سؤال: ذكرتم فيما سبق أن المؤمن الحقيقي يسعى بجهدٍ وعزمٍ نبويّ بغية الفوز برضا اللّه تعالى وإحراز النجاح في خدماته، ورغم ذلك يَعتبر ذلك الجهد والسعي جهدًا ضئيلًا وسعيًا نسبيًّا وطلبًا للعناية من اللّه تعالى؟ فماذا تقصدون من وراء هذه القيود: “الجهد الضئيل” و”السعي النسبي” و”طلب العناية”؟
الجواب: على الإنسان أن يربط نيته وسعيه وجهده وخططه ومشاريعه بغايةٍ سامية، وأن يقتفي أثر هذه الغاية على الدوام، وأن يكون على استعدادٍ لأن يضحّي في سبيلها بكل ما يملك إن لزم الأمر، ولكم أن تصفوا هذا الجهد الذي تضطلعون به في هذه السبيل بالجهد النبوي؛ لأن سبيل التأثير الإيجابي في القلوب هو التحلي بالأوصاف العالية للمرشدين الحقيقيين من الأنبياء العظام ، فما يحمله هؤلاء الأنبياء الذين هم نجومُ سماءِ الإنسانية من صفات مثل العصمة والصدق والأمانة والفطنة والتبليغ إنما هي أبعادٌ مختلفة لحياتهمِ القلبية والروحية، ولقد اختصهم الله تعالى مع كل هذه الصفات بالأتمية والأكملية؛ لأنه لا يمكن لدينٍ أتمّ وأكمل أن يقوم إلا على يد أناسٍ يحملون هذه الصفات، وبما أن الله تعالى أقام هذا الدين -إن جاز التعبير- على أيدي رسله بمقتضى قوله ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/3) فعلى سالكي طريق هؤلاء الرسل أن ينشدوا الأتمية والأكملية في الإيمان والإسلام والإخلاص والعشق والشوق.
العمل من منطلق الأنانية
قبل أن يرتحل الرسولُ الأكرم صلى الله عليه وسلم إلى أفق روحه، وقبل أن يُغادر الدنيا بليلة واحدة أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يؤمّ المسلمين في الصلاة[1]، فكان هذا شرفًا عظيمًا وأفضليةً كبيرةً لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه، كما أن تقبّل المسلمين لإمامة الصّدّيق رضي الله عنه يعدّ شرفًا آخر.
أجل، لقد تقبّل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم هذا الموقف بفهمٍ عميق وصدرٍ رحب، واقتدوا بمن اختاره لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامًا.. في تلك الأثناء كشف سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سترَ حجرته المباركة فرأى أداء جماعة المسلمين لعبوديتهم في طمأنينة وراء هذا الإمام المبارك، فتبسم سرورًا بأداء رسالته، ثم أرخى الستر[2]، أرخاه في الوقت ذاته على الدنيا كلها، غير أن مفخرة الإنسانية صلوات ربي وسلامه عليه كان مسرورًا وهو يرتحل إلى أفق روحه؛ لأنه رأى تلك النخبة التي ستتحمل أعباء دعوة الإيمان واقفةً في خضوع واستسلام أمام الله تعالى تجمعها روحُ الوحدة والإخاء.. في الواقع كانت هذه هي غاية حياةِ سيد الكونين صلى الله عليه وسلم، ولذا أرخى الستر المبارك في سكينةٍ وطمأنينة.
ويمكننا أن نلمح مثل هذه الرؤية السامية وتلك الفكرة العالية عقب حادثة لقاء الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بالجن وتبليغه دين الإسلام لهم، فكما جاء في الرواية التي ذكرها سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أومأ إلى قرب أجله بقوله بعد تلك الحادثة: “إنِّي وُعِدْتُ أَنْ يُؤْمِنَ بِيَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، فَأَمَّا الْإِنْسُ فَقَدْ آمَنَتْ بِي، وَأَمَّا الْجِنُّ فَقَدْ رَأَيْتَ“، قَالَ: “وَمَا أَظُنُّ أَجَلِي إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ“[3].
أجل، لقد ربط سيدُ الكونين صلى الله عليه وسلم غايةَ وجوده في الدنيا بدعوته ورسالته، فلما انتهت رغبَ في الخلاص من ضيق جسده واللحاق بالرفيق الأعلى على وجه السرعة.
يجب على كل فردٍ يعشق القرآن الكريم، ويسعى عالميًّا إلى تحقيق مهمة “البعث بعد الموت” من جديد.. يجب عليه أن يضعَ هذه الفكرة نصبَ عينيه فيتخذها غاية له، بل عليه أن يقول…”اللهم إني عبدك، سخَّرْتَني وسيلةً للوفاق والاتفاق، واستخدمتَني في طريق الحق، اللهم إن كنتُ سأعمل بعد اليوم من منطلق أنانيتي، أو لو كانت أنانيتي ستخالط عملي فاسلُبني روحي، وخلّصني من الشقاء والتعاسة والتردّي إلى أسفل سافلين”.
على الإنسان أن يتعامل مع هذا الموضوع بجرأة وشجاعة، فإذا ما دخل إلى فراشه ليلًا ووضع رأسه على وسادته ساورته هذه الفكرة: “لا معنى ولا مغزى لحياتي إن لم أكن نافعًا لديني”.
وعلى الإنسان أن يزين هذه الفكرة بجهدٍ وعزم نبوي، وأن يعلي من همته، وينشد من الصفات ما كان الأنبياء قد تحلّوا به.. ينبغي له أن يقول: “اللهم نمِّ استعداداتي أكثر وأكثر، القدرُ قدرُكَ والقضاءُ قضاؤك، والعطاء عطاؤك، فحوّل اللهم ما قضيتَه عليّ إلى عطية تهبها لي، وتفضّلْ علينا باستعدادات لا نهاية لها، وأدِم علينا تنامي قابلياتنا، ووفِّقْنا إلى حسنِ تأمُّل الأشياء وتقويمها”.
ومَن لا حظّ له من النبوة لا يستطيع أن يبلغ أفق الأنبياء ألبتة؛ لأن هؤلاء أرسلوا بتجهيزٍ خاص لإرشاد الإنسانية، بل إنه من الصعب على الإنسان أن يبلغ حتى أفق أمثال الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل والإمام الأوزاعي والإمام الثوري ، لا سيما الأئمة الأربعة العظام فهم رجال أفقٍ عظيم أعلى حتى من الأقطاب؛ لأنهم بما حرّروا من مؤلفات وعلّموا من طلاب قد قاموا بحركة إحياء مهمة، وعملوا على استقامة فكرة الإحياء هذه على الدوام.
المهم أن نمحو ذاتيتنا
أجل، إنّ طاقتنا لا ترقى حتى إلى مستوى الظلية، ناهيك عن الأصلية لذلك المقام الذي أحرزه الأنبياء ، ولكن رغم كل هذا فعلى الإنسان أن يكون عالي الهمة في علاقته بربه سبحانه وتعالى وخدمته لدينه، وأن ينشد دائمًا الغايات السامية، وأن يُقبل على الأمر في صفاء وصدق ووفاء وهو يرجو الله أن يهبه هذه الصفات العالية.
إن الشخصيّات الشامخة التي جاءت من بعد الأنبياء وأتباعهم قد بذلت جهدًا مُضْنِيًا في هذا السبيل، ومع ذلك اعتبروا جهدهم هذا “جهدًا ضئيلًا” و”سعيًا نسبيًّا” و”طلبًا للمعونة”.. ولتوضيح هذا الأمر نذكر المثال التالي: إن الجهد الذي نبذله في هذا الموضوع يشبه حالَ مَن ألقى بنفسه في البحر ولا يعرف السباحة، فظل يتخبّط هنا وهنالك حتى يستطيع أن يعوم، فلما شاهده الناس قالوا: “إن هذا الرجل لا يعرف السباحة فهلمّ بنا لننقذه”، وهكذا حال مَن يحاول السير في طريق العظماء يقول: “اللهم لا طاقة لي على السير في هذا الطريق، ولكنني وهبت نفسي لهذا الأمر، ولقد نظرتُ إلى الأنبياء العظام والأولياء الفخام والأبرار الكرام فوجدتهم جميعهم يسبحون في هذا البحر، فكل أملي يا ربي أن أسير على منوالهم وإن كنتُ لا أتمكن من السباحة مثلهم”، ثم يلقي بنفسه في هذا البحر، وهكذا فإن مثل هذا القول وذلك الفعل يُعدّان طلبًا للمعونة، ولا جرم أن الله تعالى لن يسمح بغرق عبدٍ توجَّه إليه، وسيأخذ بيده وينقذه مما هو فيه، وبعد ذلك يفتح له آفاقًا جديدةً، فيجعل من اللمعة شمسًا، ومن القطرة بحرًا، ومما لا شيء كلَّ شيء، المهم هو أن نتبنى هذا المفهوم ونمحو ذاتيتنا؛ وأن ننسلخ من موجوديتنا ودعوى الأنانية، فكما تعلمون لا قيمة للصفر مطلقًا، ولكن إن وضعنا بجانبه رقمًا واحدًا زادت قيمته أضعافًا مضاعفة.
ومن ثم فعلى الإنسان أن يبذل في هذا السبيل كلَّ ما أوتي من جهد وسعي، ولكن عليه أن يلزم حدّه على الدوام، وأن يعيَ منزلته، ويكون في تيقُّظ وحذر دائمين.. يجب ألا يَنسب الجمال إلى نفسه ألبتة، بل عليه أن يستحضر دائمًا دون نسيانٍ أنه ليس مظهرًا للجمال بل ممرًّا له -على الأكثر-؛ لأن الجمال ليس ملازمًا لذاتيتنا، فأحيانًا يظهر وأحيانًا لا يظهر، مثل فقاعات الماء التي تعكس أشعة الشمس، فكل الجماليات لا تليق إلا بصاحب الجمال سبحانه وتعالى. أجل، ليس هذا الجمال خاصًّا بنا ولا نابعًا من لدنّا، وهكذا فمن يفكر بهذه الشاكلة يبارك الله له في أعماله ومجهوداته، ويصبح بطلَ الآية التي تقول: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/7)، ويفيض الله عليه بمزيد من النعم باستمرار.
[1] صحيح البخاري، الأذان، 51؛ صحيح مسلم، الصلاة، 90-97.
[2] صحيح البخاري، الأذان، 94؛ صحيح مسلم، الصلاة، 98.
[3] الطبراني: المعجم الكبير، 10/67.