سؤال: ما المعنى الذي يُفيده مصطلحَا التديّن والحساسية الدينية؟
الجواب: للتديّنِ مراتب شتى ودرجاتٌ متفاوتة؛ تبدأ على الجانب النظري من احترام المبادئ الدينية والانصياع لأوامر الدين إلى حمايته والذود عنه، وعلى الجانب العملي من معايشة الدين إلى جعله روحًا للحياة، فمثلًا يؤمنُ البعضُ بما يجب الإيمان به على حسب مستواهم المحدود من المعرفة بأمور الدين، فيؤدُّون عبادتهم وطاعتهم حسب ذلك المستوى، ومن الناس من يتناول الدين بِشِقّيه النظريّ والعملي بشكلٍ أكبر وأوسع؛ فيأتي بما أمرَ به الدين، ويتجنّب ما نَهى عنه، وفوق ذلك يحاول ألا يقترب من المشتبهات خشية الوقوع في الحرام، بل يعمل على أن تكون التقوى هي مدار حياته، أما الذين يعايشون الدين بوعي وإدراك أكبر؛ فهم يؤدون عباداتهم ضمن أطر المراقبة، ويعملون على أن يكون الإحسان هو نبراسُ حياتهم، ومن ثم فلِلتدين مراتب شتى واسعة متفاوتة كما بين الثرى والثريا، ومن المهمّ ههنا أن نقول: إن التديّن حتى وإن كان
في مرتبته الأولى فهو ذو أهمّيّة حياتيّة لا يُستهانُ بها أبدًا.
أما الحساسية الدينية فتعني أن يراعِي الإنسانُ بدايةً المعاييرَ الدينية في حياته الشخصية ولا يحيد عنها قيدَ أنملة، وأن يُظهِر دقَّته الشديدة وحساسيّته البالغة في سبيل أن يُطبَّق الدين بين أفراد الدائرة القريبة منه والبعيدة عنه ومَن يتحلّقون حوله ويترقّبون أوامره؛ وبتعبير آخر تعني الحساسية الدينية أن يواصل الإنسان حياته في رغبة واشتياق إلى المحبوب الذي ترنّم به الشاعر يحيى طَاشْلِيجَالِي[1] بقوله:
ألا ليت حِبّي يُحبُّه الخلق أجمع
وليت قصته مدار حديثنا فهي الأمتع
ليتني أُشعِل جذوةَ محبة الله في قلوب العباد!
أما الشعور الذي يجب على المؤمن ذي الحساسيّة الدينيّة أن يشعرَ به إزاء غيره فهو: ليتني أُحدّث هؤلاء الإخوة وأوقد في قلوبهم جذوة حبّ الله، ليتني أُثير فيهم الرغبة في معيته سبحانه وتعالى، ليتهم يرتقون في مدارج الدعاء إلى أن يصلوا في دعائهم إلى مرحلة من القرب يقولون فيها: “اللّٰهُمَّ عَفْوَكَ وَعَافِيَتَكَ وَرِضَاكَ وَتَوَجُّهَكَ وَنَفَحَاتِكَ وَأُنْسَكَ وَقُرْبَكَ وَمَحَبَّـتَـكَ وَمَعِيَّـتَكَ وَحِفْظَكَ وَحِرْزَكَ وَكِلَاءَتكَ وَنُصْرَتَكَ وَوِقَايَتَكَ وَحِمَايَتَكَ وَعِنَايَتَكَ”.
وعلى ذلك فالمؤمن الذي يتمتّع بهذه الحساسية يسعى جاهدًا كي ينقل هذه الفكرة إلى شعب دولته بل إلى البشرية كلها ولا يقتصر على المحيط الذي يعيش فيه فحسب، بل يعمل على إثارة هذا الانفعال وإيقادِ هذه الجذوة في قلوب الجميع؛ لأن همَّه الوحيد هو توطيد محبة سيد السادات صلى الله عليه وسلم في القلوب أجمع، فإذا ما ذُكر اسم روح سيد الأنام صلى الله عليه وسلم احترقَ شوقًا وحسرةً وأسًى.. ومن جانب آخر فإنه يتلوى همًّا أن يضِل هؤلاء الناس أو يزلّوا أو ينحرفوا، ويُكابدُ هذا الهمُّ ذهنَه دائمًا، فهو مشغول بهذا الأمر على الدوام، يعملُ على وضع خططٍ وحلولٍ لهذا الأمر، قائلًا في نفسه: “يا تُرى! ماذا يمكنني أن أفعل حتى أجنّب الناس مواضعَ الزلل، ماذا عليّ أن أفعل؟!”.. وحاصل القول: إنه يسعى جاهدًا مجتهدًا ببالغِ الدقّة في سبيل إرشادِ المجتمع، والحيلولةِ دون زيغه وضلاله ومنعه من الانسلاخ عن دينه.
الاهتمام بإحياء الآخرين
والمؤمن الذي يمتلك هذه الحساسية لا يكتفي بأن يُرفرفَ الاسم الجليل المحمّدي على مآذن بلده فحسب، بل يتطلّع إلى أكثر من ذلك، ويضع الحديث الشريف: “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ“[2] هدفًا ونبراسًا له، ويرسم حياته وفقًا لهذه الغاية، ولكن عليه أيضًا ألا يُقلِّل من شأن نفسه وهو يسعى لتحقيق هذه الغاية فيقول: ماذا يمكن لرجلٍ مثلي أن يفعل؟”، بل عليه أن يسعى بعزمٍ وتصميم لتحقيق غايته انطلاقًا من روح المسؤوليّة الملقاة على عاتقه؛ مع الاعتقاد بأن الله تعالى يُجري الأمور الكبيرة على أيدي الصغار، وعليه أن يضعَ في ذهنه أن القلب المحمّل بالإيمان يستطيع أن يجد السبل التي يبثّ من خلالها إلهامات روحه إلى جميع القلوب.
أجل، يجب علينا أن نعرف أن الإنسان لو كان همُّه الأمةَ كلها لأجرى الله على يديه أعمالًا لا تطيقها إلا الأمة بِرُمّتها؛ ولَيَسّر له مثل هذه المهمة السامية كما فعل مع سيدنا إبراهيم عليه السلام ومفخرة الإنسانية محمد (عليه ألف ألف صلاة وسلام).
وكلُّ هذا تعبيرٌ عن الحساسيّة البالغة في الحياةِ الدينيّة، والتي تتعدّى حدود التديّن الشخصي؛ وبتعبير آخر: يمكننا أن نُطلق عليها الاهتمام بإحياء الآخرين، ومن ثم يمكن القولُ: إن هناك اختلافًا بين التدين والحساسيّة الدينية، ولكن ثمة حدودًا مشتركة بينهما أيضًا؛ فالحدُّ النهائيّ للتديُّن، هو أن يتجنّب العبدُ المشتبهات، ويعتبرَ نفسه مجرِمًا حقيقيًّا بسبب ما فاته من صلاة، وأن يؤدي وظائفه ومسؤولياته بإتقان كامل، وأن يشعر بالفرح والسرور عند أداء ما أمر الله به من باب التحديث بالنعمة، وإلى جانب ذلك يساوره القلق من أن يكون ما فعله قد شابه الرياء أو داخلته السمعة.. وهذا الحد النهائي للتدين هو الحد الأوّلي أيضًا للحساسية الدينية؛ لأن المؤمن انطلاقًا من مثل هذه الحساسية يود لو أنه أعلَمَ الآخرين بما يشعر به، وأرشدهم
إلى النعم التي حظي بها.
علينا أوّلًا أن نهدِم صرحَ أنانيّتنا
وأغلب أصحاب هذا الأفق مهمومون، لا ينفكُّ ذهنُهم عن التفكير في غاياتهم السامية كلما قاموا أو قعدوا، يُجهِدون عقولهم بالتفكير في هذا الأمر، ويمنعون عقولهم من الاستراحة حتى -سامحوني- عند الاستبراء، يطرحون أفكارًا جديدة، ويُسجِّلون كلَّ ما جال بأذهانهم في مكانٍ ما، فإن لم يجدوا فرصة احتفظوا بها في خلايا عقولهم حتى يقيّموها فيما بعد.
إن همّ الدعوة يتملك هذه الأرواح المهمومة لدرجة أن السهوَ قد يعتري صلاتهم أحيانًا، ومن الممكن أن نعزو “سهو المقربين” إلى هذه الحالة السامية وإن لم يكن لها مصطلحٌ خاص في عِلم المصطلحات.
فعلى سبيل المثال إذا ما تأمَّلْنا في سَهْوِ فخر الكائنات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الصلاة[3] فسنجد أن ثمة كثيرًا من هذه الأفكار السامية كانت تُراود روحه صلوات الله وسلامه عليه، وهو المُهيأ للترقي إلى قِمَمِ المعالي، وكأن الصلاة تأتي -بمعنى ما- في المرتبة التالية بعد هذه الأفكار.
والحق أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتبر تكريمَه بحادثة المعراج أقلّ درجة من تكليفه بالدعوة إلى الله، وأنَّ مهمّة الرسالة التي كُلِّفَ بها في الأرض أرفع وأعظم من ذلك؛ فرغم أنه وصل في المعراج إلى مكان لا يُدرَك وحدٍّ لا يُوصف إلا أنه لم يتشبَّث به، بل آثر الرجوع إلى وظيفتِه وأمّته مرّة أخرى.. وما ذكره وليُّ الله عبد القدوس الهندي الجشتي المتوفى سنة (945هـ) حول مسألة المعراج ليؤكد هذه الحقيقة، إذ قال: “لقد وصل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكانٍ لم يصل إليه أحد، ورأى ما لم يره أحد، وإنسانٌ وصل إلى هذه المنازل يستحيل أن يرجع مرة أخرى، فوالله لو ذهبتُ أنا حيثُ ذهب صلوات ربي وسلامه عليه ما رجعتُ مرة أخرى”.
ويقيّم وليٌّ آخر هذين السلوكين بقوله: “ها هو الفرق بين النبي والولي”؛ بمعنى أن الولي ما زال يسير في طريق “الفناء في الله، والبقاء بالله، ومع الله”، أما النبي فقد ارتقى أعلى المقامات وحازَ أرفعَ الدرجات؛ إلا أنّه مع ذلك لم يرضَ أن ينفردَ بالنعيم وحده ويدعَ الإنسانيّة تائهة في شعاب الضلال؛ ففضّل الرجوع إلى الناس مجدَّدًا؛ حتى يأخذ بأيديهم، ويصحبهم إلى هنالك.
ومن الممكن أن نعزوَ سهوَ سيدنا عمر رضي الله عنه في صلاته إلى الفكرة نفسها، فذات يوم بعد أن انتهى رضي الله عنه من صلاته، نبّهه الصحابة رضوان الله عليهم بأنه قد سها في الصلاة، فقال: “إني لأُجَهِّزُ جيشي وأنا في الصلاةِ”[4].
وكما لاحظنا كانت فكرة إعلاء كلمة الله -التي هي غاية الجيش آنذاك- هي التي تُهيمن على كلّ مناحي الحياة لدى تلك القامات الشامخة، وتراود عقولهم حتى في أثناء صلاتهم، وهذا تعبيرٌ عمّا يشعر به هؤلاء من حساسيةٍ بالغة إزاء مسألةِ رفْع راية دينهم، ولا جرم أنّ إنسانًا بهذه الدرجة من الحساسية إزاء دينه لا يَقرب حرامًا، ولا يعتري صلاتَه شرخٌ أو قصور.
حاصلُ القول إنه من المتعذر على جماعةٍ تؤدّي عبادتها بشيء من بلادة المشاعر ولا يشغلها إلا إسقاط الفرض أن تُعيدَ تشيِيد صرح أرواحنا أو أن تُصبحَ رائدةً لبعثٍ جديد.. فلو أننا أردنا إقامةَ صرح روحٍ يبهرُ الأبصار ويشرحُ الصدور ويأسر القلوب فعلينا بدايةً أن نتناولَ مِعْوَلًا فننهالَ به على صرحِ أنانيّتنا فنهدمه تمامًا، وبعد ذلك نُقيم صرحًا تكونُ أوامرُ الدين ونواهيه هي ترابه وحجره، وطينتُه رضا الله سبحانه وتعالى؛ وذلك حتى لا ينهدم مرة أخرى.. ولذا فليس من الصواب الانسياقُ إلى فكرة “أدّ ما عليك من عبادات، ولا تنشغل بأمر أحد”، فمثلُ هذه الفكرة لا تُساهمُ في إعلاء كلمة الله.
[1] “يحيى طَاشْلِيجَالِي (Taşlıcalı Yahya)”: من أشهر الشعراء العثمانيين في القرن السادس عشر الميلادي لا يعرف تاريخ ولادته ولكن يقال إنه ولد في سنة (1488م) وتوفي سنة (1582م) لديه خمسة أعمال مشهورة وكتابات ما زالت إلى يومنا هذا… (الناشر)
[2] مسند الإمام أحمد، 28/154.
[3] انظر: صحيح البخاري، الصلاة، 88، الأذان، 69، السهو، 1؛ صحيح مسلم، مساجد، 97-99.
[4] صحيح البخاري، العمل في الصلاة، (في مقدمة باب (18) تفكّر الرّجلِ الشيءَ في الصلاة).