سؤال: كيف ينبغي أن ندفع ما نواجهه من سلوك وحركات عدوانية؟
الجواب: سلوك المؤمن مهمٌّ جدًّا؛ فهو إنسان تأدّبَ على مائدة الأدب النبويّ، فلا يمكن أو لا يُتوقَّع ألبتة أن يخرج عن دائرة الأدب واللطف والنزاهة، فكلُّ سلوك يصدر عنه سيُعزى تلقائيًّا إلى الإسلام، فعليه أن يحافظ على سلوكه الذي صاغته التربية الإسلامية على نحو يليق بالمسلم دون تغيير قِيدَ أنملة حتى وإن كان في مواجهة أكفر القلوب وأقسى الحوادث، ولو تأمّلنا حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للاحظنا أنه لم يغيّر معاملته حتى مع أبي جهل؛ وعلى ذلك فإن أغضَبَنا شيء ما فليكن أسلوبنا إسلاميًّا. نعم، أغلظ القرآنُ الكريم القولَ للمشركين في بعض المواضع، والواقع أنّ هذا الأسلوب الشديد لم يكن موجهًا للأشخاص، بل لبعض الصفات والأفكار المعوَجّة.
أجل، لم يتعرّض القرآن الكريم لأحدٍ بغلظة قطُّ، وما أغلظ وهاجم الكفار والملحدين، بلِ الأفكارَ والمفاهيمَ الإلحادية التي مثلوها ويمثلونها؛ لذا لا يُتصوَّرُ أنْ يسلك طلابُ القرآن سلوكًا خلافَ ما جاء به القرآن.
ولنا أن نتناول هذه الحقيقة في الدول كما الأشخاص، فمثلًا قد نُغْلِظُ القول في حديثنا عن بعض الدول، إلا أنه ينبغي أن نتنبّه إلى أننا مضطرّون من اليوم لترك التشدُّد إذا كنّا نفكر مستقبلًا بمحاورتهم أو تعريفهم بعضَ الحقائق والأحاسيس والأفكار الدينية، فلنحدِّد جيّدًا أسلوب المواجهة؛ ويشترط في هذه المسألة كغيرها من المسائل الرجوع إلى المعايير والموازين المستخلصة من مقاصد القرآن الكريم والسنة النبوية.
تعالوا نشخص الموضوع بصورة أوضح بمثال من القرآن الكريم، يقول الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام وقد أرسلهما إلى فرعون: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (سُورَةُ طَهَ: 20/44)، أي عليكما أن تعبّرا لمن تخاطبانه بالكلمة الطيبة والقول الليّن وإن كان فرعونَ الذي أذلّ قومَهُ وسفك دماءهم سنين، لاحظوا: ربطَ القرآن الكريم تذكُّر المخاطب وخشيته من الله بـ”القول الليّن”، ومفهوم المخالفة هنا: “فإن قلتما له قولًا غليظًا فلن يتذكّر ولن يخشى”؛ فالرِّفقُ واللين شرطان لا غنى عنهما للتَّمكُّنِ من تبليغِ بعضِ الأشياء والحديث عنها أيًّا كان المخاطَب.
وهذا يعني أن على المسلم أن يكون دائمًا ليّن الجانب، لين الفِعال والمقال، لين القلب والوجدان؛ حتى يتسنى له أن يكون داعيًا حقًّا، وإلا فكلُّ من لم يلِنْ قلبه ويذُبْ وتتمعدنْ أطواره في قالب الروح المحمدية فستصبح أحوالُه مصطنعةً مزيفة، وأمثال هؤلاء وإن تبسَّموا إلى أجلٍ محدود إلّا أنهم سرعان ما يَظهرون على حقيقتهم إذا ما أوذوا، ويكشفون عن شخصيتهم الحقيقية، تُرى حَتّامَ يمكن أن تخدع يَرَقةٌ أهلَ الرصد والفلك؟!.
وفي ضوء هذه المعايير يمكن تفسير نزول المسيح عليه السلام واقتدائه بواحدٍ من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم بأن المسيح عليه السلام برأفته وعطفه سيجذب العدالةَ الكامنة في الروح المحمدية إلى بعدٍ آخر، أي سيبلغ بالروح المحمدية وعدالتِها واعتدالِها مرتبةً مِيزتها: “أن يكون الإنسان بلا يدٍ لمن ضربه، وبلا لسانٍ لمن شتمه، وبلا قلب يغضب ممن أغضبه”؛ وهذه المرتبة ربما يراها البعضُ إفراطًا في الرأفة والرحمة.
والإنسان الجَلْد في هذا العصر بديع الزمان سعيد النورسي مثالٌ مهمّ جدًّا في هذا الشأن، فهو يسعى دائمًا ليعثر على مدخل يتحدث منه عن حقيقة الإيمان بينما يجد في أهل الدنيا من يرونه جديرًا بأعتى عذابٍ وأشدِّه بأسًا، ورغم ذلك لا يضيق بهم ألبتة؛ وما أجمله من مثلٍ، ذاك الذي ضربه أصحاب الأخدود في هذا الموضوع! حفروا لهم الخنادق بينما هم يحاولون إشعارَ مَنْ يرمونهم فيها بإلهامات أرواحهم.
أجل، يستحيل تبليغُ أيِّ شيء لأيِّ إنسانٍ بالصياح والصراخ والحدّة والعنف، ناهيك عن إقناعه به؛ ربما استُخدم العنف طريقةً وأسلوبًا في فترة من التاريخ، أي في فترة البداوة الإنسانية، لكن الزمان نسخه، وأبطل حكمه؛ أما الآن فالدستور السائد هو “أن التغلب على المدنيين إنما يكون بالإقناع لا بالإكراه”[1]، ورجالُ المحبة في عصرنا عليهم أن يبلغوا المستوى الذي نحاول رسم حدوده وأُطره، وأن يُكثِروا من التمرّن عليه باستمرار.
أجل، كما بيّنا آنفًا، سينزل المسيح عليه السلام بلا شكّ في آخر الزمان ليؤدّي رسالته الـمُهِمَّة تلك وإنْ في أقصى أرجاء الآخرة، سينزلُ ولكن نزوله هذا سيكون نزولًا على المعنى والروح القارَّة في شخصيتكم المعنوية.
نعم، سينزلُ على هذا المعنى وتلك الروح ليكون قالَبًا لهما؛ وإن لم تكن تلك الروح فلا معنى لنزوله جسديًّا، فينبغي أن نعلم أن الانبعاث في آخر الزمان سيتحقق بنفحات أبطال المحبة التي تَهَبُ الأبدانَ الحياةَ؛ فهم مَنْ يستطيعُ تمثيلَ لينِ القلبِ والحالِ والمقال.
[1] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: سيرة ذاتية، الحياة الأولى، ص 116.