سؤال: ما الذي تؤمّله القلوبُ المؤمنة من الاستغفار، لا سيما في أيامنا هذه التي تفشّت فيها الذنوبُ في كلّ الأنحاء وكأنها مرض معدٍ؟ وهل هناك أوقاتٌ معينة يحسُن تحرّيها للاستغفار فيها؟
الجواب: جاء في الخبر: “مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ”[1]، والمقصد الأصلي من التكاليف الشرعية هو الحفاظ على هذه الفطرة الأصلية التي فطر الله الناس عليها، أي إن الإنسان مكلَّفٌ بالحفاظ على الفطرة الأصلية التي فطره الله عليها حتى يلقاه سبحانه.
وبينما تهدف كلُّ “الْمُنْجِيات” إلى حماية الفطرة الأصلية، ترمي كلُّ “الْمُهْلِكات” إلى إفساد الفطرة الأصلية؛ فليعمل الإنسان على تشييد حصون منيعة يُجابه بها الذنوب المهلكة، ويتحرى فيها الأعمالَ الصالحة دائمًا، وليبحثْ عن وسائل يحافظ بها على فطرته ويحفظها من أن تكون عُرضة للتلوث والفساد.
إنّ في كلّ ذنبٍ إفسادًا للطبيعة الإنسانية، ومن تعرَّض لمثل هذا الفساد لا تتأتى إعادته إلى طبيعته الأصلية إلّا بالاستغفار، أي: إن الذنوب تُحدث تغيّراتٍ سلبيةً في ماهية الإنسان، وشيئًا فشيئًا يغدو القلب الملوث بالآثام عاجزًا عن القيام بوظيفته، وكلّ ذنب من شأنه أن يُبعد الإنسانَ عن الله ويقرّبه إلى الكفر؛ ولا خلاص من الآثام التي تقرّب إلى الكفر إلا بالاستغفار، ولا سبيل إلى تطهير القلب من الأدران وما نُكت فيه من نِكات سوداء إلا به.
الطب الوقائي
الأصل أن يتّخذ الإنسانُ في البداية موقفًا حازمًا من الذنوب والآثام، فلا يدنو ولو إلى أصغرها، وعليه في هذا أن يسعى إلى تهيئة جوٍّ نقيٍّ طاهرٍ يجنّبه الوقوع في الآثام، وأن يفرّ فراره من الأسد من بيئة تُغريه بالمعاصي، وإنّه لَعسيرٌ إلا على قلبٍ مؤمنٍ يشعر في وجدانه أن كل ذنب يقترفه يهوي به في نار جهنم دَرَكَة، وأي قلب لا يُنكِر الذنب هو قلب ميّت.
أجل، إن القلب إنْ استساغ الذنوب، ولم تُقلقه المعاصي ولا أرَّقه ما ارتكبَ من زلّات، فهو كالجسد الميت، فالقلب المؤمن يستنكر الذنوب لا محالة، والاستغفارُ أول عملية يجب فعلها تجاه الذنوب.
إنّ قولك “أستغفرُ الله” بصيغة المضارع معناه: “اللهم إنك عفو غفور، فاعف عني واغفر لي ما حَييت”، فللعدول عن صيغة الماضي إلى المضارع الدالّ على الزمن المفتوح مغزًى عميق جدًّا؛ مفاده أن العبد يعمّم طلب المغفرة مِن ذنبٍ ارتكبه في الماضي على المستقبل كله.
قد يغفر الله ذنوب عبده بالاستغفار مرة واحدة، لكن على العبد ألَّا يكتفي بمرة واحدة يسأله فيها العفو عن عثرات يديه وعينيه وأذنيه، بل لا بدّ أن يندم طوال عمره على ما اقترفه وإن كان ذنبًا واحدًا، ويتوجه إلى الله قائلًا: “اللهم إني أستغفرك، ولن أزال أسألك المغفرة ما حييت، فلا تكفيني مرة واحدة، بل أسألك المغفرة الآن وسأظل أبدًا أسألك وأتندّم على ذنب ارتكبتُه، اللهم فاغفر لي”.
أجل، على المؤمن أن يفكِّر كلّما اقترف ذنبًا أنَّ من العيب الفظيع أن يسلك طريق السيئات وقد هداه الله إلى طريق الحسنات، وأن يعلم -وقد وعده الله بالجنة- أن التعامي عن هذا الوعد والاستغراق في الآثام قباحة وأيّ قباحة،فعليه أن يستحي، ويتوجه إلى الله بالاستغفار أبدًا، فيستغفره على ذنبٍ واحدٍ آلاف المرات، بل ألف ألف مرة، حتى يُطهّر وجدانه بهذا الاستغفار.
إكسير يستأصل شأفة النزعة إلى الشرّ
الاستغفار كما يُعيد إعمار الفطرة المخرَّبة، يستأصل شأفة النزعة إلى الشرّ أيضًا؛ لأن ملازمة التطهر بالاستغفار تمنع استحداث مناخ يدعوه إلى ذنب جديد، أي إنّ قلبه تنقّى من أي فَيروس يستدعي ميكروبات أخرى؛ وأيضًا قد يُضعف الله بصورة لا نعلمها نزعةَ الإنسان إلى اقتراف الذنوب والآثام، يقول تعالى: ﴿مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (سُورَةُ الفُرْقَانِ: 25/70)، فالآية تبشّر من يتوجهون إليه سبحانه بالإيمان والعمل الصالح والاستغفار والتوبة بأنه سيبدّل سيئاتهم حسنات؛ أجل، إذا توجّه العبد إلى الله محا الحقُّ تبارك وتعالى ما في صفحات كتابه من آثام اقترفها، ولا يتركها فارغة بل يملؤها بواسع رحمته بالحسنات، وهذا تجلٍّ آخر لرحمته التي تسبق غضبه.
وللأستاذ بديع الزمان رحمه الله تفسيرٌ آخر لهذه الآية: ذكر أن الله تعالى قد يبدّل نزعات الشرّ لدى من أناب إليه بالتوبة والاستغفار بنزعات إلى الخير، أي إنْ اقترف العبدُ ذنبًا ثم أناب إلى الله فتاب توبةً نصوحًا، قال الله له: “رجعتَ إليَّ؛ سأنعم عليك فأبدِّل نزعات الشرّ لديك نزعاتٍ إلى الخير”.
أوقات مهمة للاستغفار
يُسنّ الاستغفار ثلاثًا عقب الصلوات المفروضة[2]، أمّا فضل الاستغفار عقب أداء أحبِّ العبادات إلى الله وأقربِ ما يكون العبد من ربه فله سببان:
أولهما: أن الصلاة معراج المؤمن إلى ربه، فمن سوء الأدب مع الله في عبادةٍ هذا فضلُها أن يذهل العبد عن صلاته، ويسيح في أموره الخاصة، ويشتغلَ قلبه بالأمور الدنيوية عن جلال وقوفه بين يدي الله تعالى، ومثل هذه التصرفات تنمّ عن غياب الوعي أو العناية بالصلاة فتقتضي الاستغفار؛ إذ كان ينبغي أن يهرول العبد وهو بين يدي الله تعالى سعيًا وراء لطائف أُشربها قلبُ سيد السادات صلى الله عليه وسلم يوم المعراج.
ثانيهما: الدعاء بعد الصلوات مظنة القبول، وله فضل خاص؛ فهذا المقام أرجى لقبول الدعاء والتضرع، ولا شيء أحوج للعبد من مغفرة الذنوب؛ لذا وصّى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار والتوجه إلى الله في هذا المقام، فالصلوات الخمس أساس وفرصة مهمة للاستغفار.
ولعل من أهم أوقات الاستغفار ما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (سُورَةُ الذَّارِيَاتِ: 51/17-18)، تشير هذه الآية إلى وقت مهم للاستغفار، فهي تثني على من يقوم بالأسحار يستغفر الله ويجأر إليه ويطيل السجود حتى لكأنه ينسى أن يرفع رأسه منه، ثم ترفَعُ هذا الثناء إلى أهل السماء والروحانيين وجميع المؤمنين؛ وفي الآية إرشادٌ للمؤمنين إلى تحديد الهدف، لأن وصف المؤمنين في الكتاب والسنة تقدير لهم، ودعوة إلى نصبِ هدفٍ أمامهم ينبغي الوصول إليه؛ فإن القيام في السَّحَر والناسُ نيامٌ، والتعبد لرب العالمين بصلاة التهجد ولو ركعتين، والاستغفارَ بعدها، عملٌ عظيم في لحظات خاصة لا يرى الإنسانَ فيها أحدٌ.
والأوقات التي يرقّ فيها القلب، ويشعر الإنسان بثقل ذنوبه، وتفيض فيها مشاعره، لا بد أن تُستغل استغلالًا جيدًا في الاستغفار، لأنها لحظات تهبّ فيها نسائم القرب.
وسرعة الأوبة إلى الحق تعالى كلما ارتكب العبد وزرًا وذنبًا مؤشر على استغلال أول لحظة يُدرك فيها الإنسان أنه خطا خطوةً نحو الذنوب، وهذه اللحظة مهمة للشروع في الاستغفار؛ لأن الذنب يشبه الدُّوامة، ويُورِث صاحبه الإدمان عليه؛ ولذلك ليس كل مَن غرق في الذنوب بقادر على أن يتخلص منها، بل إن الغارق في مستنقع الذنوب والآثام -إن لم يعزم على الخروج منه عزمًا حقيقيًّا وعجز أن يعطي إرادته حقّها- قد يتمنى يومًا أن لو لم تُحرَّم تلك الذنوب؛ وهذا يعرّض الإنسان لمصيبة اعتقادية، وإنما هلك من هلك عامةً بهذا الضرب من الخواطر، فمن الأهمية بمكان أن يتوب الإنسان فورًا من الذنوب التي وقع فيها قائلًا: “إن هذا الطريق يؤدي إلى المستنقع، فلو خطوت بضع خطوات قد أصل إلى موضع يستحيل الرجوع عنه”.
والأوقات المذكورة وإن كانت فرصةً للاستغفار إلا أنه لا يُشترط تخصيص وقت معيَّن له، ولا يصح حصرُ الاستغفار بها ألبتة، فللعبد أن يطلب العفو والمغفرة في أي وقت: بكرة وعشيًّا، ليلًا ونهارًا، وأن يستثمر كل لحظة من عمره في الاستغفار؛ أجل، إن الإنسان عندما يجد الفرصة له أن يخلو بنفسه ويستغفر الله ويتوجه إليه تعالى بالتوبة كيفما كان راكعًا أم ساجدًا أم جاثيًا،؛ وكذا في كل أحواله: عندما يذهب من مكان إلى آخر، أو يقود سيارته، أو ينتظر أحدًا… بوسعه أن يناجي ربه سبحانه بأي شكل من أشكال الاستغفار، والأصل أن يستغل الإنسان كل لحظات حياته في هذا، لأن الموت يأتي بغتةً، واستقبال الموت بشفاهٍ رطبة بالاستغفار وسيلةٌ مهمة جدًّا لارتحال الإنسان إلى الآخرة طاهرًا مطهَّرًا.
سؤال: الاستغفار بوتقة تطهير وتزكية للقلوب المؤمنة، فما هي أصوله وآدابه؟
الجواب: على العبد عند الشروع في الاستغفار أن يتذكّر جلالَ الله وعظمتَه، ولا ينفكّ عن التعظيم والتكبير والتسبيح له جلّ في علاه.
وورد في هذا روايات كثيرة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل في جملتها على ندب البدء في الاستغفار بهذا الذكر: “اَللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ للهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، لَا إِلٰـهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، نَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ”.
ويُستحسن بعد تمجيد الله وإجلاله وتعظيمه الصلاةُ والسلامُ على سيد السادات صلى الله عليه وسلم؛ فهذا أدعى لقبول الاستغفار، لأن الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء مستجاب، وهي أيضًا فرصة عظيمة للمؤمن ووسيلة مهمّة للاتصال بمفخرة الإنسانية صلوات ربي وسلامه عليه، فالتوجه إلى الله تعالى استشفاعًا بالصلاة على سيد الأوّابين صلى الله عليه وسلم قبل الشروع في الاستغفار يعدّ وسيلةً أخرى للقرب من الله عزّ وجلّ.
ويحسن الاستغفار لأمة محمد قبل الاستغفار لأنفسنا كما نفعل في صلاة الحاجة، كأن نقول: “اللهم اغفر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم ارحم أمة محمد صلى الله عليه وسلم”، وهو دعاء “الأبدال” صباح مساء، وطلبُ الخير لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم وسيلةٌ لقبول الاستغفار، بل ولك أن تقدِّم نفسك إن كنت تعد نفسك أعتى العصاة في هذه الأمة: “اللهم اغفر لي واغفر لأمة محمد، اللهم ارحمني وارحم أمة محمد” صلى الله عليه وسلم.
طلب المغفرة بأحسن الحديث
وللعبد بعد هذه الديباجة أن يتوجّه إلى الحقّ سبحانه وتعالى بأمثال الآيات التالية، طمعًا في غفران ذنوبه وخطاياه:
﴿لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ: 21/87)،
رَبِّ إني ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ: 21/83)،
﴿رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ (سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ: 23/118)،
﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ (سُورَةُ القَصَصِ: 28/16)،
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ (سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 14/41)،
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/147).
هذه أدعية من القرآن، ووردت أدعيةٌ رائعة في السنة الصحيحة في الاستغفار أيضًا، منها: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي” قَالَ: “قُلْ: اَللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ”[3]؛ ومحلّ هذا الدعاء السجود وعقب التشهد وعند الاستغفار.
دعاء آخر سمَّاه عليه أكمل التحيات “سيد الاستغفار”: “اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ”؛ قال عليه الصلاة والسلام: “مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؛ وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ”[4].
تَضرَّعْ حتى تتطهّر
وللعبد أن يسجد ويكثر من هذا الدعاء حتى يضنيه التعب والجهد، ويشعر بالتطهر والاطمئنان في قلبه: “يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْن”، وزاد بعضهم: “وَلاَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ”.
ويستحب للعبد أن يدعو بهذا الدعاء بوصفه نفحةً قلبيّة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله إذا استيقظ من الليل: “لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ، اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي، وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ، اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْمًا، وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي، وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ”[5].
وعلى كل إنسان أن يرى أخطاءه وعيوبه وذنوبه، وينقدها بما يلائم منزلته الخاصة؛ فيسبح الله تعالى ويستغفره آلاف المرات يوميًّا، وصحَّ “أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يسبّح كلّ يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، يقول: أسبّح بقدر ذنبي”[6].
ولا أظن أنه اقترف ذنبًا ما، إنه الأَسَد الذي قدِم من دَوْسٍ ولحق بأصحاب الصُفَّة، وصحب مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلّم مدةً طويلةً، وهو أكثر مَن روى عنه صلى الله عليه وسلم، فصار بعد رحيله المنهل العذب المورود الذي يرِده الناس جميعًا، وكان يرى الاستغفار ضروريًّا باعتبار أفُقه الخاص، وحين نضع نُصْبَ أعيننا حياتنا الحالية التي أغرقتها الذنوب فإننا لو استغفرنا الله ثلاثين ألف مرة في اليوم لكان قليلًا.
زد على هذا أنه يمكن اعتماد استغفارات الأكابر المذكورة في كتاب “القلوب الضارعة” وردًا، فهذا الإمام الحسن البصري كان عنده من العمق ما يحيّر العقول، وكان شديد المحاسبة لنفسه، ويمكنكم أن تقرؤوا ورده في الاستغفار[7] مقسّمًا على أيام الأسبوع كما كان يفعل، وكان يبدأ الاستغفار بالصلاة والسلام على النبي المصطفى ثم يعدّد ما يعده ذنبًا لنفسه، ويختم استغفاره بالصلاة والسلام أيضًا. والحقيقة أنَّه لم يكن عصرُه ولا طبيعتُه هو ملائمين لاجتراح تلك النوعية من السيئات؛ أجل، لا يمكن لإنسان يذكر الله في كلّ أحيانه، ونذر حياته للكفاح في سبيل الحق: أن يقع في هذا الضرب من الذنوب؛ ولا أحد يدري، فربما كان يتوب إلى الله متضرعًا ويستغفره متحرقًا على الخواطر والخَطَرات، ونحن لو كررنا مرتين أورادَه هذه التي كان يقرؤها كل ليلة مرةً فإنه لقليل؛ لأن ذنوبنا أكثر بلا ريب، ولأننا لم نبلغ مبلغه ولم نتقدم عليه في الدين.
وعلى المستغفر أن يختم تضرعه وابتهاله الجاري من قلبه على لسانه بمثل ما بدأ به من صلاة وسلام على سيد السادات عليه الصلاة والسلام، فلا أرجى في القبول من دعاء بين دعاءين مقبولين، فليصلِّ ويسلِّم على الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم مرةً أخرى في نهاية دعائه كي يطير استغفاره بجناحَي دعاءين مقبولين ويبلغ معارج القبول.
وأذكِّر بأنّ كلّ كلمة يُتفوه بها في مقام الاستغفار ينبغي أن تُقال عن وعي وشعور، فما يُقال في غفلة وبلا وعي كلُّه سوءُ أدب مع الحق تعالى، وقد يكون كذبًا؛ فينبغي في كلّ كلمة أن تنبع وتخرج من أعماق القلب، ولا بد أن تترك كلُّ واحدةٍ منها أثرًا حيث مرّت؛ بل على الإنسان حين يبوح للحق تعالى بجوانيته في وعي كهذا ويسأله المغفرة أن يتلوى حياءً من ذنوبه، ويقشعر ندمًا وحسرةً حتى كأن قلبه قد توقَّفَ.
[1] صحيح البخاري، القدَر، 3؛ صحيح مسلم، القدَر، 22.
[2] انظر: صحيح مسلم، المساجد، 135.
[3] صحيح البخاري، الدعوات، 17؛ صحيح مسلم، الذكر والدعاء، 48.
[4] صحيح البخاري، الدعوات، 2.
[5] سنن أبي داود، الأدب، 98.
[6] ابن حجر: الإصابة، 7/360.
[7] القلوب الضارعة، ص 142.