سؤال: ما معنى الفسق؟ وما الأمور التي ينبغي للمؤمن أن يراعيها ليبرأ من صفات الفاسقين؟
الجواب: الفسق لفظ عامّ؛ له عدة معانٍ، وهو بإيجاز: الخروج عن الحدود التي أقامها الدين، أي الخروج عن دائرة الطاعة بارتكاب الكبائر أو الإصرارِ على الصغائر؛ وهذا يذكّرنا بحديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اَلْحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ”[1].
نعم، كما أن للدول حقولَ ألغامٍ تمنع دخولها، وتحظر على الناس عبور مناطق الأسلاك الشائكة، فكذلك وضعَ الشارعُ الحكيم حدودًا تقي الإنسان من المخاطر في الدنيا والآخرة، فمن تعدى هذه الحدود وتجاوز هذه السدود وانحرف وخرج عن الجادة فقد فسق.
وجاء في سورة المائدة ذكر من ساقتهم أهواؤهم، فتجاوزوا الحدَّ، وخرجوا عن دائرة الطاعة رغم أنهم عرفوا الصراط المستقيم:
﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 5/47).
وجاء في اللغة أن “فواسق البيوت” حيوانات تخرج من جحورها وتضر الإنسان والأثاث؛ ومنها: الفأر، والعقرب، والحية؛ فسميت فواسق لأنها بخروجها عن دائرة حدودها صارت معتدية، وفي الحديث:
“خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحُدَيَّا”[2].
وليس معناه: “اقتلوا هذه الحيوانات حيث وجدتموها”، بل معناه جواز قتل حيوانات يُخاف ضررها، فالأصل حرمة قتل الحيوانات في الحَرم، حتى الجرادة تُدفع فيها الفدية إن قُتلت؛ وإنما وُصفت هذه الحيوانات بالفاسقة لأنها لا تلزم حدودها بل تتعدّاها، فأُبيح قتلها، أي إن في الحديث رخصة بقتل هذه الحيوانات الفاسقة جبليًّا.
صفةُ الفسق عند المسلم
شدّد القرآنُ الكريم في حديثه عن الكافرين والمنافقين والمشركين على صفاتهم لا على أشخاصهم، فلفت الأنظار إلى صفاتهم المذمومة؛ لأن التبيلغ والإرشاد يُعنَى بتغيير الأوصاف لا الأشخاص، وذلك بتخليتهم من صفاتهم المذمومة.
وهذا المنهج فيه ذِكرى ونذارة شديدة للقلوب المؤمنة، يقول الأستاذ بديع الزمان رحمه الله رحمة واسعة: “يجب أن تكون كلُّ صفةٍ من صفات المسلم مسلمةً مثله، إلا أن هذا ليس أمراً واقعًا دائمًا، أي قد لا تكون كل صفات المؤمن مؤمنةً، كما قد لا تكون صفات الكافر جميعها كافرةً ولا نابعةً من كفره”[3]، فقد يحمل المؤمن صفة من صفات الكفر أو الفسق في حقبة من حياته، وعلى هذا فكم في الآيات التي تتحدث عن المنافقين أو الكافرين من دروسٍ وعبرٍ للمؤمنين!
أجل، قد يكون الإنسان مؤمنًا يصلي ويصوم ويزكي ويحج إذعانًا لمقتضى إيمانه، لكنه إن خرج عن حدوده فقد يسقط دون وعي في وديان الكفر أو النفاق؛ إن من يرتكب آثامًا -نسأل الله السلامة- كالكذب والغيبة والإفك قد تجاوز السدود وحاد عن الجادة، وأخلّ بقواعد المرور؛ وهذا يعني أنَّه يحمل صفة من صفات الفسق مهما ادعى القوة في إيمانه؛ وما دامت فيه هذه الصفة فلن ينجح في مقام التبليغ والإرشاد ولن يبلغ الهدف؛ لأن فضل الله تعالى منوط بالصفات، ثم ينتقل إلى حَمَلَتِها.
من صفات المؤمن: الإيمان، والبلوغ بالإيمان مرتبة الإذعان، ثم الرقيّ به إلى أفق العرفان، وتتويج العرفان بالمحبة، والمحبةِ بالعشق والاشتياق إلى الله، وتعميقُ هذا الإيمان بالعبادة، وتزيينُ عبادته بمقام الإحسان… فإنْ تحلّى المرء بهذه الخِلال بلغ هدفه في إعلاء كلمة الله؛ بل وإن لم يبلغه فسيكافئه الله تعالى بعونه وفضله سبحانه وكأنه بلغه، فما على الإنسان إلا أن يقوم بوظيفته، فمن الأنبياء من لم يكن له أتباع قطّ، ومنهم من لم يتبعه سوى بضعة أشخاص، غير أنه لو وُضعت البشرية جمعاء في كفة ووُضع نبي من الأنبياء في كفة أخرى لرَجَحت كفة النبي، أي لو أننا أخذنا الناس كلَّهم سوى الأنبياء، واستخرجنا خلاصة قيمهم الإنسانية، وجعلنا منها تمثالًا، فلن يكون هذا التمثال تمثال نبي من الأنبياء ولن يبلغ ماهيتَه، لأنهم هم المصطفون الأخيار الذين اصطفاهم الله واختارهم على عينه ورعايته، ورغم هذا فقد يأتي النبي وليس معه إلا اثنان أو ثلاثة من الأتباع، ومع ذلك لم يكن هذا الأمر يعني لهم شيئًا، ولم يتوقفوا أبدًا عن أداء رسالتهم.
وقد تتبادر إلى الذهن بعض الأسئلة حول الغاية من إرسال رسول لا يتبعه إلا اثنان أو ثلاثة؟
ننوه أولًا أن مثل هذا النبي قد نال ثواب النبوة، وحظي بكرم الله وفضله لأنه أدى مهمته بحقّ.
وأيضًا إذا غدا هذا النبي مع أتباعه الاثنين أو الثلاثة رسالةً ومرجعًا لمن يأتي مِن خلفهم بأن عبّدوا لهم الطريق، ثم صلح بهؤلاء الخلف المجتمعُ لاقتفائهم آثار من قبلهم، فقد تحققت الغاية من إرسال هذا النبي واستُكملت؛ وسيُكتب مثل ثواب الخلف في سجل حسنات السلف؛ وغيرُ الأنبياء مثلهم في هذا، فلو لم يبذل الأستاذ النورسي مثلًا جهودًا مضنية لتبليغ القلوب حقائق الإيمان في عصرنا هذا، ولو لم يفتح مع مائة أو مائتين من طلابه جادةً للإيمان في قلب الأناضول، لما انشرح صدر رجل الأناضول الآن للخدمة القرآنية والإيمانية بهذه الدرجة، ولما ارتحل إلى أرجاء العالم كافة ليصل البقاع التي نُدِبَ إليها؛ فالمهم هو أن يسعى الإنسان إلى الهدف الذي يرمي إليه متحلّيًا بصفات المؤمنين دون ترقب نتيجةٍ أو ثمرةٍ لما يفعله.
زقاق مسدود سَلكه الفاسقُ
أما الفاسق فلو أن خط سيره في الحياة التقى بدائرة صالحة فقد لا تعجبه بعض الأشياء لمنابذتها لأهوائه، ويتطلع إلى أشياء أخرى، أي إن لديه آمالًا ومطامع لا حد لها وإن لم يعترف بوجودها؛ لكنه لا يجد غالبًا ما يلبي حاجاته وأهواءه، فيستاء ويمتعض ممّن حوله، ويقول -وكأن على الخلق جميعًا أن يعلموا جوّانيته-: “لم لا يستقرئون كنه فردٍ داهيةٍ مثلي، ولا يلبّون رغباته؟”؛ ثم يهجر رفقاء دربه من أجل تلك المشاعر والأفكار والآمال، وينصرف متذرعًا بحجج واهية، ويهمّ بعمل أشياء ترضي هواه، فهذا أيضًا نوعٌ من أنواع الفسق؛ ولا جرم أن مثل هذا الإعراض والانفصال لا يعني الخروج عن الدين، ولكنه لما انساق وراء شهواته وملذاته وهجر سبيل الخير والبرّ، وعجز عن أن يحافظ على المقام والمنزلة التي وهبها الله له، اندرج فيمن توعدهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعراضهم عن الحلقة، فقد لفت النبي صلوات ربي وسلامه عليه الأنظارَ إلى أهمية هذا الأمر، فقال عن الذي أعرض وانصرف ولم يدخل الحلقة: “أَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ”[4].
أجل، إن من الفسق أن يتعلق الإنسان بآمال عريضة، وأن يعتقد أن الناس لا يقْدرونه قدره ولا يعرفون قيمته، وأن يرى أنه أولى من غيره بالأجر والجزاء لما يتحلى به من مهارة وبراعة، فلا يقنع بما في يديه، وكثيرًا ما يسوقه هذا الأمرُ في الدنيا إلى نتيجة عكسية تخالف مقصده؛ أما في الآخرة فسيُحاسب ويقال له: “لم تركت الجماعة، وعرّضتَ نفسك للذئاب كما الشاة القاصية؟”.
وإذا لم يقتصر على هذا وشرع في الغيبة والنميمة هنا وهنالك في كبر وغرور، فأوقع الفتنة والفساد يكون بذلك قد شوّه جماليات ناتجة عن جهود كثيرين ومساعيهم.
حبُّ المنصب ومداخل الفسق
أما أعظم الابتلاءات في بيئة الفتن هذه فهو حبّ الجاه والمنصب، والإنسان مجبول على هذا بطبعه؛ أجل، قد يُظهر القدَرُ إنسانًا أصغر منك بعشرين عامًا ليقوم بمسؤولية ما، فمثلًا قد يكون لك السبق في العمل في مدرسة ما، ولكن القدر جاء بآخر مديرًا؛ نعم، على الرئيس أن يستشير من هم أكبر منه عمرًا وأسبق وأخبر، ليستفيد من تجاربهم وأفكارهم الراقية حتى لا تُجرح مشاعرهم، أما المرؤوسون فعليهم السمع والطاعة له أيًّا كان عمره أو خبرته، وإلا عدّ ذلك فسقًا، بل إنّ تخيّلَ ذلك وتصوره يعد نوعًا من الفسق؛ فعلى الإنسان أن يمرّن نفسه، ويصلح من شأنها على الدوام ليمنع الفسق من حق الحياة حتى في عالم خياله.
نذكر في هذا قصة سيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنهما: لقد جهز النبيُّ صلى الله عليه وسلم جيشًا لمحاربة الروم قبل ارتحاله صلى الله عليه وسلم إلى أفق روحه، وعيّن أسامة بن زيد قائدًا للجيش، وأسامةُ يومئذ ابن الثامنة عشرة، ومن جنوده أكابرُ الصحابة عمرًا وفضلًا مثل سيدنا أبي بكر الصديق، وسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ ولم يبتعد الجيش عن المدينة قدر منزلة حتى أتاهم نبأ لحاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، فقفل سيدنا أسامة راجعًا، وغرز الراية أمام بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وظل ينتظر، وقبل أن تُشيع جنازة رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع الصحابة رضوان الله عليهم في سقيفة بني ساعدة، واختاروا أبا بكر رضي الله عنه خليفة للمسلمين، وما إن اختير أبو بكر خليفة للمسلمين حتى أنفذ بعث أسامة، وودعه حتى بلغ خارج المدينة، ثم اقترب منه –وكان أسامة في عمر ابنه أو حفيده- واستأذنه في عمر رضي الله عنه ليكون عونًا له؛ وهكذا على المؤمن أن يكون حتى يبلغ مثل هذا الأفق من التربية السامية.
أجل، لو عُين شخص في وظيفةٍ ما، فالسلوك الإيماني يقتضي التسليم بالأمر، وعدم الاعتراض والمخالفة -مع الحقِّ بل المسؤوليةِ في التنبيه والتذكير والإرشاد بأسلوب لائق عند وقوع أي خطأ- وإلا أضر هذا الأمر بالمجتمع الإسلامي، ويؤكد هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ”[5].
نعم، إن التوفيق والنصر والنجاة والنجاح يكمن في هذا؛ وإلا فإن تعلق كل فرد بآمال وطموحات تخدم أهواءه وملذاته، وقع الفسادُ والهزيمة؛ فعلى الإنسان أن يشنّ حربًا على حب الجاه والمنصب الكامن في نفسه، وأن يقنع بالمقام الذي أقامه الله فيه، حتى يسد الباب دون الفسق والفساد.
[1] صحيح البخاري، الإيمان، 39؛ صحيح مسلم، المساقاة، 107.
[2] صحيح البخاري، بدء الخلق، 16؛ صحيح مسلم، الحج، 67 (واللفظ لمسلم).
[3] سعيد النورسي: الكلمات، اللوامع، ص 851.
[4] إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثةُ نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث: فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ» (صحيح البخاري، العلم، 8؛ صحيح مسلم، السلام، 26).
[5] صحيح البخاري، الأذان، 54؛ صحيح مسلم، الإمارة، 36-37.