سؤال: ذكرتم فيما سبق أنه ينبغي لطالب القرآن بحقّ أن ينهلَ مباشرةً من مصادره الأصلية، أما المصادر الخارجية فله أن يستفيد منها بعد تفحيصها وتدقيقها، فما الأمور التي يجب مراعاتها حتى تتحقّق الاستفادةُ القصوى من المصادر الأصلية ؟
الجواب: بادئ ذي بدء لا بدّ من إثارة شعور الشغف وحبّ المعرفة لدى الناس قبل توجيههم إلى المصادر الأصلية: وبعبارة أخرى؛ يجب أولًا تهييج مشاعر الاشتياق إلى العلم والدراسة في وجدان المجتمع من أجل عشق الحقيقة والوصول إليها؛ حتى يُقبل الناس على تأمل الحوادث والأشياء دون توقف أو ضجر أو تعب، ويتلهفوا إلى التعرف على حقائق هذه الأشياء، فإن انفعلت نفوسهم بمثل هذا العشق والحماس ثارت في القلوب الرغبة في التعرّف على المصادر الأصلية التي تبني ذاتيتنا.
أجل، إن تَملَّكَ القلوبَ هذا الحماسُ الجنوني للتعلّم اتّجه إنساننا حينذاك برغبةٍ واشتياقٍ عارمين إلى مصادرنا الذاتية، وأخذ يرتوي منها.
لا سبيلَ إلى توجيه الماء الراكد إلى أي مكان
ومثالًا على ذلك أُقدم لحضراتكم هذا الطرح وإن كان متعلِّقًا بموضوع آخر: يجب أن يشعر الناسُ بدايةً بحماسٍ جنوني حتى يمكنهم إحياء غايتهم أو تحقيق انبعاث يسير وفقًا لهذه الغاية؛ حماس لا يجد الإنسانُ بسببه موطئًا لقَدَمه على وجه الأرض، ويظلّ يترنح يمنة ويسرة كالمجنون، فمن الصعب للغاية أن نخلّص الناس من الإلف والتعود ونرشدهم إلى مكانٍ ما بدون هذا الحماس، أما بالنسبة للشخص المفعم بهذا الحماس فمن اليسير جدًّا تقويمه وإن بدرت منه بعض التجاوزات، وذلك في إطار مبادئ الدين الذي يُكنّ له كلَّ احترام وتقدير.. فمثلًا بإمكاننا استغلال حماسه هذا في مكانه الصحيح، ونوجهه قائلين: “إنك تتمتّع بحماسٍ بالغ، ولكن قد ينشأ عن هذا الحماس هدمٌ أكثر من الإنشاء، وهذا لا يتوافق مع مبادئ دينك أو القيم التي ترتبط بها من صميم قلبك، والأفضل أن نستغل حماسَك هذا في الطريق الإيجابي، وإن لزم الأمر نجعله بذرة تنمو بعد مئات السنين، وعاملًا أساسيًّا للثبات على هذا الطريق، فلنرهق أذهاننا إذًا ونعيي عقولنا في توليدِ خططٍ تهدف لترشيدِ مثل هذا الحماس حتى وإن استغرق ذلك عصورًا”.
وينطبق هذا الأمر أيضًا على مسألة التعلم وقراءة الكتب؛ بمعنى أن توجيه الناس دون إيقاظ لمشاعر الشوق إلى العلم والحقيقة والدراسة لديهم أمرٌ جدّ عسير، فمهما أرشدتم الذين حُرموا هذا الحماس إلى مصادر معينة، فمن المحتمل أنهم سيكتفون ببعض القواعد الفقهية البسيطة، ومن ثم يجب أن نُكسب هذا الحماس لإنساننا بدايةً، ثم نحدد الطريق والوجهة لهذا الحماس؛ لأنه ليس بالإمكان سَوق الماء الراكد إلى أي جهة.
لا بدّ من التعرّف على المحكمات أوّلًا
أما الأمر الثاني الذي يجب الالتفات إليه فهو تحديد أولويّاتنا من حيث عالمنا الفكري؛ بمعنى: ما هي الأولويات التي لا بد أن نتعلمها ونعيها، وما المقاييس التي يجب الاعتماد عليها، وما المعايير التي ينبغي أن نكون أوفياء لها، وما هي محكماتنا التي سنختبر بها معلوماتنا، وأي المصادر التي توجد بها؟ وجواب هذه الأسئلة هي الأدلة الشرعية الأصلية وفي مقدماتها المصادر الأساسية لثقافتنا والتي يمكننا أن نتعرف من خلالها على مشاعرنا وأفكارنا وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ثم الأدلة الشرعية الفرعية مثل: العرف والعادة والمصلحة والاستحسان.. وهكذا فإن الاطّلاع على المصادر الأخرى دون التعرّف على هذه المصادر وتحديد محكماتها كثيرًا ما يصاحبه فوضى فكرية كبيرة، ويمكن أن نعزو إلى هذا الأمر أيضًا؛ الفوضى الفكريةُ التي بدأت منذ عهد التنظيمات[1] واستمرت في عهد المشروطية وما بعدها، وعدمُ تمسُّكنا بعلم الأصول، وتلقّفُ كل ما يصل إلى أيدينا على الفور دون اعتبار لِغثٍّ أو سمين ولا انتباهٍ أو مراقبةٍ لمن يدسّ السمّ في العسل، وانسياقنا الأعمى؛ مما أوقعنا في فخّ التكلّف والخيال.
فمثلًا كثُر الحديث في أيامنا عن إدارة الموارد البشرية وتنمية الشخصية والاعتماد على الذات، ولكننا إن لم نرجع إلى الأقوال الكريمة التي ذكرها الرسول الأكرم صلوات ربي وسلامه عليه في مثل هذه المسألة المهمة وهي تربية الإنسان، واكتفينا بقراءة نظريّات التنمية البشرية التي تفتقر إلى الميتافيزيقا فهذا يعني أننا قد فقدنا الكثير والكثير؛ لأننا إن لم نوجه الناس إلى أفق الإنسان الكامل في إطار الأسس التي وضعها المرشد الأكمل صلى الله عليه وسلم في مسألةٍ مهمّةٍ كالتربية والتعليم فهذا يعني أننا -معاذ الله- نقول: إن النظام الذي جاء به صلى الله عليه وسلم يشوبه -حاشا لله- النقص والقصور، وأن القرآن الكريم أهمل كثيرًا من الأشياء، ولم يفهم السلفُ الصالح على مدى أربعة عشر قرنًا من الزمان بعضَ الموضوعات ألبتة”، وهذا ضلال مبين.. وعلى ذلك فلِمَ ننساق انسياقًا أعمى وراء الآخرين؟ قد يكون لهم منطقٌ واضح في كتاباتهم وأحاديثهم ومصطلحاتهم ونظمهم الخاصة، ولكن يجب أن نتناول المسائل التي ذكرناها آنفًا من خلال قيمنا الذاتية، ومصادرنا الأساسية؛ وذلك حتى لا نتصارع مع ذاتيتنا، ولا يعترينا عوجٌ وانحرافٌ يؤدي بنا إلى التناقض في أسسنا الإيمانية عند الحديث عن علم التربية أو علم النفس.
أجل، إن سَلَكْنا الطريق دون أن نحدد القبلة فسنظلّ نهيم على وجوهنا هنا وهنالك دون أن نجد طريقَنا أو جِهَتنا.
ولكن إن درس الإنسان مصادره الأصلية وتعلَّمها واستوعب محكماتها، وأمسكَ بها في يده كمعيارٍ يحتكم إليه؛ فحينذاك يمكنه أن يقرأ الكتب التي يريدها، وهذا لا يعني أنني أقول لا تقرؤوا لـ”سارتر (Sartre) (1905-1980م)” و”ماركس (Marx) (1818-1883م)” رغم أنني أنظر نظرة دونية إلى أفكارهما، وأجد فيهما خطرًا كبيرًا على شبابنا بشكل خاص؛ لأن هناك جماليات يمكن أن نستفيدها منهما، ولكن عليكم أن تجعلوا مصادركم الأساسية معيارًا في أيديكم، حتى يمكنكم أن تستلهموا ما تستلهمونه بشكل سليم.
أجل، من الضروري أن يكون بأيديكم مغزلٌ تنسجون به ما تريدون، ولكن إن تخليتم عن قيمكم الأصيلة انسقتم وراء هذا التيّار اليوم، وخلف ذاك التيار غدًا، وهكذا… ولا تحصلون على شيء في النهاية، وهذا للأسف هو الحال المؤسف لمثقفينا منذ عصور.
الحامل الثلاثي
فإذا ما تعرّف الفردُ جيِّدًا على مصادره الأساسية أضفَتْ عليه المعلومات التي يستقيها من المصادر الأخرى طابعًا مميّزًا ولونًا خاصًّا، فمثلًا نهلَ أجدادنا حتى القرن الخامس الهجري، وصولًا إلى القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين ما نهلوا، ومع ذلك لم تعترضهم مشكلة ذات بال؛ لأنهم أخضعوا كل ما استفادوه على مصفاة فكرهم وهذبوه ونقحوه، وحددوا جيّدًا ما يأخذونه وما يطرحونه، فلو فعلنا مثلهم اليوم سنصل إلى ثراء معرفي خاص.
من جانب آخر فمن أجل الاستفادة بحقّ من المصادر الأساسية القيمة قيمة الكنز فإننا بحاجة إلى سعةِ وجدانٍ تحلق في أفق القلب والروح، وتتعرف على ما يجب التعرّف عليه مما يختصّ بهذا الأفق، وتطّلع على وجهة نظرٍ تكشف عن معاني كتاب الكون، وتستفيد منها وتفسرها، ولكن كم عدد أصحاب هذا الأفق الذين يمكننا أن نشير إليهم اليوم؛ فمنذُ زمنٍ طويلٍ ونحنُ نعاني عند تربية الإنسان من انعدامِ المؤسسات التي تتناول وتخاطب نواحي الإنسان المادية والمعنوية والقلبية والروحية والعقلية والفكرية وغيرها.
أجل، كانت لدينا في فترة ما مدارس تقليدية؛ مناهل للعلم والعرفان، خرّجتْ الكثير من العلماء العظام، لكنها للأسف
مع ما بها من جوانب إيجابية إلا أنها فقدت هويتها، ولم تخرج عن النطاق القديم المرسوم لها، ولأنها لم تواكب عصرها فلم تعد تلبي احتياجات المجتمع.. كما فقدت التكايا والزوايا هويتها أيضًا، ولم تعد قواعد ومبادئ أصول الدين وعلم الأصول هي المرجع والأساس، بل أصبح الدين يُفسَّر حسب الأحاسيس والمشاعر والأحداس، والملاحظات الذاتية، وبناء على ذلك انحصر الدينُ في قالب التصوف، ولما آل الحال إلى ما آل إليه قامت الحركات المعارضة في الطرف الآخر بالترويج للمادية والطبيعية، ومن ثمّ ظهر انقسام خطير بين الطرفين اللذين من المفترض أن يكملا ويدعما بعضهما البعض، لدرجة أن البعض قد أخذوا يقلدون الغرب، ووصلوا بالأمر إلى الحد الذي فصلوا فيه الدين عن العلم دون وعي منهم، فكنا نحن من حصد النتيجة؛ ومن أجل أننا انغلقنا على الدنيا، وفصلنا الحياة العلمية عن الحياة الروحية والقلبية في الإسلام، وأعرضنا عن تفسير وتأويل أعظم المفسرين وهو الزمان، وحبَسْنا أنفسنا في دائرة ضيقة؛ كانت النتيجة هي أن يتمزّق الدين ويغدو مجهولًا بيننا.
بناءً على ذلك يمكن القول إنه من المتعذر أن نرجع إلى ذاتيتنا أو أن نفكر بها أو نحلل القضايا وفقًا لمصادرنا الأصلية دون أن يتشكّل حاملٌ ثلاثي أو يحدث اتّحاد واندماجٌ بين المدرسة التقليدية والمدرسة الحديثة، وبين المدرسة التقليدية والتكايا والزوايا، وبين كل هؤلاء وبين نظام وانضباط الثكنة العسكرية.
وفي النهاية أريد أن أتطرّق إلى مسألة أخيرة وهي: إنني على قناعة بأننا إن غرسنا عشق العلم والحقيقة في نفوسنا وعكسناه على أفعالنا، فسنبلِّغ القلوبَ بشكل حقيقي الرسالةَ المتعهدِين بحملها؛ لأن أعظم الدروس وأبقاها أثرًا هي أفعال الإنسان وسلوكيّاته.
أجل، إن أيّ حقيقة نؤمن بها ونتّبعها إذا أردنا تبليغها إلى القلوب فإن ذلك يتطلّب منا إظهارها في مثال حي.. والوظيفةُ الأساسية للكتب والشروح هي إيضاح النقاط التي نجهل تطبيقها، ولكننا اكتفينا بهذه الكتب والشروح وكأنها توضح لنا كلّ المسائل بتفاصيلها، والحال أن القرآن الكريم وهو أقدس الكتب يتلوّى من الهمّ والغم حزنًا على أنه لا يستطيع أن يعبر عن نفسه أو أن يكون مرشدًا لنا؛ رغم أننا نحفظه في جِراب حريري منذ ثلاثة قرون، ونضعه في أعلى مكان في بيتنا، فلو أننا بدأنا نتفاعل مع محتواه ومعانيه وجعلناه روحًا لأرواحنا صار هذا الكتاب حينذاك أعظم الكتب. أجل، حينذاك يمكنكم أن تشعروا فيه بأصوات وأنفاس ما وراء الطبيعة، وتحسون فيه بأنفاس وأصوات الملائكة، ولو حاولتم أكثر لسمعتم هذا وكأنه ينساب من فمه الشريف صلى الله عليه وسلم.. ولكن إن لم نطبق الأوامر التي جاء بها الكتاب، وتعسّر علينا فهمه فلن نستفيد منه الكثير وإن كان أسمى الكتب، ولذا يجب أن يرتبط اللسان والشفتان، والقلمُ والكلام، والكلمة والبيان بالقلب، ويخضعوا له.
[1] أعلن فرمان التنظيمات في الدولة العثمانية في الثالث من نوفمبر عام 1839م، ويعد أول خطوة عملية نحو التغريب في التاريخ التركي؛ فبموجب هذا الفرمان شملت التنظيمات جميع المجالات حتى إنها أفسحت المجال لتغيير جذري في نظام الفكر التركي؛ حيث سعى المثقفون الأتراك الذين تلقوا تعليمهم في الغرب من خلال الفرمان المذكور إلى تبني المعايير الغربية في تنظيم كل شيء بالدولة العثمانية؛ بمعنى أن هذا الفرمان كان بمثابة محاولة لإنقاذ الدولة العثمانية عن طريق التمسك بالقيم الغربية.