أودّ هنا أن أوجّه الأنظار إلى نقطة أخرى، وهي أن للخلية خاصية الحفاظ على نفسها، وهي تعمل عمل حكومة، وتعد جزيئاتD.N.A. الموجودة فيها بمثابة قائد أو حاكم يقوم بتعيين طبيعة بنية الإنسان البيولوجية. ثم هناك جزيئات R.N.A. التي تقوم بعمل المهندس والكيميائي فيقوم بعمليات التركيب والدمج، وكأن القدر أودع موضوع تعيين وضع الإنسان وماهيته في هذه الجزيئات. وهذه الجزيئات تحتوي على معلومات موجودة بشكل شفرات والتي تملأ مئات المجلدات، وتظهر عندما يحين الوقت المناسب بشكل تفاعلات تؤدي إلى صنع البروتينات اللازمة للخلية. ولم يجد الفكر المادي مرجعاً لهذه العمليات الباهرة ولهذه الآلية المدهشة التي ترسل بموجبها جزيئات D.N.A الشفرات إلى جزيئات R.N.A. التي تقوم بفك هذه الشفرات إلا إسنادها إلى هذه الجزيئات وإلى المصادفات.
ومع أننا لا نملك اليوم معلومات قاطعة حول الخلق الأولي للخلية فإن العلم الحديث يعطي لنا معلومات كثيرة حول الخلية، حيث يعرض كل جزء من أجزائها أمامنا، ويوضح لنا مدى التعقيد الذي تتميز به الخلية. ولو كان دارون يملك المعلومات الحالية عن الخلية لقال عنها ما قاله عن العين. فهو يقول في رسالة له إلى صديق: “كلما فكرت في العين زادت حيرتي وذهولي”، لأنه لم يكن يستطيع تفسيرها بالانتخاب الطبيعي. ولو استطاع أن ينظر إلى الدماغ وكيفية ظهوره لتضاعفت حيرته وذهوله.
من الصعب سرد جميع خواص الخلية، ففيها فعاليات كثيرة كفعاليات جيش كامل. فكل ما يحتاجه الجسم يركب هناك ويصنع. وللخلية غشاء يملك جزيئات لها شفرات تميز بها الخلية المواد النافعة من المواد الضارة. وإذا ظهرت الحاجة أضيفت شفرات أخرى كذلك. وتتصرف هذه الجزيئات كنقاط شرطة وحراسة، أو كموظفي الكمارك، فتفتح الأبواب أمام المواد المفيدة، وتبدي ردود فعل ضد المواد الضارة، وتعلن حالة الطوارئ في الخلية. وتبدي الخلية مقاومة ضد أي تدخل أجنبي، وإذا لم تستطع المقاومة تمرض، وأحياناً تموت. هنا تتعاون خلايا الجسم وتقوم بإخراج هذه الخلية الميتة خارج الجسم.
عند وقوع تدخل خارجي على خلية ما تقوم هذه الخلية بمقاومة التدخل، وترمي بالجراثيم الضارة خارج الجسم. أما إن عجزت عن المقاومة مرضت وماتت. وقد يؤدي هذا المرض إلى موت الإنسان. وهذا يعني أن أي تدخل خارجي لا يستطيع تغيير ماهية الخلية. وإذا لم تكن المادة المتدخلة متكيفة مع الخلية ومفيدة لها قامت بإفسادها أو سعت بها إلى الموت.
والخلاصة أنه ليس من المستحيل ظهور وتكون كائن حي فحسب، بل لا يمكن أن يحدث أي حادث تلقائياً ومن نفسه. فلا يستطيع حجر صغير أن يغير مكانه تلقائياً، ولا يتعرض للتآكل دون حدوث تاثير خارجي. وألا يكون غريباً أن نقوم بإنكار الخالق وإنكار خلقه للكون ولجميع الأشياء والحوادث وإدارته الدائمة لها؟ وربط كل شيء وكل حادثة كذلك بسلسلة السبب والنتيجة، وإنكار وجود أي شيء خارج القوانين، والنظر إلى الطبيعة وكأنها عبارة عن هذه القوانين، وإنكار وجود أي تاثير آخر خارج الطبيعة وخارج قوانينها!!
أي إننا بهذا نعزو الألوهية إليهما، ثم نتناقض مع أنفسنا فندعي -من أجل إنكار الالوهية- أن هذا الكون الرائع وكل ما يحويه ظهر تلقائياً. وهل هناك مثال آخر لإنكار بهذه الشناعة وبهذا البعد عن العلم وعن العقل وعن المنطق؟ بينما نرى أن الإنسان قد جُهّز بقابليات وملكات كثيرة ومتعددة ومدهشة من الناحية الذهنية والقلبية. وهو مع هذا صاحب شعور وإرادة، وله علاقات وارتباطات مع الزمان والمكان. وعلاوة على هذا فهو لا يكتفي بهذا بل تراه يهتم بما وراء الزمان والمكان.
وعدا هذا فهو مجهّز بعواطف لا تعد ولا تحصى، لذا فهو مخلوق كامل مرشح لحياة خالدة. لذا فإن النظر إلى مثل هذا الوجود الإنساني وكأنه مرتبط فقط بالمادة وبالطبيعة وبالمصادفات وبالقوانين التي لها قيم نسبية فقط، وبفرضيات -كفرضية التطور- يعد أكبر إهانة للإنسان وللإنسانية ولأصحاب هذه الفرضيات أنفسهم. أجل ما من أحد غير الإنسان يستطيع فعل ما فعله الإنسان نفسه ضد الإنسان. ولهذا نرى أن القرآن الكريم يصف هؤلاء -الذين خرجوا واستقلوا عن الإنسانية- بأنهم ظالمون.