منها ما يشاء لمن يشاء، فلنستشفع بعجزنا وفقرنا راجين رحمته الواسعة، أي إننا إن كنا فاعلين فإنما نلتمس ثمرة الخدمة بافتقارنا لا بعلمنا وعملنا؛ اللهم ارحم عجزنا وضعفنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين إلى أن نلقاك.
تعلمون أن سيدنا المسيح عليه السلام بشّر بنبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته وسماهم “القِدِّيسِين”[1] أي الربانيين، فالربانيون مطهَّرون، وهم من لم تدنسهم الدنيا، ولم يركعوا لها قطّ ولم تلطّخ ثيابهم بأدنى قذر وإن عمت البلوى.
ولا يلزم من هذا أنهم معصومون عن الخطإ؛ فابن آدم منذ بَدْءِ نشأتِهِ خطَّاء، فكأنه والخطأ توأم؛ والحقّ أن هذه سنّة إلهية ولن تجد لسنة الله تبديلًا؛ وفي هذا يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ”[2]. أجل، كلٌّ يخطئ لكن لا بد من رفع هذا الخطإ وتخطيه كما أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: “وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ”[3]؛ أي أفضل مَن يخطئ هو من يُتْبِع السيئة بتوبةٍ تمحوها.
ولا نقصد بقولنا: “مُطَهَّر” من لم يرتكب إثمًا مطلقًا؛ بل نقصد أنهم وقفوا حياتهم ونذروها ابتغاء مرضاة الحقِّ تعالى؛ فهم يعلمون كيف ينهضون إذا ما عَثَروا، ويبحثون عن سبل التقرب إليه سبحانه إذا ما ابتعدوا عنه، ويبتغون رضاه تعالى ليل نهار، ويضطلعون بكل ضروريٍّ لإعلاء كلمة الله تعالى أي ليرتفع اسم الله الجليل كَرايةٍ خفّاقة في أنحاء الأرض كافّة، ويضحّون بكلِّ شيءٍ في هذا السبيل.
قد تزلُّ أقدامهم، أو يبعدون عن مساراتهم الخاصة، لكنهم يمتازون عن غيرهم بأنهم سرعان ما ينهضون مما غلبتهم عليه أنفسهم، إنهم ما إن يزلّون هكذا حتى يقولوا مثلما قال سيدنا آدم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/23)، أو مثلما قال سيدنا يونس بن متى عليه السلام: ﴿لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ: 21/87)؛ ويفرّون من ظلم النفس إلى الحق تعالى. أجل، إن الربانيين يقدسون الله دائمًا وينزهونه، ويردون عقبى كل شيء إليه، فهم بهذا يعرفون كيف يستثمرون كل أحوالهم؛ ليستنزلوا رحمة الحقِّ تعالى لأنفسهم، ويستمطروها في أرضهم، أو قل: إنّهم يقدّمون عجزهم وفقرهم وضعفهم وحاجاتهم بقولهم: “لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ”؛ ويدعون الله قائلًا: “إنّك أعلم بحالي، وغنيٌّ عن سؤالي، فامنن عليّ بما أنا مفتقرٌ إليه”.
الربانيُّ هو أيضًا من يستمسك بالطاعة، ويفرُّ من المعصية، ويكره أن يعود في الإثم بعد إذ نجَّاه الله منه كما يكره أن يُقذَف في النار، فاستبدال التوحيد بالشرك أسمى الـمُثُل ومنتهى الغايات لدى إنسان كهذا؛ لذا خصَّ سيدنا المسيح عليه السلام باسم “الربَّانِيِّين” أمّة محمد صلى الله عليه وسلم أقوى الأمم وآخرها، التي تُطهّر الأرض من الشرك ورجسه.
وللربانيين عهدان: أحدهما التجلي الأصلي والظهور الكلي، بدأ بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبلغ الذرى في فترات تَترى بمددٍ من العهد الأول فغدا دولًا ثم خلافة ترفرف رايتها على سلطنة الدول ومُلكها؛ والآخَر: أن يكون المسلمون في آخر الزمان كما بشّر به الصادق المصدوق في منزلتهم التي ينبغي أن يكونوا عليها.
وبهذا يضرب رجال البعث الثاني في آخر الزمان بسهمٍ من تسمية أمة محمد صلى الله عليه وسلم “الربَّانِيِّين”؛ فالربانيّون في العهد الأول جاؤوا إلى الدنيا فأدَّوا ما عليهم، ثم رحلوا كما قال الله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/134)؛ وصلتُنا بهم أن نذكرهم بالخير، وننمّي آثارهم باستغلالها واستثمارها، والأعنى في هذا حسنُ الانتفاع من الربانية الثانية.
وإذا ذُكِر الربّانيون، ذُكِر أربابُ حركة إحياء شاملة حيثما حلَّت أحيَتْ كأنّها الخضر عليه السلام، وتنهض مجدَّدًا برؤيةٍ مثاليّة سامية كخدمة الإنسانية والإيمان في آخر الزمان؛ حتى عَدَّ بعضُهم ظهورَ المهدي وجهًا من وجوه حركة الإحياء هذه.
ولا ريب أنَّ رسالات الأنبياء جسدت أكبر حركات الإحياء وأعظمها، وهذا ما دلّت عليه الآية الكريمة: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (سُورَةُ الأَنْفَالِ: 8/24). أجل، أجيبوا الدعوة لتُبْعَثَ فيكم من جديد الروحُ والمعنى والقلب والوجدان والحسّ والعاطفة والفكر والمنطق… والخلاصة أنه بعثٌ في كلِّ شيء، وبهذا يمكن القول: إنَّ أوسع حركات الإحياء نطاقًا تجسدت في رسالات الأنبياء، ثم خلَفهم عليها الربّانِيّون.
وأَهَمُّ ميزة للرّبانيين هي تتبُّعُ مجالس العلم والذكر، ولمجالسهم هذه رؤيةٌ مثالية وغاية سامية، أي إن مجالسهم ليـست عادةً، بل لها هدفٌ وغاية؛ فينبغي بحثها ودراستها بخصوصيّة أكثر، وما ينبغي أن تُسوَّى باجتماع الناس على مطعمٍ أو مشربٍ في مقهى أو مسرح أو رحلة.
إنّ مجالس العلم والذكر رفقةٌ يتذاكر فيها المشاعر والأفكار قومٌ يستهدفون التعمّق فيهما، وفي الحديث: “مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ”[4]، وفي هذه الرفقة تتحد المقاصد والرؤى دائمًا؛ فتخفق القلوب كلُّها بالقضية عينها، وبالحسّ والشعور نفسه، فتتآلف الأرواح بهذا التعارف كأنها روح واحدة: ترِدُ الانفعال نفسه، وتتنعّم وتتألم بنعيم أختها وألمها، وعلى هذا فليس من هذه الرفقة في شيءٍ اجتماعُ من يقلّون عند الفزع، ويكثرون عند الطمع.
إذًا هيهات أن نبلغ أفق الرفقة الحقيقية إلّا إن فدينا وطننا وغايتنا فاجتزنا معًا -دون أن تُضَارَّ رفقتُنا- معضلاتٍ عظيمةً يستوجب حلُّها عزمًا نبويًّا وصبرًا جميلًا، ولا يضيرنا عندئذٍ أن نستأنف خطّتنا ونظامنا -ولو فسَدا- كل عام سبعين مرة.
ولا بقاء لأي رفقة في الآخرة، ولا قيمة لها في الدنيا إن لم يكن لها أثرٌ في معرفة الإنسان نفسَه، وتكاملِه مع ذاته، وبلوغِه رضا الله تعالى، وفي سقوطه في التراب بذرةً لتنمو وتثمر في الجنة.
وفي هذا يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ، أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ… فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ، فَيَسْأَلُونَهُ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي غمِّ الدُّنْيَا، فَإِذَا قَالَ: أَمَا أَتَاكُمْ؟ قَالَوا: ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ”[5].
وكم جاء في الكتاب والسنّة أنَّ استمرار الرفقة في الآخرة رهنٌ بالرفقة في الدنيا، ويعزز هذا بإيجازٍ جامعٍ حديثُ: “المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ”[6] وكذا آية: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (سُورَةُ النِّسَاءِ: 4/69).
إنَّ رفقتنا رفقةٌ ثريَّةٌ منفتحة على أبعاد شتى، وذاتُ معان عميقة جدًّا، أهلها ذوو شعور واحد ووجهةٍ واحدة ودعوة واحدة يتقاسمون الأشياء نفسها، وتتعمق رفقتهم بالبحث في الأمور الإلهية، وسيرةِ مفخرة الإنسانية، والتوحيدِ والتهليل والتسبيح والتحميد؛ والنصيحةُ جانبٌ حيويٌّ مهمّ جدًّا فيها؛ إنها رفقة أخرويّة لا يحول القبر دونها، ولا يفرقها الموت. أجل، لا شيء في الدنيا مطلقًا يستطيع أن يمنع رفقةً قامت على أنه: “لو كان أحدنا في الشرق
والآخر في الغرب، لو كان أحدنا في الشمال والآخر في الجنوب، لو كان أحدنا في الآخرة والآخر في الدنيا، فإننا جميعًا معًا”[7].
والنصحُ والتذكيرُ أحدُ الأبعاد الثريّة الرحبة لهذه الرفقة، فالأخ يذكّر أخاه إذا أخطأ كما نذكّر مَن يمشي على الجليد بقولنا: “إياك، إيَّاك! فأنت على جليد قد تزلَق به قدمك، فتقع!”؛ لذا عُدَّ من ضروريات هذه الرفقة القيامُ بما تقتضيه الأخوة والوفاء بتذكير صديق أشرف على الهلاك، والإمساك به، والحيلولة دون سقوطه كأن نقول: “إياك، إيّاك! فزلة الدنيا قد تزل بك في الآخرة”.
تحقَّقَ هذا النوع من الرفقة والصداقة والأخوة والصحبة على أكمل وجهٍ في عهد رسول الله وفي “أصحاب” رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الأخوّة هي الآصرة بينه صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة الكرام الذين يتنفّسون رحابةَ صحبته، ويستفيدون مما فيها من وعظٍ وإرشاد، ويسلكون بالذكر والفكر سبيل التقرب إلى الله تعالى، ويدركون فلسفة الوتيرة الأبدية للصداقة.
وفي الكتب السماوية القديمة إشارات إلى أن المواعظ ركن ركين من البعث في آخر الزمان، فمجالس ملؤُها الوعظُ والإرشادُ لها قدرُها، لها لما لِلَقبِ “ناصح” من أهمية لدى رجال إحياء هذه الأمة في آخر الزمان.
أجل، لا يؤخذ بما في الكتب القديمة مطلقًا، بل هو محل نظر إلا إنْ عارض الكتابَ والسنةَ فتُردّ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه سلم خيّرنا فقال: “لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ، وَ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/136)”[8].
[1] الماوردي، أعلام النبوة، ص 150.
[2] سنن الترمذي، القيامة، 49؛ سنن ابن ماجه، الزهد، 30.
[3]سنن الترمذي، القيامة، 49؛ سنن ابن ماجه، الزهد، 30.
[4]صحيح مسلم، الذكر والدعاء، 38؛ سنن أبي داود، الوتر، 14.
[5] سنن النسائي، الجنائز، 9.
[6] صحيح البخاري، الأدب، 96؛ صحيح مسلم، البر، 165.
[7] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي، سيرة ذاتية، ص 674؛ الملاحق، ملحق أميرداغ -1 ص 160؛ الشعاعات، الشعاع الرابع عشر، ص 535.
[8]صحيح البخاري، الشهادات، 29.