Reader Mode

سؤال: لدى الإنسان اليوم شعورٌ بالشغف كثيرًا إزاء الأخبار اليومية والجدالات السياسية وحياة المشاهير؛ فما هو الشغف ؟ وما حكمة وجوده لدى الإنسان؟ وكيف يُستخدم هذا الشعور بما يخدم الغاية من الخلق؟

الجواب: الشعور بالشغف هو عاملٌ مهمّ يثير لدى الإنسان الرغبةَ في الوصول إلى الحقيقة، ويُشعل في نفسه جذوة العشق والشوق إلى البحث والدراسة.. ولذا يجب على الإنسان أن يستخدم مثل هذا الشعور المهم في سبيل غايةٍ سامية، وفي رأيي أن هذه الغاية هي معرفة الله (الذات الأجلّ الأعلى) الذي خلق الإنسان من عدم، وشرّفه وكرمه على سائر مخلوقاته، وجعل الدنيا ممرًّا إلى الجنة ومزرعة إلى الآخرة، وزيّن الكون بأسمائه الحسنى، وأرسل رسلًا هادين غير مضلِّين؛ أزالوا الغشاوة عن الأعين حتى أبصرت كلّ شيء على حقيقته.. ومن ثمّ يجب على الإنسان أن يثير شعور الشغف لديه طوال عمره، وأن يسعى إلى معرفة الذات الإلهية المنزّهة عن الكمّ والكيف على قدر استطاعته.

“لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ”

جاء في الأثر: “تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ الله، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الله[1]، فهذا البيان النبوي يُعدّ معيارًا لنا في هذا السياق.. قد يشعر البعض بسبب سعة صدورهم وعمق مشاعرهم وأفكارهم ببعض الأمور المنزهة عن الكم والكيف فيما يتعلق بالذات البحت (الذات الإلهية)، ولكن هذه الحقائق التي يشعرون بها لا تتيسّر للجميع، من أجل ذلك علينا مراعاة الحد الذي وضعه مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم وأن ندور في مدار الأسماء والصفات؛ لأنه سبحانه ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾ (سورة الأَنْعَامِ: 6/103)، لا تدركه الأبصار لأنه يتجاوز حدود كل شيء، فهو المحيط، والمحيط لا سبيل إلى الإحاطة به من قبل المُحَاط بهم في الوقت ذاته.. ولذا على الإنسان أن يعي أن لمعرفته حدًّا وماهيةً محددة، وأن يتعرّف على ما هو مرخّص به للجميع.

كلّما عرفه الإنسان أحبه، وكلما أحبه طلب المزيد من المعرفة

ويلفت الأستاذ النورسي رحمه الله انتباهنا إلى هذه الحقيقة السامية أي الغاية من خلق الإنسان بقوله: “اِعلمْ يقينًا أن أسمى غاية للخلق، وأعظم نتيجة للفطرة الإنسانية.. هو الإيمان بالله.. واعلم أن أعلى مرتبة للإنسانية، وأفضل مقام للبشرية.. هو معرفة الله التي في ذلك الإيمان.. واعلم أن أزهى سعادة للإنس والجن، وأحلى نعمة.. هي محبة الله النابعة من تلك المعرفة.. واعلم أن أصفى سرور لروح الإنسان، وأنقى بهجة لقلبه.. هو اللذة الروحية المترشحة من تلك المحبة”[2].. وهكذا جعل فضيلة الأستاذ النورسي الذوق الروحاني غاية إلى جانب الإيمان بالله، ومعرفة الله، ومحبة الله، ولكم إن شئتم أن تسألوا هذا في الدنيا أو تؤخّروه إلى الآخرة، ولكن يجب أن نعرف أنّ تجلِّي الذوق الروحاني في نفوسكم قد يدفعكم إلى المزيد من البحث والدراسة انطلاقًا من فكرة “هل من مزيد؟”.

إننا إذا عرفنا الله تعالى بمثل هذا التعمّق المعرفي حقّ معرفته فأحسب أننا سنُحسن تخطيط حياتنا، وسنسعى للسير في هذا السبيل، وسيُسيطر علينا شعورٌ بتبليغ ما عرفناه وشعرنا به للآخرين.. وأغلب الظنّ أن مثل هذا التعمّق المعرفي يقف وراء عشق سادتنا
من الصحابة الكرام والحواريين الفخام لهذه المسألة.

أجل، كانوا يعرفون الله تعالى جيّدًا، ويشعرون به يقينًا، وبذلك تعمّق الإيمان في قلوبهم، فكان من نتيجة هذا أن أَثارَ هذا الإيمانُ شدًّا معنويًّا في داخلهم جعلهم يقولون: “كيف يمكننا أن نحدِّث الناس عن الذات الإلهية التي تتجلى وتدوِّي بتجلياتها المختلفة
في داخلنا”.

وكلما استوعب الإنسان مع الإيمان بالله الأركانَ الإيمانية والأسسَ الإسلامية على ماهيتها الحقيقية شعر بعلاقة حميمة تجاهها.. فمثلًا إذا شعر الإنسان بالشغف إلى معرفة قدر سيد العالمين صلوات ربي وسلامه عليه لدى ربه سبحانه وتعالى، وإلى سبر أغوار الماهية الحقيقية التي تعبر عنها الرسالة المحمدية من أجل الإنسانية فإنّه يسعى إلى معرفته صلى الله عليه وسلم معرفة تليق بماهيته الحقيقية، ومع الوقت يشعر الإنسان بأن النبي صلى الله عليه وسلم صار مرشدًا يوجّهه في كل أحواله وتصرفاته.

أجل، بقدر معرفتنا أركان الإيمان والإسلام يزداد فهمنا للانسجام والتناغم بين طبيعتنا وجماليات هذه الأركان.. ومَن شعر بكل هذا في وجدانه توجه إلى ربه قائلًا: “إلهي فداك نفسي وروحي، لقد أحسنتَ إلينا بأن عرَّفتنا بك وبرسولك وإن كان بهذا القدر المعين، فلك الحمد آلاف المرات على كل هذا!”، ثمّ يعمل على التنقيب أكثر فأكثر في أرض المعرفة حتى تزداد معرفته.. هب أنكم أدليتم دلوكم في بئر ما وأخذتم في سحب الماء، فإنكم كلما سحبتم من البئر تفجرت به ينابيع أخرى، وكلما فار الماء انتابكم شعور بالطرب والمرح، وهكذا يثور لديكم شعور غامر بالشوق والاشتياق، وتصبحون من أبطال: “هل من مزيد؟”.

الشغف أستاذ العلم

والشغف يُعدّ عنصرًا مهمًّا في مسألة قراءة كتاب الكون، وكما ذكرَ الأستاذ النورسي رحمه الله: “الشغفُ أستاذ العلم”[3].. والمقصود من العلم هنا ليس العلم (Science) بضيق معناه الذي يستخدم في أيامنا الحالية، بل العلم الذي ظاهره المعلومات النظرية وباطنه المعرفة الحقيقية وما يتبع ذلك من محبة واشتياق إلى الله ؛ ولذا يقول الحق سبحانه وتعالى مخاطبًا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (سورة طَهَ: 20/114)، فالعلم الوارد هنا ليس معرفة ماهية الأشياء بشكل مجرد، ولكنه مفهومٌ يتحوّل إلى عرفان ومعرفة فعّالة تصل بالإنسان إلى محبة الله والتعمق في العشق والشوق، وهكذا يجب أن نفهم معنى أن الشغف هو أستاذ العلم.

والواقع أن بعضًا من أهل الدنيا لديهم نوع من الشغف بقراءة كتاب الكون، وعلينا أن نقابل هذا الشغفَ بكلِّ احترام وتقدير.. ولكن لما كان هؤلاء ينظرون إلى المسألة في إطار قوانين الطبيعة فحسب وبملاحاظاتهم الطبيعية والمادية لم تُتَح لهم الفرصة للانفتاح على الأفكار الماورائية، ربما كان من بين هؤلاء أناسٌ منفتحون على الروح والمعنى، بل إن بعضهم قد ركن إلى الاشتغال بعلم النفس الغيبي، فمثلًا لما طغت المادية على الغرب في وقت ما انتشرت بكثرة فكرةُ تسخير الجن وتحضير الأرواح، وقد أظهر الأديب والشاعر الفرنسي “فكتور هوجو (1802-1885م)” ولعًا كبيرًا بهذه المسألة، وأظن أننا إذا ما درسنا روايته “البؤساء” دراسة متعمقة فسنجدها مليئةً بمثل هذا النوع من الميول.. وليس “فكتور هوجو” فحسب، بل إن كثيرًا من أنصار الفكر المادّي قد اشتغلوا بهذه الأمور، لكن معظم من اشتغلوا بالعلوم الطبيعية توقّفوا عند نقطة معينة ولم يتجاوزوها؛ إما لانعدام المرشد، أو لقصور معارف الدين الذي ينتسبون إليه.

ورغم كل شيء ليس بالإمكان إنكار سعي هؤلاء لأنهم فعلوا كل ما باستطاعتهم من التأمّل في كتاب الكون.. وكما ذكرتُ من قبل فإن هناك الكثير من هؤلاء قد نذروا أنفسهم للتعرف على حياة حيوان واحد فقط، فمثلًا ذكر أحدهم أنه اشتغل عشرين عامًا بدراسة حياة العقارب، وقال آخر إنه قد قضى عمره في التعرّف على معيشة الأفعى.. وهذا بالطبع نتيجة طبيعية للشغف، ولكن لمّا لَمْ تكن الأمور الميتافيزيقية (كالوحي والغيب) مصدرَ إلهام لهم كما ذكرتُ قبل قليل فقد واصل هؤلاء سعيهم دون أن يتجاوزوا حدود الطبيعة.. فقد عجزوا عن الوصول إلى ما وراء الأشياء، ولم يكن بوسعهم الانفتاح على الأفكار الميتافيزيقية.. كما أنهم لم يقدروا على سبر أغوار الروح والمعنى، بل لم يفتشوا في أنفسهم ويتأملوا في ذلك النظام العجيب الذي يجري في اتّساق وتكامل، ولذا لم يَصِلوا إلى الفاعل الحقيقي والمؤثّر الحقيقي وهو الله .. فضلًا عن ذلك ليس بالإمكان الاعتماد على العالم المادي في إدراكِ ما يحمله الإنسان من رغبةٍ في الخلود، وآمالٍ منعقدة على الأبدية، وغير ذلك من أبعاد إنسانية.. بمعنى أن كل هذا قد جاء من عالم آخر، ووُهب إلى الإنسان من أجل عالم آخر، وهكذا أُصيب العلماء والباحثون المنغلقون على الميتافيزيقا بشيء من العمى وكأنهم لا يبصرون كل هذا، أو بنوع من الصمم وكأنهم لا يسمعون الرسالات المتعلقة بكل هذا، وبسبب بُعْدهم عن التفكر والتذكّر والتدبّر توقفوا عند نقطة معينة ولم يتجاوزوها.

ولكن إن كان هؤلاء قد توقّفوا عند نقطة معينة بسبب أفكارهم الوضعية والمادية فعلى المؤمن ألا يكون كذلك، لأنه مطالَبٌ بتعميقِ أفكاره المتعلقة بالإنسان والكون والحوادث والأشياء في ظلّ
ما تلقاه من معطيات خاصة بالحقائق الإيمانية، وأن يستعين بالتفكر والتدبر والتذكر والتفقّه للانفتاح على أفكار أخرى.

ولا جرم أن لكل إنسانٍ إحاطةً ومفهومًا وأفقًا معرفيًّا خاصًّا به.. والصوفية يلفتون الانتباه إلى هذا الاختلاف بتقسيمهم العلم إلى ثلاثة أنواع: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.. ولكن يجب على الإنسان وهو يسير بقدم العلم ليقرأ الأوامر التكوينية ويفسّرها أن يرجع دائمًا إلى القرآن الكريم القولِ الشارح والتفسيرِ الواضح والبرهانِ القاطع والترجمانِ الساطع لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه[4]، وبذلك يستطيع أن يفسر تفسيرًا صحيحًا تلكَ المواضعَ التي تبدو مبهمةً ومغلقةً في الأوامر التكوينية.

أجل، يجب على الإنسان عند اشتغاله بالفيزياء والكيمياء والفلك والإنثربولوجيا والزولوجيا أن يرجع إلى القرآن الكريم المعجز البيان؛ لأنه بمثابة المرشد الهادي غير المضِلّ.. وبذلك تُفهم لغة هذه العلوم بشكل صحيح، ويكون هذا سببًا في التعرف على الذات الإلهية التي تشير إليها وتعبر عنها تلك العلوم، ومن ثمّ حُبّها والتعلق بها أكثر وأكثر.

[1]  الطبراني: المعجم الأوسط، 6/250؛ البيهقي: شعب الإيمان، 1/262.

[2]  بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب العشرون، المقدمة، ص 271.

[3]  بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، نوى الحقيقة، ص 581.

[4]  بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، الكلمة الخامسة والعشرون، المقدمة، ص 417.

فهرس الكتاب