سؤال: جاء في الحديث الشريف: “اطْلُبُوا الرِّزْقَ فِي خَبَايَا الْأَرْضِ”[1]، فما نوعية الوظائف التي يحمّلها هذا الحديث الشريف للمؤمنين؟
الجواب: بعد أن خلق اللهُ تعالى الإنسانَ لم يقلْ له: “اذهب، وحبلُك على غاربك”، بل أنزله إلى الأرضِ وسخّرها له بمثابة مركز تدريبٍ، وسخّر له كلّ شيء تحت إمرته، غير أنه ليس من الصواب أن نركن إلى الراحة في بيوتنا ونقعد عن طلب الرزق؛ لأن الحوادث التي تقع في هذه الدنيا وهي دار الحكمة، تجري ضمن دائرة الأسباب، ونحن مكلَّفون ومأمورون بمراعاة هذه الأسباب، أما الآخرة فهي دار القدرة، فالحكمة هنالك تتأخر، وتتقدّم القدرة؛ إذ يجد الإنسان أمامه كلَّ ما يخطر بباله ويدور بخلده.. والواقع أن الله سبحانه وتعالى قد كشف عن أمثلةٍ لذلك باستجابته الدعاء، فأحيانًا ما يدعو الإنسان بدعاء ويمنّ الله تعالى عليه باستجابة هذا الدعاء على الفور، وعلى نفس الشاكلة فما إن تحرّكوا شفاهكم بشيء في الآخرة أو يدور بعقلكم شيءٌ ما حتى تجدونه أمامكم فورًا؛ لأن القدرة القاهرة هنالك تكشف عن نفسها بتصرّفاتها وبوضوحٍ تامّ.
المعادنُ والأرزاقُ المجهولة حتى الآن
وقد أشار الحقُّ سبحانه وتعالى في كثيرٍ من آي القرآن الكريم إلى أن السماوات والأرض مسخرات بأمر الإنسان، فإذا ما نظرنا إلى الأشجار التي تتمدّد فروعُها، والمياه التي تتدفّق بغزارتها، والبحار المسخّرة لخدمتنا، وما في باطنها من كائنات حيّة، وضوء الشمس وغير ذلك لوجدنا أننا نسبح في بحارٍ من النعم.. ما أكثر النعم التي يمكننا أن نعثر عليها عند البحث والتنقيب في الأرض والبحار!، غير أن كلّ هذه النعم مستورةٌ بالأسباب من ناحية ما؛ بمعنى أن “الأسباب لا تأثير لها تأثيرًا حقيقيًّا، وإنما هي ستائر أمام عزة القدرة وعظمتها، لئلا يرى العقلُ يدَ القدرة وهي تُباشِرُ الأمورَ الخسيسةَ بنظرِه الظاهر”[2]، ولذا فالوصول إلى هذه النعم التي حجبها الله بالأسباب يتطلّب خرق وتمزيق هذه الحجب، فمثلًا إن أردتم أن تجنوا ثمرة شجرةٍ ما فلا بدّ أولًا من إلقاء البذرة في التراب أو أخذ الفسيلة وغرسها، ثم بعد ذلك تهيّئون الجو المناسب لنموّها، وفي هذا يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اطْلُبُوا الرِّزْقَ فِي خَبَايَا الْأَرْضِ“، وهو بذلك يوصينا بأن نجتهد ونسعى للوصول إلى النعم والأرزاق التي خلقها الله تعالى في خبايا الأرض، فلا يعزب عن علمكم اليوم مدى المكانة التي تحظى بها المعادن النفيسة ومصادر الطاقة والمشتقّات البترولية في الاقتصاد العالمي.
فثمة توقُّعات دائرة الآن حول هذه المعادن واحتياطيات مصادر الطاقة هذه، لكنها احتياطيات لم يتمّ التوصل إليها إلا في الوقت الحالي؛ بمعنى أن الإنسان كلما سبر أعماق الأرض ونقّب فيها دون أن يضرّ بها أو يعرّض ساكنيها للمخاطر كلّما تعرّف على المخزون الموجود بباطنها، ولكنْ هناك أراض من الناحية البيولوجية يصعب سبر أغوارها في الوقت الحالي.. فمثلًا لو ضربتم بعضَ الأماكن بالمعول فربما انفجرت صهارات.
من جانب آخر، ثمة تغيرات دائمة في الكرة الأرضية مثل تعرُّض بعض الأحياء لطفرةٍ إحيائية، وكما أن الله تعالى قادرٌ على خلق هذه التغيرات فهو قادرٌ أيضًا على خلق أرزاق جديدة باطّراد تحت الأرض، فهل يستطيع أحدٌ أن يقول إن بعض الأشياء التي حسبناها قد نفدت وانتهت لن يخلقها الله مرات ومرات؟ فكم من تغيراتٍ قد طرأتْ على الكرة الأرضية، وكم من أقطابٍ بدّلت مكانها، وكم من جبالٍ وبحارٍ تبادلت أماكنها، فهناك احتمال يفيد بأن هذه الادعاءات الدائرة حول مخزون مصادر الطاقة والمعادن ما قُصد بها إلا التضليل والخداع، فربما تريد بعض مراكز القوى بذلك أن تخدّر الناس وتخدعهم في سبيل استمرارِ وضمانِ مصالحها.
الأرض كالأم تحتضن الإنسان بشفقتها
يقول الحق تعالى مشيرًا إلى أهمية الأرض بالنسبة للإنسان: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا﴾ (سورة النَّبَأِ: 78/6)، فالآية الكريمة تذكر أن الله تعالى لم يدع هذا الإنسان العاجز الضعيف الذي يشبه طفلًا حديث الولادة للشقاء على الأرض، بل جعل له الأرض “مهدًا” تهدهده بيديها كما الأمّ، وأمّن له غذاءً بجانبه، فإذا كان الإنسان يُنظر إليه بنظرة المرحمة هذه ويعيش بهذا القدر من الطمأنينة والأريحية فمن الممكن أن يستفيد من كلّ النعم التي على الأرض بعد أن يؤدي إرادته حقها، ولكن لأن الإمكانيات الحالية قد أعمتْ عينَ الإنسان فقد أصبح لا يُبصر بشكلٍ تام النعمَ المعروضة على الكرة الأرضية، بيد أن الإنسان لو فتح عينيه والتفت حوله بمنتهى العجز والفقر وبلسان حال الاضطرار والحاجة فسيرى أن هناك الكثير من النعم لم يستطع أن يراها حوله من قبل، وأن هناك أبعادًا ومعاني في هذه النعم لم يفطن إليها من قبل أيضًا.
ومن أجل الوصول إلى النعم الموجودة بالكون أوصانا الأنبياءُ العظام بالبحث عن المفتاح المشفّر لهذه النعم؛ لفتح أبوابها والاستفادة منها، وأشاروا إلينا في الوقت ذاته إلى أن الرسائل الإلهية كالقرآن والإنجيل والتوراة بمثابة مفاتيح علينا استخدامها والانتفاع بها، وعلى ذلك فالقرآن المعجز البيان مفتاحٌ وضعه الله تعالى بأيدينا للاستفادة من النعم الموجودة على الأرض، ولكننا للأسف لم نُحسن الاستفادة من هذا المفتاح وبخاصة في القرون الأخيرة، كما لم نستطع التوصل إلى طريقٍ للاستفادة من هذه النعم، وبدلًا من ذلك انتابتنا بعضُ الأمراض التي تشلّ حركة الإنسان مثل الشعور بالأفضلية على الآخرين، ونشوة النصر، والولع بالشهوات، والمنفعة والمصلحة الشخصية.
ولقد كانت الرغبة في السيطرة على العالم والاستحواذ على القوة الاقتصادية من أهم العوامل التي شحذت همم الآخرين وحركتهم، والمثير أن هؤلاء لمّا انطلقوا بدافعٍ من عشق البحث والدراسة إلى التفتيش والبحث في الطبيعة اكتشفوا أشياء جديدة باطراد، فمثلًا لما كانوا يبحثون عن معدنٍ ما تبدّى لهم معدنٌ آخر وهكذا، فكان من نتيجة ذلك أن اكتشفوا حقولَ المعادن ومخزونات احتياطي البترول في مناطق مختلفة من العالم، فوضعوا خططًا للسيطرة عليها، ثم قرّرت هذه القوى الاستبدادية تمزيقَ الدولة العلية العثمانية، وقالت: “لو استطعنا تمزيق الدولة العثمانية لكان لكلِّ واحد منا نصيبٌ منها، ولوضع بعضُنا يدَه على “بنغازي”، والبعض على “العراق”، والبعضُ على “الجزيرة العربية”، وبذلك يمكننا أن ننتزع من أيدي العثمانيين هذه الثروات التي يتحكمون فيها”، ولكن إلى أي مدى كانت الدولة العلية على وعي بهذا الأمر؟ وإلى أي درجة قيّمت هذا الوضع؟! هذا أمرٌ يطول حوله النقاشُ والجدال، ولكن لا سبيل إلى إنكار أننا قد عانينا في فترةٍ من الفترات من قحطِ رجالِ الفكرِ والعمل والحركة في عالمنا، ولم يتوافر لدينا كادرٌ من المثقفين يستطيع التصدي لمثل هذه الأطماع.. أما الغرب فقد كان يعيش نهضةً صناعية في تلك الفترة، ونظرًا لما تعرّض له من تغيّرات مهمة دخل مرحلة اكتشاف العالم، وانطلاقًا من حبِّ البحث والدراسة أخذَ يتأمّل في الأشياء والأحداث، ولا شك أن الغربيين قد لاحت لهم حينذاك بعضُ الاكتشافات بغير قصدٍ ودونما توقّع، فعند البحث عن الفضة وجدوا الذهب، وعند البحث عن الذهب وجدوا الزبرجد، وعند البحث عن الزبرجد وجدوا الياقوت وهكذا، فاكتسبوا خبرات وتجارب جديدة.
إننا محتاجون إلى عشّاق الحقيقة
وكما كان في العصور السابقة فإننا نجد في عصرنا أيضًا أولئك الذين يحملون مفهومًا سلطويًّا استبداديًّا مثل الهيمنة على العالم، والسطوة ونفاذ الكلمة، وأن يكونوا محلّ إكبارٍ وإجلالٍ
من الجميع، وقد استباح هؤلاء كلَّ الوسائل المشروعة وغير المشروعة للاستحواذ على الثروات في باطن الأرض وخارجها في أنحاء مختلفة من العالم، فمثلًا ذكر بعض المختصِّين المعنيين في تركيا أن هناك أراضي تم الاستيلاء عليها يُتوقَّع وجودُ العديد من المعادن بها مثل البترول والذهب والفضة وغير ذلك، ومن ثمّ فإن لم نُعْطِ إرادَتَنا حقَّها في هذا الموضوع ولم نرع ثرواتنا فلا مناص من تجرّع الحسرة والهجران مرة أخرى.
لا سيما وأن مصادر الطاقة باتت في يومنا الحالي على درجة عالية من الأهمّيّة بقدر أهمية التنعّم بملذّات الحياة وإنتاج مستلزمات لاستخدامها في وسائل التنقّل المختلفة.. فكل شيءٍ مِن وإلى الطاقة؛ لأن العديد من الأشياء بدءًا من الإنارة حتى وسائل المواصلات في البر أو الجوّ في حاجةٍ إلى الطاقة، ونظرًا لهذه الأهمية الكبرى للطاقة غدت حديثَ الناسِ في معظم المنتديات.
لقد بدأ إنساننا اليوم يحرز بفضل الله وعنايته موقعًا جديرًا بالاحترام والغبطة والتقدير في محيطه؛ فأنشأ جسورًا للصداقة، وأقام علاقات تجارية واقتصادية مع شتّى الدول وفي العديد من الجغرافيات، غير أن أكثر مَن نحتاجهم بالفعل الآن هم رجال العلم وعشّاق الحقيقة الذين تجيش صدورهم بالعشق والاشتياق للبحث والدراسة، ولديهم عزمٌ ومَضَاء للوصول إلى الحقيقة وربطها بالمعنويات، فالطبيعية والمادية لا تصلان بالإنسان إلا إلى نقطةٍ معينة. أجل، لا يصل الإنسان إلا إلى المدى الذي تسمح به هذه المفاهيم؛ لأن هذه الأنظمة مقيّدةٌ بحدود المادة، ومن ثمّ فإن حدود البحث تتوقّف عند نقطةٍ معينة، ولكنكم أنتم يا طلّاب المعالي!
يا أبطال “هل من مزيد”! إن لم تكفّوا عن قول “هل من مزيد” فستصلون إلى الذروة.
نعم، بهذا المفهوم الواسع يمكن لعلمائنا وباحثينا أن يثقبوا أعماق الأرض بمختبراتهم ومراكز بحثهم التي خُصّصت لهم، حتى يسبروا صهارات البركان، ويستخرجوا من بين طبقات الأرض ما يجدونه نافعًا للإنسانية، ويستحلبون الأرض جيدًا ويحاولون نفعَ إنساننا والإنسانية بما أحرزوه من اكتشافات جديدة.
[1] أبو يعلى: المسند، 7/347؛ الطبراني: المعجم الأوسط، 1/274.
[2] بديع الزمان سعيد النورسي: المثنوي العربي النوري، نقطة، ص 423.