إن اندمال الجرح وندوبِه ثم تساقطَ هذه الندوب، وقيامَ الجسم بترميم نفسه، دليل على الحيوية في ذلك العضو المجروح، الفاكهة تشير إلى الشجرة الحاملة لها، والآثار على الطريق تشير إلى العابر منها، وتسرّبُ الماء من مكان ما يشير إلى وجود مجاري مياه هناك، وكذلك من ينظر إلى جسم الإنسان يلمح آثارًا، وتسرّبات، وترميمات يستحيل معها أن لا يُقرّ بوجود الآخرة.
كيف خطرت فكرة الخلود ببال هذا الإنسان المحصور في قوالب محدودة؟ لا يمكن ادعاء أنه وصل إلى هذه الفكرة من تلقاء نفسه، كما لا يوجد على الأرض مخلوق يمكن أن يُلهم الإنسان هذه الفكرة، إذن إحساسه هذا ما هو إلا رسائل أُرسِلت إليه من عالم آخر، فكما أن تسرّب الماء دليل قطعي على مجاري المياه، فكذلك تسربات الخلود دليل قطعي على العالم الأبدي.
الإنسان يجني ثمارًا روحية لا يمكنه حيازتها في عالم المادة من خلال ملكاته اللدنية ولطائفه المغروسة في عالمه الداخلي، إن الإنسان لينطلق أحيانًا، ويُعرِض عن الدنيا بما فيها من زخارف ويسمو عليها محرزًا مكانة عُليا، فهذه الحالة السامقة تدل دلالة قطعية على أن هذا الإنسان له علاقة وثيقة بموجودٍ غيرِ مقيَّد بعالم “الإمكان” هذا، أي وجودُه ليس ممكنًا بل “واجبٌ”، فهذه الدنيا المحدودة التي ستُهدَم يومًا ما، ولن يعاد ترميمها مرة أخرى، تشير إلى دار لن تُهدَم أبدًا، فكل كائن في هذا الوجود يشير إلى خالقه من ناحية، ويشير إلى امتداده في العالم الآخر من ناحية أخرى.
فكما تتصل الخلايا في جسم الإنسان وترتبط ببعضها البعض وتبادر إلى مساعدة الخلية المعطوبة، وكما يعمل الجسم كأقاليم مستقلة عن بعضها البعض، ونجد أن هذه الأقاليم تجتمع عند الضرورة وتتحد في مواجهة العدو وتطرده شر طردة؛ كذلك الكون الذي يشتمل على كائنات تنبض كالقلب، وتنشر الضوء كالعين، وتتقلص حينًا وتنبسط حينًا آخر، من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة.. كل ذلك يعمل كالجسد الواحد الذي يتكوّن من أعضاء مختلفة، ومن يدري، لعل الخالق الكريم سبحانه وظّف ملكًا من ملائكته بإدارة الكون، وقد يكون ذلك الملك روح الكون، هذا الكون العظيم مع نموذجه المصغر (الإنسان) مرآة صقيلة تتجلى فيه أسماء الله الحسنى بكل وضوح، إن بنية الكون تشبه جسم الإنسان تمامًا، يصاب بجروح ثم يُداوَى ويُشفَى، يقول أنشتاين: “في زوايا بعيدة من هذا العالم تولد أجرام جديدة كل يوم من خلال سر عجيب لا نعرفه”، ولا شك أن الله تعالى بعد أن شيّد هذا القصر البديع المسمى بالكون، سيُكرِّمه كما كرَّم جسم الإنسان تمامًا، ويسمح له بأن يواصل عمله حتى تنتهي مهمته.
وبالتالي فإن الكون سيظل ينبض كالقلب، ويرى كالعين، وينشر الضوء كالشمس، إلى أن تنتهي مهمة البشر على الأرض، وسيؤدي وظيفته التي كُلِّف بها أداء مؤمن مدرك لمعنى مسؤوليته، ولذلك ستُرمَّم مواقعه كلما تهدمت، ويضاف الجديدُ إلى قديمه، ثم يُشيَّد عالم آخر أشار إليه عالـمُنا هذا ودلّ عليه في زاوية ما من هذا الوجود.
والحقيقة أننا -نحن البشر- عاجزون عن استيعاب حقيقة الأشياء والأحداث التي تدور في الكون بصورة كاملة، نحن نتجول في شعابها مثل متفرج لا يفقه لغتها ولا يدرك معنى سلوكها؛ لهذا نجهل فائدتها، وفيمَ تستخدم، وكيف يمكن تصنيع تراكيب جديدة من مكونات مختلفة، وما هي هذه المكونات بالتحديد؟! إذا أدركنا كنه الأحداث وحقيقة الأشياء يومًا، واستوعبنا كيفية خلقها، فلعلنا نتمكّن -حينئذ- من فتح أبواب الاستفادة من شتى الكائنات، ونكتشف طرقًا متنوعة في الانتفاع حتى من الجراثيم الضارة لحياتنا، ولكننا الآن، نشبه قومًا يتفرجون على نهر يجري بين أيديهم فقط، ولا يستطيعون الاستفادة منه كما ينبغي.
نعم، الأشياء والأحداث تجري ونحن نتفرج عليها فقط؛ وقد جاء دعاءٌ في الأثر: “اللَّهُمَّ أَرِنَا الأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ”[1]، إن إحدى الغايات المنشودة للإنسان -وربما الغاية الأسمى له- معرفة طرق النفوذ إلى كنه الأشياء. نعم، لو أمعنا النظر في هذا الكون من هذا المنظار، فسنتمكن حينها من رؤية ما وراء الأشياء والأحداث، ومعاينة عالم الآخرة من وراء ستار شفاف رقيق.
وإن الأشياء التي تبدو متناقضة فيما بينها، هي أساسًا مكمِّلة لبعضها البعض، فالشوكة إلى جانب الوردة، والبلبل مع الغراب… إلخ، فلا شيء في الكون خُلق عبثًا، فمثلًا لو أبدْنا الكلاب التي تعيش على الأرض، فسينشأ فراغ كبير في التوازن البيئي، وقد رأينا كيف أعلن مفكر غربي -في سالف الزمان- أن نوعًا من أنواع الطيور أوشك على الانقراض، وأكد من خلال الصحف أن هذا الأمر سيُحدِث فجوة خطيرة وخللًا جسيمًا في الكون لا يعوَّض.
كل مخلوق في الكون يقوم بوظيفة من الوظائف، فلو دمرنا كائنًا ما حسب هوانا، فإن ذلك سيُحدِث شرخًا مدويًا ينذرنا قائلًا: “احذروا! فقد أحدثتم في الكون خللًا كبيرًا”.
لقد ورد عن سيّد الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين أنه قال: “لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا”[2]، إذًا حتى الكلاب أمة كالبشر، وهذا معناه أنها حملتْ وظائف مهمة على عاتقها، وسدّتْ ثغرة كبيرة في الكون، ولو بحثنا عن مبررات لإبادة الكلاب لوجدناها بكثرة، من اعتداء على الناس وترويعهم، وحيلولتها دون دخول الملائكة المنازل التي توجد فيها -كما جاء في الأحاديث النبوية- وحملها لجراثيم خطيرة تهدد صحة الإنسان… إلخ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقتلها، لأن لها موقعًا ودورًا في هذا الكون، المهم أن نعرف موقعها ودورها فنضعها فيه، أما قتلها فيسبب أضرارًا جسيمة لا تعوَّض أبدًا.
كذلك لو تم القضاء على البكتريا المنتشرة بين الأشجار، فستستولي الجراثيم بعد سنوات قليلة على الفواكه، ولن نقدر بعد ذلك على تنظيفها من تلك الجراثيم مهما حاولنا، فالمولى الحكيم عزّ وجلّ قد وضع في الكون نظامًا للتوازن قائمًا على مبدإ التضادّ، فإذا أزلنا طرفًا من هذا التضاد -مثلًا- استولى الطرف الآخر وأحكم سلطته فورًا.
أجل، إن الكون بناء محكم تَرتبِط كل لبناتِه فيما بينها بقوة، وإذا قمنا بإزالة لبنة واحدة منه، فسينهار المبنى برمته حتمًا.
وكذلك ثمة مواسم ومراحل تصبغ الأحداث بصبغتها، فقد أثبت بعض العلماء أن الأسماك في البحر تزداد كثافة كل أربع عشرة سنة، وكمية الحبوب تزداد كل سبع سنوات، فلو أجريت بحوث علمية حول دورة المواسم هذه بدقة، فقد نصل إلى حل كثير من المسائل الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها الإنسان، وقد تضمن القرآن الكريم إشارات إلى تداول المواسم وخصوصًا في سورة يوسف.
إن دوران هذه المواسم الصغيرة بنظام وانتظام، إثبات وإشارة إلى أن الدنيا كذلك حلقة من سلسة هذه الدورات، وهي أيضًا ستنتهي، ثم تبدأ بعدها دورة أخرى، فمن عاش غافلًا عن الله في هذه الدنيا مستمتعًا برغد الحياة ورخائها، سوف يعيش في القبر وتيرة موسومة بمعاني الضيق والفقر، ثم تأتي بعدها دورة البعث والحشر، حيث يعيش فيها حياة ملؤها الخوف والحساب والمعاناة، ثم تأتي مرحلة اجتياز الصراط، فمن اجتازه بلغ جنة الخلد وشرُف برؤية جمال الله سبحانه، وحري بالقول إن الإنسان هناك سواء تقلّب في النعيم الخالد أو العذاب الأليم لن يتعرض لداء الألفة، وسوف يواصل مسيرته وفق مواسم ودورات متعاقبة من النعيم إن كان من أهل الجنة، ومن العذاب إن كان من أهل جهنم.
نعيش في عالم قسّمه الخالق الحكيم إلى مراحل ومواسم متعاقبة، ولكن مواسم دار الدنيا تنتهي مثل قصيدة بلا قافية، وعالم الخلد قافية تلك القصيدة، وسيكمل الله سبحانه وتعالى نظمها من دون شكّ.
عدي بن حاتم رضي الله عنه -وهو ابن حاتم الطائي الذي يضرب به المثل في الجود والسخاء، وابنُه عديٌّ هذا كان نصرانيًّا ثم هداه الله إلى الإسلام- وقد ذكر النبيُّ أمامه ثلاث نبوءاتٍ على النحو التالي كما حدَّثَ هو فقال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “يَا عَدِيُّ، هَلْ رَأَيْتَ الحِيرَةَ؟” قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا، قَالَ “فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالكَعْبَةِ لاَ تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى» ، قُلْتُ: كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ؟ قَالَ: “كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلاَ يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ”.. قَالَ عَدِيٌّ: “فرأيتُ الظعينة ترتحل من الحِيرة حتى تطوفَ بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنتُ فيمن افتتح كنوز كسرى بنِ هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترونّ ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُخرِج ملء كفه”[3].
أجل، عندما أكد عدي بن حاتم رضي الله عنه على صدق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بمستقبل الأمة، فقد أكد بطريقة غير مباشرة على صدقه عليه الصلاة والسلام في أخباره عن الآخرة كذلك.
وها هو المصطفى صلى الله عليه وسلم يدعو للصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه قائلًا: “اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ”[4]، فعمّر أنس بن مالك رضي الله عنه أكثر من مائة عام، وكان يقول: “فَوَاللهِ إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ، وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ”[5].
وهكذا، فإن وقوع النبوءات النبوية التي تتعلق بالحياة الدنيا، إنما هو دليل قاطع على وقوع البعث الذي أخبر عنه المصطفى عليه الصلاة والسلام حيث يفرح المؤمن ويحزن الكافر أيما حزن.
ما إن يولد الإنسان حتى تبدأ دورة الحياة والموت بالنسبة له، فكل ولادة تنبئ بموت، وكل موت ينبئ بولادة جديدة، فإنْ لم تكن هناك ولادة أبدية، يصبح الإنسان أتعس مخلوق على وجه الأرض، ولا سيما الأنبياءُ ومن بينهم سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، كيف، وهو صلى الله عليه وسلم علّة خلق الوجود، بل إن شجرة الإنسانية ما غُرِست إلا ليكون هو -فداه روحي- ثمرتَها المثلى صلى الله عليه وسلم.
فبدءًا من هبوط الإنسان على هذه الأرض، إلى ظهور الأنبياء عليهم السلام، إلى كل حادثة وكل كائن في دورة الحياة هذه.. كل شيء دليل وشاهد على دار الآخرة.
باختصار، كل دليل يثبت أن رب العالمين هو الله، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، وأن القرآن كلام الله، دليل في الوقت نفسه على وجود الآخرة، لأن الإيمان بنيان متكامل لا يقبل التجزّؤ والانقسام أبدًا.
[1] ابن الجوزي: صيد الخاطر، 1/429؛ فخر الدين الرازي: مفاتيح الغيب، 1/119.
[2] سنن الترمذي، الصيد، 16، 17؛ سنن أبي داود، الأضاحي، 22؛ سنن النسائي، الصيد، 10.
[3] صحيح البخاري، المناقب، 25؛ مسند الإمام أحمد، 4/257-378.
[4] صحيح البخاري، الدعوات، 18؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 141-144.
[5] صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 143.