سؤال: كيف ينبغي أن نفهم مسألة “الامتحان بالإرادة”؟
الجواب: إنَّ عالم الخلق هو ميدان البحث في مسائل كيان الإنسان الماديّ والجسماني مثل ملامح الوجه والتركيب البنيوي والأحياء، وعالم الأمر هو ميدان البحث في الأمور الروحية والمعنوية مثل الأصول الأربعة: الإرادة واللطيفة الربانية والوعي والشعور، وكذا السرّ والخفيّ والأخفى، فكلٌّ منها بعدٌ مهمّ من أبعاد اللطيفة الربانية.
مَعالِمُ عالم الأمرِ هذه لها صلة مباشرة بالروح؛ وبشائر دنيوية وأخرويّة لأرباب “السير والسلوك”، وطبعيٌّ أن تكون لمن يُكرَم بأمورٍ كهذه غايةٌ خالدة مُستهدفة، يكِدُّ في حياته كلِّها ليبلغَها.
وينبغي ألا يُنسى أبدًا أنَّ قدرةَ الإنسان على بلوغ هذه الغاية رهنٌ بكونه “إنسانًا كاملًا”، وأيًّا كانت هذه الغاية، أهي إشباع الشهوات الجسدية، أم التنعم بالجنة، أم رؤية جمال الله تعالى، لَن يتحقّق منها شيء إلا بتفعيل المشاعر والاستعدادات والطاقات الموهوبة له، ويشترطُ لتحقق هذا كثرة العمل والتدريبات؛ وبذلك يمكن أن يشعر الإنسان ويتمتع ويتلقى الواردات أي أن يكون “الإنسان الكامل” الذي تحدَّثَ عنه “عبدُ الكريم الجيلي” في كتابه المسمَّى بهذا الاسم.
أجل، إن الإيمان بالله هو أسمى غايةٍ للخلق وأعظمُ ثمار الفطرة الإنسانية، وتنبع عنه معرفةُ الله ثم محبتُه جل شأنه، فالذوقُ الروحاني، ثم ذروةُ هذا الذوق الروحاني وهو العشقُ، وأثره في روح العبد “الشوقُ” و”الوجدُ” وهو: الغياب عن شهود الذات، و”التواجدُ” أحيانًا لبلوغ الوجد، و”المواجدُ” وهي: أضعاف الوجد، و”الجذبُ”: وله طريق ومدخل آخر مغاير لهذه الأحوال، و”الانجذابُ” حيث لا تبقى إرادة، وآخِر الانجذاب ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (سُورَةُ الْحِجْرِ: 15/99)”… أجل، قد يصل الإنسان بهذه الأمور كلها إلى مستوى الإنسان الكامل غايةِ الخلق وثمرةِ الفطرة.
أما الإرادة فهي كما بيّنا من الأصول الأربعة للضمير في عالم الأمر، فهي كما عبّر عنها الإمام بديع الزمان بأسلوبه الأنفسِ السهل الممتنع: “الميلان أو التصرف في الميلان”[1]. أجل، إن هذه الحقيقة التي عبر عنها الأستاذ النورسي تعبيرًا وجيزًا جدًّا أفرد أعلامُ أئمة علم الكلام أمثال السيد الشريف الجرجاني والتفتازاني صفحاتٍ لبيانها وشرحها.
أجل، إنَّ الإرادة ميلانٌ محض أو تصرفٌ في الميلان، أي هي بذلُ الإنسان المخيّر بين شيئين جهدًا وسعيًا لاختيار أحدهما، وهي شرط عادي فقط، ولا تُلتمس أيّة علاقة بينه وبين النتيجة في إطار قانون السبب والنتيجة، وهذا كالعلاقة بين الإنارة والضغط على زر شبكة كهربائية تنير الدنيا، وكانهيار الأنظمة العملاقة أو قيامِها بنفخةٍ منكم.
وتبيَّن من الأمثلة أنَّه لا علاقة بين السبب والنتيجة قطعًا؛ إذ يستحيل أن يؤدي ذلك السبب إلى هذه النتيجة في الواقع وفي ظل الظروف الطبيعية، وتسمى هذه الإرادة “إرادةً نسبيَّةً اعتباريّة”.
وبعد هذا التمهيد الوجيز إليك مسألة الامتحان بالإرادة:
1- إننا نُمتحَن بإرادتنا، فكيف لأمرٍ صغيرٍ “الميلان أو التصرف في الميلان” أنْ يأتي بنتائج عظيمة كهذه؟ لا تناسب معقولًا ومنطقيًّا بين السبب والمسبَّب، وهذا يُظهر لنا عظمة الله المطلقة، ويبين بعدًا مهمًّا جدًّا من أبعاد هذه العظمة، وربما أخطأتُ بإسناد لفظ “البُعد” إلى الله تعالى، لأنه لفظٌ يعبرُ عن الكمّ والكيفية، غفرانك اللهم وعفوك إن أخطأت… أجل، فكما ذكر الإمام بديعُ الزمان: إنّ خروج شجرة صنوبر عظيمة من بذرة صغيرة جدًّا، وخروج الفرخ من البيضة -أو بعبارة أدقّ “من عقدة حياتية صغيرة جدًّا داخل البيضة- كلُّ هذه تجلياتُ قدرةِ الله تعالى وقوته[2].
وما إرادتنا إلا شيءٌ كهذا، أي إنَّ دورَ البذرة أو العقدة الحياتية في الشجرةِ والفرخِ أيًّا كان هو أيضًا دور إرادتنا في الأمورِ التي نقوم بها وفي نتائجِها مهما كانت عظيمة، والحقيقة إن كلًّا منها يدل على حقيقة “الله أكبر”، لذا نردِّدُ “الله أكبر” أو نسمعها ثلاثين مرةً على المآذن خمس مرات في اليوم، بل إن المؤمنين الذين يرقَون في أفق “هل من مزيد؟” لا يكتفون بهذا؛ فيكبِّرون في أعقاب كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة قائلين “الله أكبر”، ليعلنوا هذه الحقيقة مرّةً أخرى.
2- أيًّا كانت ماهية الإرادة، فلا بدّ من اعتبارها والاعتداد بها طالما علّقَ الله تعالى بعض الأشياء عليها؛ لأنّه تعالى قدَّر مستقبلنا وفقًا لإرادتنا، أي كأن الإرادة خطة ومشروع بالنسبة لمستقبلنا؛ ولما قدَرْنا نحن أهلَ السنة الإرادةَ حقَّ قدرها حققنا التوازن وتجنبنا إفراط المعتزلة وتفريط الجبرية. أجل، إن بعضهم يزعمُ أنه لا قيمة للإرادة مطلقًا، ومنهم من يرى أن الإرادة هي كلُّ شيء، حتى إن بعضهم يزعم أن لها وجودًا خارجيًّا”، أما أهل السنة فإنهم يقولون: الإرادة أمر اعتباري، وما دام الله جل جلاله علَّقَ أشياء كثيرة على الإرادة، فلا نلتفت ولا ننخدع بصغر الإرادة ولا بعظم الخلق والمخلوق، وبهذه الرؤية ننجح في الامتحان ونبلغ درجة الاستقامة في الفكر.
إننا أهل السنة بهذا نقدُر الإرادة قدرها وننظر إلى المستقبل والذنوب من وجهة النظر هذه.
3- استخدام الإرادة في الوجهة التي شرعها الله أمرٌ مهم جدًّا؛ فإن كنتم تسعون باستماتة في سبيل الدعوة التي تدافعون عنها لكنكم تبخسون إرادتكم حقَّها، ولم تستخدموها بتوازن ولم تغذّوها بعناصر تقوِّيها، فمن الممكن أن تقعوا في أخطاء لا عاصم منها؛ أي ستخفقون في امتحان الإرادة إن اجتهدتم دون أن تعتمدوا طرز عصر السعادة وتُراعوا الظروفَ الجارية وعنصرَ الإنسان وإرادته، وقلتم: “سنتظاهر من أجل خدمة الدين، ونناضل بالسلاح، ونجرب الطرق السياسية، ونقاوم العالم بقوَّةٍ وقسوةٍ، ونمضي نحو الهدف من هذا الطريق”؛ إنه ما ينبغي أن تصطدم الإرادة بالفراغات المنطقية والحسية، بل ينبغي أن تُمَدَّ دائمًا بعناصر داعمة متنوعة، وأن تتآزرَ الإرادةُ والشعور مطلقًا في هذا الاتجاه، لتصل إلى عمق أبلغ، وهنا قد تُعزَّر الإرادة بِحِرَاكٍ فاعلٍ من لدن اللطيفة الربانية التي هي مهبط الوحي والإلهام.
عندئذ ستصل الإرادة تحت سُرُج الوحي أو الإلهام النيِّرة إلى أبعاد متنوعة، سواء في مجال الخدمة أو العبودية، فيضاعف الله أجر العبادة والخدمة الواحدة منها آلافًا، ويتحقق النجاح في الامتحان بخدمات إرادية من هذا القبيل، أعني تلك التي تتم دون تردٍّ في الفراغات المنطقية والحسية.
4- ومن أبعاد المسألة من حيث العلاقة بين الإرادة والامتحان: أنْ نقومَ بما علينا، ونكفّ قطعًا عما هو من شأن الربوبية. أجل، فهذه أيضًا مسألة إرادة؛ لأنّ طلبَنَا لأمورٍ لا يقوم بها إلا الله أمرٌ يفوق إرادتنا، ويفضي إلى التردي في اليأس ونخفق في الامتحان؛ ولينظرْ إلى هذا الأمر أيضًا في ضوء ما ذكر الإمام بديع الزمان أن “جلال الدين خوارزم شاه” كان في طريقه إلى الحرب فقال له الوزراء: “ليُظْهِرنَّك الله على عدوك، ولينصرنك عليهم”، فأجابهم: “عليَّ أنْ أجاهد في سبيل الله طاعةً لأمره سبحانه، ولا حقَّ لي فيما هو من شؤونه ولم أُكلّف به؛ فالنصر والهزيمة بتقديره سبحانه”[3].
أجل، لطالما حملت ظروفُ الماضي القريب في هذا البلد أمثالَ محمد عاكف وسليمان نظيف على ضروبٍ من اليأس؛ ولعلّ عدم استيعاب مسألتنا هذه من وجوهها كلّها أودى بقامات سامقة في اليأس يومئذ، “يوم أن كثرت هزائم أمتنا” كما قال نجيب فاضل.
إذًا علينا القيام بمهمة العبودية؛ فتصرُّفٌ يتضمن المساومة في معاملتنا مع الله مثل: “هل تفعل لي كذا إن فعلتُ كذا” إسفافٌ، لا يمكن تصوره في باب العبودية أبدًا، فلنقم بواجباتنا لعلنا نفوز في امتحان الإرادة ما لم نقحم أنفسنا في شأن الربوبية.
وقد يرد سؤال: “أليست الإرادة ذاتها طريقًا للنجاح في امتحان الإرادة؟” أجل، يكون النجاح في امتحان الإرادة بالإرادة أيضًا؛ فوجب شحذ الإرادة دائمًا، والدعاء والاستغفار عنصران مهمان جدًّا، يقول الأستاذ النورسي: “إن الدعاء والتوكل يمدان ميلان الخير بقوة عظيمة، كما أن الاستغفار والتوبة يكسران ميلان الشر، ويحدان من تجاوزه”[4].
إن الإنسان أحيط وطُوّق تطويقًا بالشهوات التي حُفَّت بها جهنّم -كما جاء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم- أي بشهوة الطعام والشراب والنوم والدعة والخواطر والمشاعر المثيرة لرغباته الجسمية، حتى إنّ أيَّ خطوة في هذا الاتجاه ربما تكون هي نفسها ضياعًا وانغماسًا في خضمّ الشهوات، فمن علِقَ بأي منها وقع فريسةً لنفسه الأمارة وهلك، وسيأتيه يوم يكون فيه ضعيفًا أسيرًا لها كليّةً، والاستغفار كتعويذة تجتَثّ جذور كل أنواع الشر وكل ميلانٍ إليه.
نعم، إنَّ الاستغفارَ الذي يجتثُّ جذورَ الميلان إلى الشرِّ هو: الندمُ على الذنوب السابقة، والثبات على الاستقامة الراهنة، والعزم على عدم العودة إلى الذنوب في المستقبل، والإصرارُ على هذا، والأهمُّ هو تعزيزُ هذا، أي شعور الوجدان التامُّ بالتوجُّه إلى الله تعالى.
أما تعزيز الميل إلى الخير بالدعاء، فالقرآن الكريم يحثّنا عليه في مواضع عدَّة، منها: قوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (سُورَةُ غَافِرٍ: 40/60)، وقوله : ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/186)، أي حذارِ أن ييأس عبادي؛ فأنا أقربُ إليهم من حبل الوريد، فإن عجزوا عن الدعاء العملي فعليهم بالقولي، فإن عجزوا فليتوجهوا إليَّ بقلوبهم، أي إن كان ما يقولونه بألسنتهم لا يطمئن نفوسهم فليسلموا أنفسهم إلى سَعَةِ ضمائرهم، ويقولوا:
“إلهي! سألتك ببعض الأدعية ما سألتُ وما أكثر ما سألَكَهُ الأنبياء والأصفياء والأولياء والمقربون والأبرار مما ينبغي أن أسألكه ولم أفعل لعجزي عن معرفتها وإدراكها، وهذا عبدك يتأمَّلُ هذا كلّه، ويتوجَّهُ إليك ثانيةً بذراته كلّها، ويقف على أعتاب باب رحمتك وكلّه أنينٌ”.
أجل، علينا أن نعلوَ بهممنا، ونوجِّه وجوهنا لربنا ببصيرة عميقة أي إنه توجّهٌ لغني مطلق لا تنقص خزائنه مثقال ذرة ولو وَهَبَنا جنانًا يوميًّا لا إلى مخلوقٍ عاجزٍ ضعيف.
هذا والحقيقة المذكورة في الآية الكريمة: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ (سُورَةُ الفُرْقَانِ: 25/77) تكشف أن توجُّهَ الإنسانِ إلى اللهِ بالدعاءِ جانبٌ مهمٌّ جدًّا؛ لأن الدعاء يكاد يكون أخلص العبادات؛ فبعض العبادات عُرْضة للرياء والسمعة، بل قد تُؤدَّى كَرْهًا بمقتضى ما يظهر من أسباب، أمَّا الدعاء فهو سلاح نتوشَّحُه عندما تتهاوى الأسباب جذريًّا، فلا ينبغي الاعتماد على الأسباب في الدعاء، ولا يدخله الرياء والسمعة غالبًا، إذ يتوجه الداعي بقلبه أجمع حيث لا أحد معه مطلقًا، يمدّ يديه وهو يتلَّوى ويتضرَّع ويبتهل إلى ربه تعالى ساجدًا قد أَغرقت عيونُه مُصَلّاه.
ودعاء كهذا يعزز الميل إلى الخير، أي يُكسب إرادة الإنسان القوة والقدرة على فعل الخيرات، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر في اليوم سبعين[5] أو مائة[6] مرة، ويلازم الدعاء في شؤونه كلّها عند كل حالة من أحواله تقريبًا، بدءًا بسماعه صياح الديك إلى ارتدائه ثوبًا جديدًا، وهكذا يمكن أن نصبح يومًا فيومًا أهلًا للدعاء والاستغفار بملازمتنا لهما، ولو بأن نُكره أنفسنا قليلًا بادئ الأمر، فهذه الأمور كلّها من الامتحان بالإرادة في مقام العبودية.
ولـ”يونس أَمْرَه” مقطوعة في الإرادة يحسن أن نختم بها:
وأُقعِدتُ لَمَّا غلبَتْني نفسٌ قد عتتْ جَشِعةٌ لا تشبع من دنيا بها رتعَتْ
عميَتْ إذ ما قميصَ الغفلة ارتدَتْ فغدتْ عاجزةً جاهلةً بأن دنياها انقضت
ربّ هل أَسلمَ مَن لقميص الغفلة ارتدى وغدا يتبع أمر النفس والهوَى الرَّدَى؟
يكسب ما يكسب ثم يفنى ويضنُّ بالمثقالِ في أمر الهدى
مولاي ارفع غفلةً قد غشيت عيْنِي ولا تسوّد الوجهَ إذا ورَدت
فهلمَّ واستمسكْ بنصح يونُس المصيب إذ ليس لذي الدنيا يوم القيامة نصيب
[1] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي، الكلمات، الكلمة السادسة والعشرون، المبحث الثاني، سادسه ص 535.
[2] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي، الكلمات، الكلمة الثالثة والعشرون، المبحث الثاني، النكتة الثانية ص 359.
[3] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي، اللمعات، اللمعة السابعة عشرة، المذكرة الثالثة عشرة، أولها ص 179-180.
[4]بديع الزمان سعيد النُّورْسِي، الكلمات، الكلمة السادسة والعشرون، المبحث الثاني، ص 536.
[5] صحيح البخاري، الدعوات، 3؛ سنن الترمذي، تفسير القرآن، 47؛ سنن أبي داود، الوتر، 26.
[6] صحيح مسلم، الذكر، 41؛ سنن الترمذي، تفسير القرآن، 47؛ سنن ابن ماجه، الأدب، 57.