سؤال: أصبحت ظاهرة الانتحار آفة اجتماعية في أيامنا، فما نظرة الإسلام لهذه الظاهرة، وما الأسباب والعوامل التي تسوق الإنسان إلى مثل هذه الطامة الدنيوية والأخروية؟
الجواب: رغم أن القرآن الكريم لم ينصّ صراحة على مسألة الانتحار فإن حكم الآيات المتعلقة بقتل النفس ينطبق أيضًا على قتل الإنسان نفسه؛ لأن كليهما كبيرة، والله تعالى يقول: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/32)، وبذلك عدّ ربُّنا سبحانه وتعالى قتلَ النفسِ جنايةً تعادلُ قتلَ الناس جميعًا.
من جانبٍ آخر فإن حفظ النفس من الأصول الخمسة التي كُلِّف الإنسان بحفظها، وبعد أن أدرجها الإمام الشاطبي (1320-1388م) بنظامٍ معيّنٍ في كتابه “الموافقات” قال: “اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ -بَلْ سَائِرُ الْمِلَلِ- عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ وَهِيَ: الدِّينُ وَالنَّفْسُ وَالنَّسْلُ وَالْمَالُ وَالْعَقْلُ” ، فهنا يأتي حفظ النفس في غُرة هذه الضروريات الخمس، وانطلاقًا من هذا فإن الإنسان مكلفٌ بحفظ نفسه حفظَه لدِينه ودولته وعرضه وشرفه واستقلاله وماله، فالنفس شيءٌ جديرٌ بالحفظ، وحفظها له أهميةٌ بالغةٌ لدرجة أنه إن حدث واعتدى عليها أحدٌ جاز للمعتدَى عليه أن يدافع عن نفسه في ظروفٍ معينة حتى وإن اضطرته الظروف أن يقتل المعتدي.
خيانة الأمانة
فضلًا عن ذلك فالنفس أمانةٌ أودعها الله للإنسان؛ بمعنى أن الإيمان والتديُّن وخدمة الدين كلّها أمانات من الله للإنسان، والنفس التي تُعدّ مطيةً أو أساسًا تنبني عليها كلّ هذه الأمانات أمانةٌ أيضًا؛ لأنه إذا عُدِمت الحياة فلا يمكن تفعيل هذه الأمور في الحياة.. ومن ثَمّ فإن إنهاءَ الإنسان حياته بإرادته يعني الإجهاز على المطية المنوطة بحمل تلك الأمانات التي ذكرناها سلفًا.
فالإنسان كالجندي الذي يؤدي خدمته، ويوكَل إليه بمهمةٍ معينة، ولذا يجب على الإنسان أن يصبر ويتحمل حتى اللحظة التي يسترد الله فيها أمانته، وكما أن الجندي لا يجوز له أن يغادر سَريّته دون تصريحٍ من قائد السَّرية، وإن فعل عُدّ هاربًا من العسكرية، فكذلك
لا يجوز للإنسان أن يترك وظيفته الحياتية دون أن يحصل على تصريحٍ من صاحبها، فإن ترك وظيفتَه عُدّ فارًّا وهاربًا أيضًا، وحبطت كلُّ أعماله التي قام بها طوال حياته.
وما دون الانتحار مثل تمني الإنسان الموت لضرٍّ أصابه يعدّ جريمة أيضًا؛ لأن مثل هذا التمني بمثابة عصيان وتمرد على قضاء الله تعالى وقدره، فيجب على من صدر منه سهوًا ما يدل على التمرد على قدر الله تعالى أن يمضي إلى غرفته وينفردَ بنفسه ويستغفر الله على ما اقترف من ذنب وكأنه ارتكب كبيرة من الكبائر، وإذا كان تمني الموت الذي هو ما دون الانتحار منهيًّا عنه فما بالُنا بالانتحار؛ لأن محاولة الإنسان أن يقتل نفسه دون أن يحصل على تسريحٍ من سيّده يُعتبر سوءَ أدبٍ ووقاحة مع الله تعالى؛ لأن صاحب الكلمة الأخيرة في هذا الأمر هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي جاء بنا إلى الدنيا، وهو الذي سيسرحنا منها إلى الآخرة، فلا يحقّ لبشرٍ أن يتدخّل في هذا الموضوع.
والواقع أن الإنسان قد يموت وهو يدافع عن نفسه ودينه وماله، وهذا الموت وإن بدا فيه التدخل البشري المباشر إلا أنّه ارتحل إلى الآخرة في إطار أوامر ربه سبحانه وتعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه الشريف: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ” ، وعلى ذلك فالموت في مثل هذه الحالات يعني أن التسريح والتذكرة قد مُلِئا وتمّ الختم عليهما من قبل الله تعالى.
وبعض الفقهاء يعتبر المنتحر كالمرتد، فلا يُصلّى عليه، ولكن قد يكون هذا الإنسان أصيبَ بحالة من الجنون المؤقّت فانتحر وهو في هذه الحالة، وإنسانٌ كهذا لا يعي ما يفعله لأنه فَقدَ توازنه العقلي، ولذا فإن المنتحر أيًّا كان سبب وخلفيّة انتحاره فعلينا أن نحسن الظنّ به لأننا لا نعرف حقيقة أمره، وأن نقوم بتجهيزه وتكفينه والصلاة عليه والدعاء له كما أمرنا دينُنا الحنيف.
وأحيانًا قد تسوق الإنسانَ إلى الانتحار همومٌ وآلامٌ لا يقدر على تحملها، مثل ما وقع في عصر صدر الإسلام، حيث يروى أن رجلًا يُسمى “قزمان” أثكلته الجروح يوم أُحد، فلم يتحمل، فأخذ سيفه وغرزه في صدره وتحامل عليه حتى قتل نفسه، فلما ذُكِر هذا لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “هُوَ فِي النَّارِ” .. تأملوا؛ رجلٌ حارب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان على وشك أن يحظى بالشهادة من جراء جروحه الغائرة، ولكنه لم يتحمل الألم، وتعجّل موته، وقتلَ نفسه، فخسر هذا البائسُ في موضعٍ هو أدعى للكسب.
أجل، لقد أصدر قراره قبل قرار الله، وملأ شهادة تسريحه قبل وقتها، فكان جزاؤُه جهنم.
بيد أن على المؤمن أن يتجمل بالصبر في مثل هذه المواقف التي يتعرض لها، وأن يتحمل مهما كان حتى تأتي اللحظة التي يدعوه الله فيها إلى جواره سبحانه وتعالى، وأن يموت وفق مراد الحق سبحانه؛ وبعبارة أخرى: عليه أن يمتثل لمراد الله حتى عند موته، والآيةُ الكريمة التي تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/102) فيها إشعارٌ بالتحذير من قتل النفس؛ لأن الانتحار ناشئٌ عن عدم القدرة على تسليم الأمر لله سبحانه وتعالى، بيد أن الآية تقول: “وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ”؛ فضلًا عن أن إنهاء الإنسان على حياته فيه تضييعٌ لماضيه كله، واختتام حياته على أمرٍ جدّ خطير.
العمليات الانتحارية: الجناية المضاعفة
ظهر في أيامنا الحالية ما يُسمّى بالعمليات الانتحارية، بدأت أولًا في الغرب، ثم انتشرت بعد ذلك -مع الأسف- في بعض الدول الإسلامية، والقائمون بهذه العمليات يمنحونها غطاءً شرعيًّا، ويصفونها بـ”الانتحار المشروع”؛ بعبارة أخرى يحاولون أن يمنحوا العمليات التي يقومون بها في سبيل أيديولوجياتهم قيمةً ومعنى اسميًّا، معتقدين أنهم بذلك يحمون دينهم وتديّنهم!، بيد أننا عندما ننظر إلى مثل هذه العمليات نجدها لا تختلف عن الانتحار الذي تحدثنا عنه آنفًا، بل يمكن القول إن مثل هذه العمليات تُعتبَر جريمةً مضاعفة؛ لأن هؤلاء الجناة الغافلين الذين لا يمتّون للإنسانيّة بصلةٍ ولا يعرفون عن دين الله شيئًا لم يكتفوا بأن يتدحرجوا في دركات جهنم بسبب قتلهم لأنفسهم، بل قتلوا الكثير من الأبرياء أيضًا ولذا سيحاسبهم الله تعالى فردًا فردًا على تلطُّخِ أيديهم بدمِ هؤلاء الأبرياء مسلمين كانوا أو غير مسلمين أطفالًا أو شبابًا أو شيوخًا؛ لأن الإسلام يوجب على أتباعه سواء في السلم أو الحرب الالتزام بقوانين وقواعد معينة، وكما لا يجوز للإنسان أن يُعلن الحرب من نفسه ويقتل الآخرين في حال الصلح، فكذلك لا حق له في أن يقتل الأطفال والنساء والشيوخ من الأعداء حتى ولو في حالة الحرب.
وعلى ذلك فأيًّا كانت الفكرة التي اعتمدت عليها هذه العمليات الانتحارية فليس بالإمكان التوفيق بينها وبين الإسلام، وقد سلّط سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الضوءَ على هذه المسألة حينما قال في حديثه الشريف: “لَا يَزْنِي الْعَبْدُ حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَقْتُلُ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ” ، وهذا يعني أن القاتل لا يوصف بالإيمان حين ارتكابه فعل القتل؛ بمعنى آخر لا يمكن أن نطلق لفظ المسلم على الإنسان الذي يرتكب هذه الجرائم، وهو على تلك الحالة التي يحمل فيها مثل هذه الأفكار والخطط الهدّامة.
أجل، إذا ما وضعنا عدسةً على ذلك القاتل فلن تظهر لنا صورة تتوافق مع الإطار الإسلامي، ولذا نؤكّد مرة أخرى على أنه لا يمكن التوفيق ألبتة بين الإسلام وبين ما يقوم به هؤلاء الجناة من إزهاقٍ لأرواح الأبرياء من خلال استخدامهم للأحزمة الناسفة، أيًّا كانت الدولة أو الحزب الذي ينتمون إليه، فهؤلاء لن يُكتب لهم الفلاح في الآخرة، ولا جرم أن بابَ الله مفتوحٌ للجميع، فيجوز لهؤلاء الذين عميت أبصارهم وارتكبوا هذه الجرائم الكبيرة أن يتوجّهوا إلى ربهم بالتوبة والاستغفار، فالله تعالى وحده هو مَن يعلم كيف سيكون حال هؤلاء في الآخرة.
من جانب آخر فمن المسلّم به أن مثل هذه العمليات الانتحارية من شأنها أن تسوّد وجه الإسلام الساطع وتدنّس محياه اللامع؛ لأن هذه الجرائم التي تصطبغ بصبغة الإسلام وتعطي انطباعًا بأنها في سبيل الدين ينسبها مَن لا علم لهم بالإسلام وأصوله إلى الإسلام؛ ومن ثمّ سيكون من العسير جدًّا على المؤمنين أن يصحّحوا مثل هذا الفهم الخاطئ.
أجل، إن تصحيح هذه الصورة الخاطئة عن الإسلام في العقول سيتطلّب سنوات طويلة، ويمكن القول بأن هذه العمليات الانتحارية أيًّا كانت ماهية منفّذيها هي جرائم مضاعفة بل مكعبة.. ذات يوم جاءني بضعة أشخاص ممن لا يعرفون شيئًا عن وجه الإسلام الحقيقي ووجهوا لي هذا السؤال: “هل حبُّ الجنة يدفع المسلمين إلى أن يكونوا انتحاريين؟”، فأجبتهم قائلًا: “لو كان هؤلاء يتحركون في هذه العمليات من هذا المنطلق فقد أخطؤوا الفهم والتقدير، لأن من يتورّط في مثل هذا الأمر مأواه جهنم وبئس المصير”.
حاصل القول إن تصوير هذه الجرائم البشعة التي يسمونها بالأعمال الانتحارية على أنها في سبيل الدين يحمل أبعادًا خطيرةً، من أجل ذلك أذكّر مرة أخرى بأن هذه العمليات أيًّا كان مقصدُها وصورتُها فهي أفعالٌ منكرةٌ لا يحبها الله تعالى ولا يرتضيها، ولا يمكن التأليف بينها وبين الإسلام.