سؤال: انطلاقًا من القواسم المشتركة بين الأديان انتشر في الغرب: “أنَّ مصدرَ الأديانِ كلّها واحدٌ، فلا بد أن نوحِّدها في دينٍ واحد”؛ فكيف ينبغي أن يكون موقفنا من تلك الأفكار؟
الجواب: بادئ ذي بدء أريد أن أبين أن هذا الأمر ليس مشكلتنا نحن، بل مشكلة من يرون الأديان متعارضة؛ إذ إننا لا نرى اختلافًا بين اليهودية والنصرانية وبين الإسلام من حيثُ المصدر، بل العكس هو الصّواب، فنحن نطلق عليهم اسم “أهل الكتاب” كما جاء في الكتاب والسنة، ونسعى إلى الانضباط بهذا المنهج؛ فيجوز الزواج بالنصرانية أما الملحدة فلا، ويجوز أكل ما يذبحه اليهودي أيضًا… وعلى هذا فإنّ سيدَنا عمر رضي الله عنه سنَّ بالمجوس سُنَّةَ أهل الكتاب؛ لأن مِنْ أمَّهات عقائدهم ما هو قريبٌ من العقيدة الإسلامية، حتى إنَّ ثمة علماء أفاضل في يومنا هذا مثل “محمد حميد الله” يرون هذا الرأي في الديانة البراهمانية، وألحقَ بعضُهم الفئةَ البوذيّة بهذا الحكم أيضًا.
إن كان ما قاله الباحثون صحيحًا؛ كان “بوذا” مصلحًا مثل “مارتين لوثر (Martin Luther)”، وعليه فقد تكون البوذيّة مذهبًا في البراهمانية؛ ودلَّت دراساتهم أنَّ البوذيَّة استلهمت الأخلاق من البراهمانية، وجعلت منها نظامًا وطوَّرَتْها، ولم تستلهم الجوانب النظريّة، وإذا كانت البوذية هكذا، فإن إطلاق لفظ “دين” على نظام بهذا المعنى محلّ نزاع؛ لأن الدين اصطلاحًا: “وضعٌ إلهيّ سائقٌ لذوي العقول باختيارهم المحمودِ إلى ما هو خيرٌ لهم بالذات”؛ أمَّا لغةً: فيمكن أن يُطلَق على هذا النظام اسم “الدين” بمعنى السبيل أو النظام أو المذهب وإن لم يطلق عليه اصطلاحًا، ومع هذا فالمسألة قابلةٌ للجدل، ومن يدري فلعلّ للنظام البوذيّ أصلًا كسائر الديانات الإلهية، وقد يكون دينًا مختلفًا عن البراهمانية.
وللحديث عن هذا الموضوع أسرد إليكم أمرًا آخر استطرادًا: لو لم يحدثنا القرآن الكريم عن المسيحية الخالصة وعن عيسى عليه السلام، فكم كنَّا سنعاني لنفهمَها بصورتها القائمة المحرَّفة، كنا سنعاني كثيرًا، وكان سيستحيل علينا بيان مفهوم “التثليث” أو “الأقانيم الثلاثة” التي تُختصَر بنحو “واحد في ثلاثة، وثلاثة في واحد”، ولو لم يقدِّم القرآن الكريم بيانًا جليًّا عن كلٍّ من سادتنا موسى وهارون وسليمان وداود عليهم السلام لتعذّرت معرفة الماهية الحقيقية لهؤلاء الرسل الكرام كما بيّنتها عقيدتنا؛ فالمصادر اليهوديّة تزعم مثلًا أنّ بعضهم فيلسوف، وبعضهم -معاذ الله- سِكِّير، وبعضهم زانٍ يزني ببناته -حاشا وكلا-… إذًا لا يمكن أن يُطلق “دين” على مفهومٍ ينسِب إلى الرسل والأنبياء أشياءَ لن يفعلها حتى أدنأ الناس وأحقرهم في العالم؛ ومن ثمّ يمكن القول: من الممكن أن يكون للبوذية أصل حق إلا أنّها تعرّضت لعملية التحريفِ والتبديلِ كالمسيحية واليهودية.
هل حدث هذا للبوذية فحسب؟.. لا، فهذا “سقراط” مثلًا، لا تُعْرَف أفكاره من كتاباته هو؛ لأن طلابه هم من نقلوا كلَّ شيء عنه، فكم تتلمذ “أفلاطون” على يد “سقراط”، وإلى أيِّ مدى فهِم أستاذَه، ونقل إلينا ما أخذه عنه؟ كل هذه مجاهيل، وَلَدَى النظرِ إلى أفكارِهِ العامَّة نجدُ أنَّه كان مؤمنًا بالله.
أجل، لطالما فقدتِ الأفكار صفاءها ونقاءها الأول بمرور الزمن إبَّانَ تداولها بين الأفراد والأجيال، لو أن الأمر وقف عند هذا الحد، لكن يحتمل أن مدلولها أيضًا أصابه التغيير عدا فقدانها صفاءها في التعبير؛ إن هذا لهو أحد أنماط التحريف حتى وإن لم يكن بسوء نية.
ومن هذه الأمور: أنه يتعذر توقّع ما آلَ إليه النهجُ الروحيّ للمسيح عليه السلام بأكمله حينما اصطدم بوثنية “روما”، وبوسعكم مشاهدة تلك الحقيقة المرة واضحةً حين تدخلون أية كنيسة؛ ومن ذلك أنّ مفهوم المسيحية المحرَّفة للألوهية يقول: الإله خاملٌ، وعليه أن يدخل في السيدة مريم ثم يخرج منها حتى يصير إلهًا فاعلًا ويتحول إلى المسيح، ويغدو المسيح هو الفاعل الحقيقي أصلًا، فهو يفعل كل ما بوسعه من أجل الإنسانية، بل يضحي بنفسه إذا لم يبقَ لديه ما يفعله، ويحين الوقت ليغدو أضحية(!).
ونعلم أن اليهود يقولون أشياء كتلك في عزير عليه السلام، وهذا يعني أن مثل تلك الحقائق التي تشبه الماس قد يؤدّي الخطأ في تدوينها إلى خطإٍ في نقلها للأجيال القادمة، أمّا الإسلام فنصوصُه مدوَّنة على أكمل وجهٍ، واللهُ تعالى قد تكفَّل بحفظ كتابه، ومع هذا قد تتسلل مثل هذه النوعية من المعتقدات إلى بعض أتباعه، من ذلك نسبة الألوهية إلى سيدنا عليّ رضي الله عنه؛ وهذا كأنه العقيدة المسيحية التي ألمحنا إليها آنفًا، فسيدنا عليٌّ على هذا هو الألوهية الفاعلة -حاشا لله-، وما إرسالُ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ونزولُ القرآن الكريم وغير ذلك سوى تهيئة لسيدنا علي رضي الله عنه، وهو رضي الله عنه صاحب مقام الجمع، فاجتمع في كيانه كل شيء ومثّله تمثيلًا، ثم تَقاسمَ هذه القوة من ذريته الأئمةُ الاثنا عشر؛ وستجتمع تدريجيًّا تامّةً في الإمام المنتظر باعتباره خاتم الأولياء، وهو الذي سيكشف عن الـثلاثمائة أو الأربعمائة آية الناقصة من القرآن، وستظهر الحقيقة، وتتجلى تجليًا كاملًا مرةً أخرى (!!).
ويستحيل الجمع بين شيءٍ من هذه الادعاءات الباطلة وأصول الإسلام، وما أودى بهؤلاء في هذه الهوَّة سوى الجهل والتعصّب الأعمى، ولولا اتفاق الأمة وإجماعها، وجهدها الممتد منذ أربعة عشر قرنًا لعانينا كثيرًا في فهم حقيقة سيدنا علي رضي الله عنه.
إذًا، وإن تردَّى كل واحد من المسيحية واليهودية والبوذيّة والمجوسية والبراهمانية في هوّة التحريف والتبديل إلا أن لها أصولًا مشتركة قد اتفقت عليها، منها: التوحيد والنبوة والحشر والعدل والعبودية ودفن الموتى والتستر… إلخ؛ فجُلُّ الأديان تتّفق على دفن الأموات عدا شواذَّ خرجوا على أعرافٍ امتدّت عصورًا طويلة، وأوصوا أن “أَحرقوا جسدي”، وأتباع معظم الأديان يرتضون التستر ويعملون به، بل إن كثيرًا من نساء اليهود في بلدان العالم كنّ يغطّين رؤوسهن حتى وقت قريب؛ إذًا ثمة مجموعة من القيم المشتركة تتفق عليها الأديان، ولا ريب أن كثيرًا من أحكامها وقع فيه تحريف وتغيير وإن لم يحدث مثل هذا في الإسلام.
وعلى هذا يتعذّر تمييزُ ما جاء من عند الله عن غيره أصولًا وفروعًا، وقد أنزل الله جل جلاله الأصول التي رضيها على كلّ نبيّ أرسله خلفًا لغيره من الأنبياء، ونسخ ما أراد نسخه من الفروع، وقد أرسل سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتمًا للأنبياء، فحمل مهمة التصحيح والتجديد والتأسيس من خلال الكتاب والسنة.
أجل، إنه مصحِّح لأنه صحّح ما أصابه التحريف في الشرائع السابقة، وهو مجدِّدٌ غيّر كثيرًا من الأحكام لتناسب تغير الأحوال والأزمان، وهو مؤسّس أسّس شرعًا جلُّه جديد من الألف إلى الياء؛ إذًا لا حاجة ألبتة للسعي إلى توحيد الأديان من جديد؛ إن الإسلام -الدينَ الذي شرعه الله- هو اسمٌ لهذا الأمر الذي يفكّرون في تحقيقه، وفي هذه الآيات بيان لهذه الحقيقة: ﴿اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 5/3)، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/85)، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/19).
وفي قاعدة “شرعُ مَن قبلنا شرعٌ لنا ما لم يرِد ناسخ”، مؤشرٌ آخر يشير إلى أنه لا حاجة لأمرٍ كهذا.
وهذا الضرب من الفكر والدراسات لا يُحظر إن كان باسم الثقافة لا باسم الدين؛ لأن الدين شيءٌ، والثقافة شيء آخر، ولا يمكن أن نعدّ الدين والثقافة شيئًا واحدًا مهما تضمّنت الثقافة أمورًا تصدر من الدين بل تتغذّى منه، فهذه الأفكار وإن أفادت في الدراسات العلمية والثقافية والحضارية إلا أنها دينيًّا تشبه في التباسها لغة الطقوس الهندية القديمة “السنسكريتية”، فهي عبثٌ محضٌ.
وآخر ما هنا أن هذه الأفكار طُرِقت في عصور خاليةٍ ودراسات سعت لتوحيد الأديان، وباءت جميعها بالفشل في أهدافها، ولعل “أكبر شاه” ذو نيّة حسنة، لكنه إنسان خضع لتأثير الهندوس وقال: “لنأخذ من كلّ دينٍ شيئًا، ونجمع بينها”، فنجم عن فعله هذا الزجّ بقامةٍ عُليا مثل الإمام الرباني في السجن.
وظهر أناسٌ في الغرب (لعل غارودي منهم) في الآونة الراهنة ليدعوا إلى الوجهة نفسها، وهؤلاء أفنَوا جُلَّ حياتهم حُمَاةً لأنظمة مضادّة للإسلام ثم اعتنقوا الإسلام في الظاهر؛ يفعلون ما يفعلون ظنًّا أنه الصواب إلا أنه خطأ محض، إنهم لم يطبقوا الإسلام بعدُ تطبيقًا يجعله جزءًا من أنفسهم أو من فطرتهم لا ينفصم عنها، ولم يطهّروا جوّانيتهم من نُفَايات الكفر، ويلقوها عنهم، فهم كمن يُشمِّر لِلُّجِّ عن ساقه ويَغْمُرُه الموج في الساحلِ.
أجل، إن الإنسان ميَّال للإفراط والتفريط والانحراف بطبعه، فهذا “ابن تيمية” وإن كان شخصية إسلامية عالمية إلا أنّ له آراءً شاذّةً وفيها إفراط، وإن من جعله متشدِّدًا في منهجه هم من كانوا يشعلون الشموع في المقابر، ويغالون في زيارة الأضرحة يومئذ؛ ولهذا ينبغي أن يكون الناس حذرين يقظين دائمًا، وأن يعنوا عناية عظمى بتجنّب هذا الخلق الضارّ الكامن في طبعهم، وألا يخضعوا لتأثير البيئة في هذا الشأن، وأن يسعوا دائمًا لتقييم الحوادث في ضوء موازين القرآن والسنة، وليُعلم أبدًا أن الميل للإفراط والتفريط ابتلاءٌ ملازمٌ لنا.
لذا ينبغي أن يكبح الإنسان جماح إرادته، ويبحث عن الطرق المؤدية للكمال الإنساني في الدين الذي ارتضاه الله بقوله: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 5/3)، وأن يسلك في تلك الرحلة صراطًا سلكه النبيون والأصفياء والأولياء ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، كي يبلغ المنزل المقصود، وإلا قد يخسر في وقت هو أدعى للكسب.