سؤال: ذكرتم في مناسبات شتّى أن الصوفيين الحقيقيّين هم أكثر الناس معرفة بروح الإسلام، فإلامَ يهدف هذا القول، وما هي الخصائص العامة التي يتّسم بها أبطالُ القلب والروح المشار إليهم هنا؟
الجواب: أرى من المفيد قبل التطرّق للإجابة على هذا السؤال أن أنوّه هنا بهذه المسألة المهمة: لا يحق لأحدٍ أيًّا كان أن يستخف بإسلام أخيه أو يستهين به، فقد يُكتب القبول لعمل الشخص أيًّا كان مستواه طالما كان في سبيل الله.. فالشهادتان بدايةً هما بمثابة مفتاحين سرّيّين لباب الجنة؛ يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله دَخَلَ الْجَنَّةَ” ، وعندما ذكرتُ هذا الحديث من قبلُ سألني أحدُ الأصدقاء قائلًا: وإن لم يعمل؟ فأجبته بما أننا نجهل قلب الإنسان ونيته وما يدور في أعماقه فليس من الصحيح أن نجزم بشيء في هذه المسألة، ولكن اعتمادًا على قاعدة “نحن نحكم بالظاهر” فعلينا أن نحسن الظن في ذلك الشخص الذي نطق بكلمة التوحيد.
روي عن سيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: بَعَثَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً إِلَى الْحُرَقَاتِ فَنَذِرُوا بِنَا فَهَرَبُوا فَأَدْرَكْنَا رَجُلًا، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، فَضَرَبْنَاهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟” فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّمَا قَالَهَا مَخَافَةَ السِّلَاحِ! قَالَ: “أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَهَا أَمْ لَا؟ مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟” فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أُسْلِمْ إِلَّا يَوْمَئِذٍ” .
أجل، من غير المحتمل أن يكون هذا الصحابي الجليل قد انساق وراء مشاعره، فقتل ذلك الشخصَ حقدًا وكرهًا له، ولكن هذا يعني أن سيدنا أسامة ربما لم يستطع أن يعي النكتة الأساسية في هذه المسألة؛ لأن كل الحقائق كانت تتنزّل غضةً طريّةً في ذلك العهد، وسرعان ما يطبقها الصحابةُ الكرام على جناح السرعة، فإن لم يبلّغهم النبي صلى الله عليه وسلم بها فمن أين كانوا سيعلمونها! ولذا لما أُخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بصنيع قائده المغوار الحِبِّ بن الحِبِّ؛ أسامة بن زيد بن حارثة قال له معاتبًا: “أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ”، وعندئذ قال سيدنا أسامة: “وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أُسْلِمْ إِلَّا يَوْمَئِذٍ”، وهذا يعني: وددت أني لم أسلم إلا يومئذ حتى لا أتعرّض لمثل هذا العتاب من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
النظر بحسن الظنّ إلى الآخرين
وإذا ما تناولنا المسألة وفقًا لهذه المعايير يمكننا أن نقول: مَن أدّى عباداته بشكلٍ أو بآخر فقد سلك بمشيئة الله سبيل السلامة والأمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا وَصَامَ شَهْرَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ لَهُ ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ رَسُولِهِ” .
أجل، مَن أدى ما عليه من تلك العبادات التي أشار إليها الحديثُ الشريف فليس بالشخص الذي يُستخفّ به أبدًا.
والواقع أن بعض العلماء قد توقّفوا طويلًا عند مسألة قبول إيمان المقلّد من عدمه ، فهم يرون أن المحقق هو الذي يعالج القضايا مذعنًا إلى صوتِ ضميره، معتمدًا على الأدلة والبراهين، أو كما يقول الأستاذ النورسي رحمه الله: ينظر إليها بعين حدسه ويستمع بأذنه ويتحرّك بمشاعرَ يُنشئها هذا الحدْس، ويقيّم المسائل الإيمانية بهذا الأفق.. أما المقلّد فهو الذي يكتفي بالتقليد فحسب؛ ولذا ربما وصفناه في زمن ما بالمسلم النظري لا العمليّ، ولكن علينا أن نحسن الظنّ أيضًا في مثل هذا الحال، فمثلًا إذا ما رأينا شخصًا في صلاته يحكّ رأسه أو يزيد على ثلاث حركات متواليات؛ فعلينا أن نقول: ربما تراءى لي هكذا”؛ فلعل الله يمتحننا بذلك الشخص، أو يمتحننا بأنفسنا حتى يكشف عن مستوى حسن ظنّنا.
نعم، يا تُرى هل نُمتحن حقًّا بما يقوم به ذلك الشخصُ في صلاته من شدٍّ لبنطاله أو تحريكٍ لعمامته أو غير ذلك!؟ لا ندري! وعلى ذلك ينبغي لنا أن نضع دائمًا حسن الظن في اعتبارنا وأن ننظر بهذه النظرة إلى مَن حولنا.
للصوفية مناهج شتى
ولنرجع إلى موضوعنا الأساس فنقول: إن للصوفية سبلًا ومناهج مختلفةً، ومقامات ومراتب شتى، فمثلًا قد يصل الصوفي إلى منزلةٍ معينة بعد أن يرتقي روحيًّا في مدارج حياة القلب والروح.. وأحيانًا يحدث أن يصل بعضُ العظام أمثال الإمام الرباني (971-1034هـ) ومحي الدين بن عربي (558هـ-638هـ) والشيخ عبد القادر الجيلاني (470هـ-561هـ) إلى نقطةٍ ما، وعند ذلك يدركون ماهية أنفسهم ومكانتهم.. ولذا قد يقول بعضُهم: “قدمي هذه على رقبة كل وليّ” رغم أنه يُشدّد على نفسه وقت المحاسبة ويأخذها بالقسوة والتدقيق.. فمثل هذا الكلام يعبر عن وعي هذا الولي بمقامه.. بل إن العوام من أمثالنا قد تنتابه أحوال غريبة تحاكي هذا الحال، إلا أنه ليس هدفًا لنا ولا مطلوبًا، وليُعلَم أنه إن لم يوثِّق مَن هو على هذا الحال صلتَه بربِّه سبحانه وتعالى فإن مِثلَ هذا الوعي قد يسوقه -نسأل الله السلامة- إلى الأنانية والنرجسية.
أجل، إن بعضَ الأولياء العظام قد يبلغون هذه الذرى وهم على وعيٍ بماهيّة أنفسهم، ويستمتعون بأنهم على وعي بالمقامات التي أحرزوها.. فإن لم يقع هؤلاء في الخطإ بأن لم يُسيؤوا الظنّ بغيرهم أو يستخفّوا بهم فبإمكانهم أن يحتفظوا بمقاماتهم التي وصلوا إليها في تلك الذرى من الحياة القلبية والروحية.
لا أمان مطلقًا لأحد
ليس بيد أحدٍ وإن كان في القمة تفويضٌ أو توكيلٌ يُغريه بعدم الخوف؛ وإذا كان الوضع هكذا فكيف لا يخاف العبد؟ فضلًا عن ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ” ، وعلى ذلك يجب ألا ننسى أن مَن لم يخفْ من عاقبته خيف على عاقبته..
ولكم أن تتأملوا في أحوال وأفعال مفخرة الإنسانية سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم؛ الذي أُرسل لإنقاذ البشرية وانبعاثها من جديد. أجل، لقد استطاعت البشرية أن تنبعث من جديد وتنفتح على آفاقها بفضل تشريفه صلى الله عليه وسلم ودعوته، إنه أبٌ معنوي للبشريّة جمعاء، ولعلّ قوله صلى الله عليه وسلم: “كُنْتُ نَبِيًّا وَاٰدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَد” يشير إلى هذا الأمر؛ بمعنى أن ولد آدم سبق آدمَ عليه السلام في الرتبة والمنزلة، ومع ذلك إذا ما نظرنا إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ومناجاته لأدركنا مدى خشيته لربه سبحانه وتعالى، فرغم ما بيده من تعهّدٍ وضمانٍ بغفرانِ ذنوبه إلا أنه كان يستعيذ بالله
من كثيرٍ من الأمور، ولذا فإن احترامنا له يقتضي أن ننسب فعله هذا إلى كونه الرائدَ والمرشدَ؛ بمعنى أنه يعلّمنا ويرشدنا بهذه الأدعية إلى كيفية الدعاء، ولكن لا يعني ذلك أن أدعيته ومناجاته كانت لمجرد إرشاد أمته، بل كانت تعبر عما يشعر به من إخلاص وصدق وخشية من الله تعالى.
كُنْ بين الناس فردًا من الناس وإن كنتَ في القمة
وثمة نوعٌ آخر من الولاية، وهو أن يعتبر الإنسانُ نفسه من آحاد الناس وإن طاف بين القمم أو وصل إلى منازل تَحار لها العقول.. ومن وصلوا إلى هذه المرتبة من الولاية لا يستخفّون بأحد، ليس هذا فحسب بل يواجهون أنفسهم ويحاسبونها ويجاهدونها، وهذا النوع من الولاية يُعدّ من جهةٍ أعظمَ قيمةً وقدرًا من الولاية السابقة.
يقول سيدنا عمر رضي الله عنه: “حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا” ، والحقُّ أن على الجميع أن يحاسبَ نفسه، وأن يقيّد في دفتر حافظته ما جال بخاطره، وانغرز كالحربة في خياله من أفكارٍ قبيحة بغيضة كدَّرتْ ذهنه، وأن يقلّب النظر فيها قبل النوم، ثم يقول: كم أنا إنسان وضيع، كيف أسمح لهذه الأفكار القبيحة بأن تراود ذهني والمفترض أن يكون ذهني بمنأى عنها.
أجل، على الجميع أن ينظر إلى نفسه ويرى نفسه دون الآخرين، ولا يسيء الظنّ بأحدٍ، كأن يقول مثلًا: “لقد اكتفى هذا الشخص بالجانب النظري لا العملي من المسألة، فمعرفته لا تتعدى المسائل الفقهية البسيطة التي يعلمها الكل”؛ لأن النفس -كما يقول الأستاذ النورسي رحمه الله- أدنى من الكل والوظيفةُ أسمى وأعلى من الكل .. وقد عبر وليّ من أولياء الله عن هذه الحقيقة نفسها قائلًا:
كلُّ عبدٍ هو مثمرٌ وَحَسَنٌ صحيح
وَوَحْدِي أَنَا العقيم وَوَحْدِيَ الْقَبِيحُ
أجل، من اشتغلَ بأخطائه لا يستخفّ بأحد، ولا يظنّ سوءًا بغيره، فإذا ما نظر إليه لا تساوره أفكارٌ وأوهام من قبيل: “لماذا لا يستغرق في الصلاة حتى ينسى القيامَ من السجود، لماذا لا ينسى أن يفطر إذا ما حلّ وقت الإفطار؟”.
ولعل الأفكار التالية هي التي يجب أن يفكر فيها أصحاب الدقة العالية في معايشة الدين إذا ما فكروا في أنفسهم: “الواقع أن ما أتمتّع به من إمكانيات يوجب عليّ أن أقوم بما أقوم به، فكم من الناس لم يعطوا هذه الإمكانيات والقدرات فلم يرتبطوا بكتاب ربهم ارتباطًا وثيقًا، ولم يصلوا إلى عين ماء الحياة أو المنهل العذب المورود، ولم تتوافر لديهم الكتب النورانية التي بحوزتنا، ولم يتعرّفوا على أولياء الله من أمثال عبد القادر الجيلاني، والشاذلي، ومصطفى البكري… ومن ثمّ فعليّ أن أعبد الله تعالى بما يتوافق مع ما أسبغه عليّ من نعمٍ لا حقَّ لي فيها ولست جديرًا بها، وإن خالفتُ هذا الأمر سقطتُ في الهاوية”.
فلو قرّب الله تعالى إنسانًا من باب حضرته الإلهية فهذا يعني أن ذلك الشخص تقع عليه -من حيث التكليف الشخصي الذي لا يتعدى إلى غيره- مسؤولياتٌ أكبر وأعباءٌ أعظم.. يقول فضيلة الأستاذ النورسي في رسالته “الإخلاص”: “من قصّر في الإخلاص التام فقد هوى من على برجِ الخلّة العالي، ولربما يتردّى في وادٍ سحيق؛ إذ لا موضع في المنتصف” .. بمعنى أن الغنم بالغرم، فمن أخذه الله تعالى إلى حضرته، وأطلعه على بعض الغيب ثم لم يؤدّ ذلك حقّه فلن يعامل ألبتة معاملة الذين يقفون في الدهليز
أو قاعة الاستقبال العامة، بل وربما يُرمى به إلى الخارج، ومن هنا نفهم سببَ عتاب الله تعالى لسادتنا الأنبياء العظام المحفوظين بالحصانة الإلهية والعصمة الربانية؛ لأن الفضائل التي حظوا بها عظيمةٌ للغاية.
اشتهاء العبادة
يُعتَبَرُ التصوُّفُ مسلكًا مهمًّا للغاية، وذلك لأن أربابه راعوا الجانبَ العملي من المسألة؛ بمعنى أنهم ربطوا ما يقومون به من أعمالٍ بالحياة القلبية والروحية؛ فمثلًا إن جعلْنا العبادة جزءًا من طبيعتنا اشتدّت رغبتُنا في العبادة بقدر رغبتنا في الطعام والشراب، وعندئذ يتحقّق ما نُسميه بـ”التعمّق الإيماني”. أجل، إن جعلْنا الأمورَ الإيمانية جزءًا من فطرتنا تشكّلَ لدينا اشتهاءٌ لهذه الأمور، وهذه هي حقيقةُ الأمر.
يقول الأستاذ النورسي رحمه الله: “انسلّ من الحيوانية، ودَع المادية، وادخلْ مدارجَ حياة القلب” ؛ بمعنى أن للقلب والروح مدارجَ حياةٍ تعلو الجسمانية والنفسانية، وهذا أمرٌ لا يجوز إهماله ما دام بإمكاننا أن نحرزه بالتدبّر والتذكّر والتفكّر والعمل.
لقد بذل الملايين من الأصفياء والأولياء والأبرار والمقربين حتى الآن جهودًا عظيمة في هذا الأمر بعزمٍ وثباتٍ نبويّ، فوصلوا بفضل من الله وعنايته إلى مرتبة حقِّ اليقين -وإن كان الإمام الرباني له رأي آخر في هذا الشأن -، فحوّلوا النظريّ إلى عمليّ، ولم يكتفوا بسماع اسم “العسل”، بل تذوقوه، وأدركوا ماهيته، فمهما قالوا وصوروا لكم “العسل” فلن يمكنكم أن تتعرفوا على مذاقه الحقيقي دون أن تضعوه في أفواهكم وتطعمَه ألسنتكم، وكذلك الجنة إن صُوّرت لكم بشكلٍ يَخلُب الألباب أو حتى قيل لكم: “إن رؤية الجمال المقدس والكمال المنزّه للذات الجليلة سبحانه وتعالى تساوي ساعةٌ منها ألفَ ألفِ سنة من نعيم الجنة” ، فلن يمكنكم أن تستوعبوا معنى هذه الأشياء إلا بمعايشتها.
وهكذا المسائل المتعلقة بحياة القلب والروح لا تُفهم أبدًا إلا بمعايشتها، وقديمًا قالوا: “من لم يذق لم يعرف”؛ بمعنى أن على الإنسان أن يذوق بنفسه حياة القلب والروح ويعايشها حتى يفهم ما هي.. وعلى ذلك فالمؤمنون بالمعنى الحقيقي هم أبطال القلب والروح، ولا يُفهم من كلامي أننا نستخفّ بإيمان غيرهم من المؤمنين؛ فإنه لا ينبغي لأحد أن تساوره شبهةٌ في إيمان أيِّ مؤمن، وليس المراد هنا سوى إيضاح تعمّق الإيمان وسعته في أفق أبطال القلب والروح.