سؤال: النقد يكاد يكون المعيار الوحيد اليوم في الحديث عن القضايا الإدارية والسياسية، فهل هذا المنهج صحيح؟
الجواب: شاع قول العرب “الهدمُ أَسْهَلُ” حتى غدا مثلًا. أجل، ما أسهل التخريب والنقد والهدم، وما أصعب “البناء”؛ لذلك كان على من يسعى لـلهدم أن يبحث أولًا عن طرق “البناء”، ويحددها ثم يبدأ “الهدم”؛ وإلا فإنه لن يمكن أبدًا ملءُ الفراغ الناتج عن الهدم.
أجل، هناك قضايا لا تتحمل التخريب ولا النقد ولا الهدم ما لم توضع لها بدائل؛ وأظن أن تحقيق التوازن في هذه المسألة هو من أهم وظائف الرسل خاصة رسولنا مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم. أجل، لقد كان يكشف مثالب المجتمع القارّة فيه، ويصدع بأسلوب مقنع نبيل لا يخشى أحدًا، قائلًا: “هذا خطأ!”، غير أنه كان يقدِّم البدائل الحقيقية البنّاءة فورًا، فيحول دون الفوضى والفراغ، أي كان يوازن كل شيء ويتفحَّصُ إيجابياته وسلبياته، ولا يمنح الفراغ الفكريّ والحسيّ أيّة فرصة، وهذا المنهج يلقِّننا دروسًا كثيرة: منها أن محاولات الهدم العشوائية جناية ما لم تسبقها خطط ومشاريع لـ”بناءٍ” يقوم على أرضية سليمة، وإحاطة تامّة بالحراك.
ولما لم يُطَبَّق هذا المنهج في الحياة عاش الفرد والأسرة والدولة في فراغٍ خطير على قدر الأخطاء المرتكبة ومداها، وانساق الجميعُ إلى الفوضى؛ ففي الدولة العثمانية مثلًا، قد عُورض السلاطين أحيانًا، وأُطيحَ بهم، وطولب بمن هو أفضل، فإذا بالأوضاع السلبيّة تتفاقمُ، فاستحال العثور على من هو أفضل، وراح الجميع يتحسَّر على الأيام الخوالي وأصحابها.
ومن ذلك مثلًا أن طلعت باشا، وجمال باشا، وأنور باشا، ورضا توفيق، وتوفيق فكرت، و-بقدر ما- محمد عاكف، وكثيرين غيرهم أطلقوا على السلطان عبد الحميد -جعل الله الجنة مثواه- اسم “السلطان الأحمر”، واضطلعوا بدور فاعل في خلعه، وصفقوا وهللوا لذلك، لكن كلًّا منهم ندم على ما فعله وقال عنه لاحقًا كلمات تقديرٍ وإجلال، عندما احتلّ اليونانيون “إزمير” بكى رضا توفيق في ميضأة الجامع منتحبًا، ونظم شعره “استمدادًا من روحانية عبد الحميد” .أجل، هكذا قالوا، ولكن “بعد خراب البصرة”؛ لقد انهارت الدولة العلية، وضاعت الموصل وكركوك والسليمانية ومصر والبلقان، وضاع الأمنُ في هذه المنطقة الذهبية، ثم أفاقوا من نومهم العميق، والعالم اليوم يدفع ثمن هذا، يدفعه غاليًا جدًّا؛ لأن الدولة العثمانية كانت عنصرَ توازنٍ بشرقها الأوسط، وقوقازها، وبلقانها؛ هيهات… لم ندرك ونَعِ هذه الخصوصية إلا بعد الانهيار.
كم هو مؤلمٌ أن تتكرّر تلك الأخطاءُ التاريخيّة في هذه الآونة أيضًا، وتُخرَّبُ الدول أو الحكومات دون إقامة الخطط والمشاريع الصحيحة البديلة، وتستخدم المعارضة شِعارات لمجرد النقد فحسب مثل: “نمتنع عن التصويت لهذه القرارات” أو “ما هكذا تمارس السياسة الخارجية والسياسة الداخلية… إلخ”،وإذا قيل لهم: قولوا واكتبوا ووجهوا إلى ما يجب أن يكون”، قالوا: “لا بُدّ من معلومات واسعة، وتجربة سابقة قويّة، ونحن نفتقر إلى هذا”. نعم، لكلِّ دولةٍ وحكومة أخطاؤها، غير أنه ما ينبغي أن يجري حسابها ألبتة وفقًا لفلسفة “الهدم أوَّلًا ثم يبدأ التفكير في كيفية البناء”؛ فهذا يوهن الدولة ويمهد السبيل لأن تخسر سمعتها داخليًّا وخارجيًّا، بل ربما تخسر الدولة كلّ أرصدتها، فمثلًا لو أن بلدنا التي أكسبها موقعها الجغرافي وضعًا إستراتيجيًّا متميزًا كانت أقوى بقليل مما هي عليه اليوم في إطار التموّجات السياسية الجارية حولنا، لأمكنها أن تجذب كلّ آسيا الوسطى إليها وتأخذها إلى جانبها بجاذبية وقوة لتغدو هي “المركز”، بل ربما استطاعت جمع العالم الإسلامي كلّه حولها.
ألم يكن الأمر هكذا في ماضيها؟ ألم يظهر كل من: آلْبْ أَرْسلان والفاتح والقانوني بفضل الثقة التي نتجت عن حسن القبول القوي، وأصبحوا أملًا للأمة تدوي أصواتهم في أرجائها؟ ألم يستجب كثيرون لهذا الصوت المدوي؟..
أجل، لا علاقة لنا بمن يجرون وراء حسابات خاطئة؛ فإننا منذ وُجِدنا حتى اليوم ونحن نهتم بحال ومآل هذه الأمة، باكين أحيانًا، وضاحكين أخرى، ولا تفارق شفاهَنا ابتسامةُ الأمل أبدًا؛ لقد قدّمنا ما قدمناه من العناية بحماية قلبنا حتى لا تعرض لها هزةٌ جديدة، ولطالما بحثنا لمواجهة المخاطر عما يجبُ علينا فعله واستقرأناه، وقلنا لكل مَنْ تَتَبّعنا قريةً قريةً، وقصبةً قصبةً، ولكل مرتكب لأيّ ضربٍ من الشرِّ: ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ (سُورَةُ الإِسْرَاءِ: 17/84)، ولم نستأ، ولم نغضب من هذه السلوكيات الصادرة عن القائمين على هيئات الدولة، ولم نسخط لا على دولتنا ولا على أمتنا وما ضقنا ذرعًا بذلك أبدًا.
أجل، إن الاتزان مهمّ جدًّا في هذا الشأن، وإنني على قناعة بأن هناك كثيرًا من الأخطاء تُرتكبُ اليوم في هذا المجال، علمًا أنّ هذا الضرب من السلوكيات -كما قدمنا آنفًا بالأمثلة- مضاعفاتُه وأضرارُه غير متوقّعة بل ربما لا تكفي طاقتنا لأن تعمر وتصلح ولو واحدًا منها.
إن هذا النمط من التفكير ربما يزعج أناسًا يَظهرون بمظهر الراديكاليين؛ إنّ هذا الموضوع حساسٌ إلى حدّ كبير، فلا أريد أن يُستخف بأيّ فكر إسلامي، ولا أرضى بأن يمتعض أيّ مسلم أبدًا، والواقع أننا أمام آراء متباينة جدًّا للمسلمين؛ فترى من يقول “أنا مسلم”، وفي يده قنبلة، ويتوشح سلاحًا، يسير به في الشوارع يُقتِّلُ الناس، فمن العسير فهم هذا ومواءمته مع الفكر الإسلامي، وإرضاء الجميع غاية لا تُدرَك طبعًا؛ لذا أخاف أن أُطلق كلماتٍ وبياناتٍ قد يُساء استعمالها وربما تُفسر تفسيرًا خاطئًا، ورغم هذا فبيان الحق والحقيقة مسؤوليّتنا.
والحاصل أنه لا بد من تنفيذ كلّ شيء في إطار قواعده، ولا بد من إظهار العناية البالغة عند العمل حتى لا ندمّر كل شيء ونحن نسعى للبناء؛ ينبغي ألا نسقط في فراغات منطقيّة، وطريق ذلك أن نعتبر بالماضي، وبالأحداث التاريخية، وألا نغامر بالأمة والدولة.