المعبد ترجمان سـري يخاطب روح الإنسـان وقلبه بلغة مبهمة وببيان سحري ويحاول إفشاء الحقائق العليا بكل لسان.
يشعر الإنسان في المعبد باليوم وبالأمس… بالأمس وبالأبد معا وبشكل متداخل… فكأنه يسبح في بحر واسع من فكر العبادة ومنبعها ومعناها. فإن أضيف إلى هذا اللسان البليغ للمعبد خطيب عالم ومفوه فلا يمكن تصوير مبلغ اللذة الروحية التي تصل إليها القلوب.
أجل!.. إن المعنى الذي تهمس به المعابد بوقار ورزانة، المترع بالإيماءات والإشـارات، عندما يتحد بصوت رخيم للدعوة الإلهية من مؤذن أودع حنجرته بإمرة قلبه… عندئـذ نحس بهذه المعاني وهي تنسكب كغيث على مشـاعرنـا… وتملأ قلوبنا… فكأنها في النضارة أزهار وورود تفتحت للربيع… ونحس حتى أعماقنا بفرحة الوجود.
كأننا صامتون أزاء الوجود خارج المعبد… وكأن قلوبنا مغلقة تجاه ما وراء الوجود… لذا نرى المعبد كأنه مؤذن يقوم بتحرير مشاعرنا المدفونة في أعماقنا، ويحررها من السجن المظلم لأجسادنا ويوصل صوتها إلى السماوات السبع كخطيب مجلجل الصوت. فنحس في حريمه عندما يغشى الصوتُ الصمتَ، وعندما يغشى الصمتُ الصوتَ وكأن أعناقنا قـد امتدت إلى السماء وإلى اللانهاية.
وبنسبة تفتح القلوب للنور يثير الصوت والذكر في المعبد مشـاعرنـا ليقودنا من لذة إلى لذة ومن فورة إلى فورة ومن الإيمان إلى العشق، ومن العشق إلى الفداء، ويكون لنا أجنحة وريشا لنعلو إلى السماء. أحياناً يهمس المعبد بلسان يفهمه الروح ويثير فيـه الشوق إلى اللقاء… أحياناً يُسمِعُ أرواحَنا خرير أنهار الجنة، وأنغام بلابلها ويتجول بنا تحت أشجار الجنة… أحياناً يفتح لنا ممرات للوصول إلى الجمال الأزلي، ويؤسس لنا جسورا بين الدنيا والآخرة ويربط بين هذين العالمين، ويفتح أمامنا منافذ من هنا إلى هناك، ويثير فينا خيالات مبهمة.
إن ما يظهر في المعبد عند أداء العبادات والطاعات والذكر والأوراد من تكرار ظاهري في حقيقة الأمر يشبه المقاطع المكررة في الشعر والنشيد يحمل المعنى الرئيسي والمشاعر الأساسية في ذلك الشعر والنشيد. وفي كل تكرار يرى الإنسان في مرآة ما يعلمه ما لم يكن يعلمه، ويعيش ما يدركه بعقله مع ما يحسه في وجدانه في بوتقة واحدة وبشكل متداخل ومتشابك، فيحس في هذا التماثل والعينية شيئا آخر ونضارة أخرى.
أحياناً يرتفع صـوت جديـد من المنبر أو من المحراب أو من إحدى المقصورات الخلفية يتناغم مع ذلك الترتيل المتكرر المنساب بهدوء ونعومة من المعبد، فنحس بأن فيضاً من الضيـاء والنـور قد نثر فوق طرقنا وأنفاقنا وممراتنا، ونتوجه إلى بُعد آخر بإيقاع آخر وكأننا تلقينا أمراً جديداً بالتحرك والمشي.
أحياناً تشترك وتهتف بأرواح منفعلة مع الأصوات المنسابة من المآذن والمحاريب. آنذاك يبدو المعبد وكأنه يريد ضخ كل معاني السماء وروحها وعصارتها في القلوب كبلبل يغرد حتى يكاد ينشق، أو كحشرة زيز الحصاد تكاد تتمزق وتنقلب تماماً إلى أصوات رمزية، ولكنها لا تتمزق، بل تطفر إلى مستوى آخر من الصوت ومن النداء وتستمر دون توقف.
ونحن نحس أن هذه الأصوات المرتفعة من المعبد هي معاني الوجـود وغايته وأساسه، نشعر بها وهي تفيض من قلوبنا كصرخات مدوية، فنحس وكأن قبة قلوبنا قد خُرقت أو ثقبت فنكاد نغيب عن أنفسنا، وكأن النسائم الإلهية قد أحاطت بعالمنا الداخلي، فنشعر وكأننا وصلنا إلى الشوق الأزلي للسماء مثل حزمة ضوء أو نفحة نسيم.
كل صوت يرن في آذاننا، وكل معنى يبدو أمام أعيننا ينشئ قبباً فخمة وعظيمة فوق رؤوسنا، فنجد انفسنا على عتبات أبواب مهيبة منفتحة على عالم لانهائي. في هذه الأثناء يحس كل منا وكأنه قد انسلخ من مكانه، وارتفع وفتح جناحيه فوق الجميع وفوق كل شيء، وألقى بظله فوق جماعة المعبد.
أحياناً تتوسع الحلقة التي نكون فيها يميناً ويساراً، وأماماً وخلفاً، وتنتشر وتمتد بحيث تضيق الأبعاد والمسافات حتى تكاد تتمزق، حتى ليخيل إلينا وكأننا في طواف باللذة الحقيقية للحياة، فندرك أننا حول مطاف مجهول مع جماعة لا تُعدّ ولا تحصى من الملائكة والروحانيين والجن، فنحس بلذة الوصول إلى الغاية الحقيقية من وراء الخلق، فنشعر أننا بلغنا من اللذة غايتها التي لا غاية وراءها… ونعيش هذه المشاعر.
في كل مرة من هذه المرات التي ننغمر فيها في هذه الأحاسيس التي يبعثها صوت مختلف، وكلمة مختلفة، وتأثير أداء آخر، ولهجة أخرى، يبدو لنـا وكأننا نكتشف كائنات جديدة، ونشاهد صور جمال عوالم أخرى مجهولة من المنافذ المنفتحة على أعين قلوبنا، فنركض من السهول إلى السفوح، ومن القمم إلى الوديان، ونحس بحاجة إلى إطلاق صرخات الفرح والبهجة ببراءة الأطفال. وأحياناً ننطلق -بأمر مختلف من الرائد- إلى أقاليم أخرى ومشاهد جديدة، فنطوي التلال والجبـال، ونسرح في السهول والوديان، ونعانق الربيع، ونشم عبق عطور الصيف، ونحيّي الخريف، ونفتح أشرعتنا لربيع جديد.
يبدأ تكرر هذا المنوال على الدوام في إقليم آخر، ويتوسع في إقليم آخر مختلف، وينتهي ويختتم في إقليم آخر. أحياناً نبتعد عن أماكننا إلى درجة لا نشعر فيها بأننا كنا معاً، ونطير -كما في الأحلام وفي الخيال- إلى مكان نريده، ونصل إلى كل ما نود الوصول إليه بكل يسر. وننطلق إلى السماء وكأننا نتنـزه في حديقة من حدائقنا أو في بستان من بساتيننا، ونصل إلى أكثر الأماكن حرمة وسرية. ولكن ما أن نصل حتى ترف أعيننا -التي تقطع علاقتها تماماً مع أي نـوع من أنواع الظلام- من الفرحة والحبور وكأن الوصال سيتحقق بعد خطوة واحدة فقط.
في مثل هذا الجو تهمس الأحاسيس والتصرفات، بـل حتى الكلمات والاحاديث، وأصوات هذه الكلمات والأحاديث ونبراتها والألوان وتماوجاتها أموراً أخرى ومعاني أخرى لم نعهدها من قبل ولم نعرفها. هنا عندما نرتفع من الشيء المعهود إلى غير المعهود، ومن الأشـياء الاعتيادية إلى الأشياء الخارقة، تصل إلينا أصوات مشاعرنا التي تتألق بصور الجمال الحي من حولنا وكأنها تقول: “هو… هو”. فيزداد اضطرام نار العشق والوجد عندنا ويزداد توهجاً. وعندما تمتلئ قلوبنا بنار عشق الحبيب تعالى تنقطع كل الأصوات، ولا يبقى هناك سوى ظلال الأنوار المنعكسة من الوجود المطلق.
إن المعبد الذي نفخ الحياة في هذه الدنيا المباركة قد نكس رأسه، ينتظر من يفهم معانيه ويشرح خطوط روحه ومعارجها، وينتظر أساتذة الكلمة واللحن من أصحاب القلوب وابطالها لكي يصل إلى الأبعاد التي أنشئ لبلوغها.
لا أدري من سيقوم بتعمير المعبد الذي قطع حبل ظهره، ليرجعه إلى هويته السابقة، ومن سيفتح أمامه الآفاق لكي يهدر بصوته؟ ومن سيقوم باصلاح خلل أصوات الخرخشة الصادرة الآن منه ليِؤلف لحناً يسـحر الأرواح والقلوب؟ من سيعيد إلينا من جديد المعبد الذي فقدناه؟
لا أدري إن كان هذا باستطاعة المسؤولين أم لا… ولا أدري إن كان منشدو المعبد يستطيعون من خلف عصور عدة مصاحبته بأصواتهم وأنفاسهم أم لا… هذه مسألة أخرى غير مسألة غربة المعبد المستمرة منذ عصور.
نحن الآن نعيش منذ سنوات في أجواء حلم نرى بشارات تحققه… حلم جيلنا… جيل الفاتح الذي سيقوم بحل هذه العقدة المستعصية بضربة سيف واحدة.