سؤال: يقول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله وهو في العقد الرابع من عمره: “إني حصَّلتُ في أربعين سنة في رحلة العمر وثلاثين سنة في طلب العلم أربعَ كلمات وأربعَ جُمل”، ثم يذكر هذه الكلمات: “المعنى الِاسْميّ، والمعنى الحَرْفيّ، والنيّة، والنَّظَر”[1]؛ فما الذي يقصده بـ”النظر”؟ وكيف ينبغي أن يكون النظر الإيماني؟
الجواب: أشار الأستاذ النورسي في كتابه المسمّى “المثنوي العربي النوري” إلى أهمية هذه الكلمات؛ وبين هذه الكلمات علاقةٌ؛ فالأولى الوقوف عند الكلمات الثلاث الأول باختصار قبل الانتقال إلى مسألة “النظر”.
المعنى الاسميّ والمعنى الحَرفيّ
المعنى الاسمي والمعنى الحرفي مأخوذان من الاصطلاح النحوي، فالاسم لفظ يدل على معنى في نفسه، أي متى ذُكِر أدرك السامع معناه؛ أما الحرف فلا يدل على معنى في نفسه؛ لأنه ليس له معنى قائم به، فمثلًا حروف الجر كـ”الباء” و”مِن” و”إلى” و”في”، لا يُفهم منها أيّ معنى عند سماعها وحدها، فلزم أن تُتبَع باسم ليُفهم معناها.
كما استخدم الأستاذ مصطلح علم المنطق “الكل والجزء” في معان مختلفة، كذلك فَعَل في اصطلاح النحويين “الاسم والحرف”، فأضفى عليهما معاني مختلفة، وجعل منهما مفاهيم مفتاحية لتفسير الوجود.
يرى الأستاذ النورسي أنه من الخطأ النظر إلى الكائنات بالمعنى الاسمي أي بحساب الأسباب، بل ينبغي أن يُنظر إليها بالمعنى الحرفي؛ فحين تنظر إلى النعمة يجب أن يرد بخاطرك المنعمُ، وإذا نظرت إلى المخلوق يجول بخاطرك الخالقُ، وإن نظرت إلى الأسباب تذكرتَ المؤثِّر الحقيقي.
النية تغير ماهية الأعمال
أما النية فقد ذكر الأستاذ أنها إكسيرٌ يحيل العادات والحركات العادية إلى عبادات، ورُوحٌ تحيي الأحوال الميتة وتحوّلها إلى عبادات حيوية، وتغيِّر النيّةُ ماهيات الأشياء أيضًا، فتقلب السيئاتِ حسناتٍ والحسناتِ سيئاتٍ، الرياء مثلًا يغيّر العبادة فيحيلها سيئةً؛ ناهيك أن الإنسان قد يُثاب بالنية وإن أخطأ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ”[2]، فلعل النية الخالصة هي سبب إثابة المجتهد إذا أخطأ، فإنه لما كان الاجتهاد استخراجَ حكم تركه الشارع لظروف الأحوال والأزمان على أسس ومبادئ تتناسبُ ومقاصدَ الشريعة، أُثيب المجتهدُ -وإن أخطأ- على بَذْل الجهد والوسع لبلوغ ذاك الغرض، أي أثيب على نيته.
وقد يُعاقَب المرءُ ولا يُثاب وهو يحسب أنّه يحسن صنعًا، وذلك إذا لم يبتغ وجه الله تعالى وكانت نيته الشهرة أو المباهاة بالكرم أو العلم.
يدل على هذا الحديثُ الشريف: “إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: “فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟” قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: “كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ”، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ؛ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: “فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟” قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: “كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ”، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ؛ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: “فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟” قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: “كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ”، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ”[3].
أجل، لو أنَّ مَنْ يؤلِّف ويعظ الناس ويضفي على ما يكتب أو يقول لَمَسات أدبية، إلا أنه أَعرضَ عن طلب الرضا الإلهي وَبَنَى جهوده على فكرة ساذجة مستهجنة كالذِّكر الحسَن مثلًا، فهذا معناه أنه طلب أجرًا تافهًا، مَثله مثل الذي يبيع الجواهر في سوق الحدادين، ولو أنه طلب أجرًا لا منتهى له مثل رضا الله تعالى لَأَثمرَ جهدُه وسعيه ثمارًا مختلفة جذريًّا.
النظر أو أن تَرى حين تَنظر
أما مسألة النظر فعلى الإنسان أن يعرف طرق الرؤية، فمعلوم أن النظر شيء والرؤية شيء آخر، وأنّه لا يمكن للإنسان أن يميز المَرْئيات إن لم ينظر إليها بقصد الرؤية والاستبصار ولو كان مفتوح العينين، فمثلا إذا لم ينظر الإنسان إلى هذه المكتبة بقصد الرؤية فمن المتعذر عليه أن يميز ما فيها من كتب وخطوط وألوان وزخارف… إلخ؛ أجل، الرؤية تختلف عن النظر، إنها تعيين الأشياء المنظور إليها وتحديدها وتشخيصها.
إلامَ يُنظَر وكيف؟
مثلًا لو نظر الإنسان إلى كل شيء وفقًا لمعايير المكان ثلاثيّ الأبعاد في العالم الماديّ فكثير من الأشياء لا يمكن أن يراها أو يحس أو يشعر بها؛ وذات يوم تداولت وسائل الإعلام مقولة رائد الفضاء السوفيتي يوري جاجارين: “طوفت بالكرة الأرضية كلها ورجعت ولم أر الله”، تعالى الله عما يقول؛ فعلّق الأستاذ “نجيب فاضل”[4] على هذه المقولة في بعض محاضراته بنبرته الخاصة معبرًا عن انحراف فكر هذا الفلكي بقوله: “يا لك من أحمق! من أخبرك أن الله نفاخة معلقة في الفضاء؟”.
أجل، إنه سبحانه وتعالى خالق كل شيء من العدم مبرأ ومنزه عن الزمان والمكان، ولو توهمه الإنسان جسمًا في السماء وحاول أن يراه -تعالى الله عن ذلك- لما استطاع ألبتة رؤية الحقيقة، ولَمَا سلم من الوقوع في مثل هذه الانحرافات.
كل شيء يشهد على وجود الله تعالى ووحدانيته من كلّ وجه، إلا أن عجز الإنسان عن تقويم رؤيته يحول بينه وبين الإيمان، كما كان الكبر والظلم وتقليد الآباء والأجداد يحول دون الإيمان.
وقد قيل في هذه الحقيقة بإيحازٍ يسترعي الانتباه:
تأمَّلْ سطور الكائنات فإنها مِن الملأ الأعلى إليك رسائلُ
لكن عندما نظرنا إلى الكون بوجهة نظر مادية أو طبيعية أو وضعية لن نستطيع سماع صوت الكائنات التي تعرِّف بالله تعالى بآلاف بل بملايين الألسنة، ورغم أن أمثال هؤلاء يدققون النظر في الكون إلا أنهم ينسبون كل شيء إلى الطبيعة لعجزهم عن الرؤية مع أنهم ينظرون، أو لعدم قدرتهم على القفز إلى ما وراء ما يرونه، وبعبارة أخرى: إنهم لن يستطيعوا تقييم الأشياء والأحداث التي شغلوا بها تقييمًا يدلهم على الذات الإلهية، لأنهم لا يعرفون كيف ينظرون وإلامَ ينظرون.
وللأستاذ النورسي وجهة نظر مهمة في هذا كشف عنها في الكلمة الخامسة عشرة من كتاب “الكلمات”، أشار فيها إلى ضرورة أن ينظر الإنسان إلى القرآن -حين ينظر فيه- بوصفه كلام الله؛ لأننا لو فرضنا أن القرآن قول البشر لقطعنا صلته بالسماء وأنزلناه إلى مستوى البشر.
والحق أن القرآن قد نزل مراعيًا العقل البشري، إلا أن على الإنسان أن ينظر إليه نظرة صحيحة ليشعر بعمق وانشراح حقيقي بهذا الكلام الإلهي المنزل من وراء الماوراء.
النظر الكليّ
وفي مسألة النظر أمر آخر ينبغي الوقوف عنده، وهو النظر الكليّ إلى الأحداث والأشياء، وإن شئتم فأطلقوا عليه النظر الكامل.
وأنوّه هنا أنّه ليس من السهل تحقيق ذلك النظر الكليّ عندما ننظر إلى الآفاق خاصة؛ ولا يتيسر هذا الأمر لكلِّ إنسان، لذا وضع الأستاذ النورسي لهذا الموضوع مقياسًا ومنوالًا ننسج عليه: “التأمّل في الأنفس، والنظرة الإجمالية إلى الآفاق”؛ فمثلًا عندما ينظر الإنسان إلى بنيته ووظائف أعضائه في ضوء علم الطبّ قد يتعرف بيسر على وجوده ثم يتعمق أكثر من سائر الموجودات، فلو تتبّع الأنظمة العاملة في بنيته بنظرة شعورية لأدرك القدرة المطلقة والعلم المطلق في ذلك التناغم المذهل والنظام البديع؛ ولو نظر إلى أبعادِ عالمِه الداخليِّ محورِ بنيته المعنويةِ مثل القلب والروح والسر والخفيِّ والأخفى، لَسمع صوت قلبه وفهم أحاسيسه وأدرك معنى الشعور واكتشف إرادته؛ وهكذا يمكن للإنسان أن يصل إلى أبعاد وأعماق كثيرة من خلال التأمل والتدبّر والتذكر والتفكر في ظاهره وباطنه، وفي مادته ومعناه.
أما في الآفاق أي الكون بأكمله فعلى المرء أن ينظر إليها نظرة إجمالية، يقول الأستاذ النورسي رحمه الله: “إن المعلومات الآفاقية لا تخلو عن الأوهام والوساوس، وأما إذا استندت إلى الأنفس واتصلت بالوجدانيات الشاعرة بالذات، فقد تَصفَّتْ عن الاحتمالات المزعجة، فانظر من المركز إلى المحيط، ولا تعكس فتنتكس”[5].
أجل، على الإنسان أن ينظر إلى الكون عبر الأنفس، أي أن يجعل الأنفس منظارًا ينظر منه إلى الكون؛ لأننا نستطيع أن نرى في الآفاق ما يجرِي في الأنفس من قوانين، وعندما يستطيع الإنسان تتبّعَ هذه السلسلة يمكنه أن يتعمق في الأنفس أولًا، وأن يعلم أن كل القوانين والأنظمة التي في الأنفس إنما تستند إلى قدرة الله المطلقة، ثم يرى نفس القوانين والأنظمة في كتاب الكون أي في الآفاق؛ فيقدر على أن يقرأ الكون بمنظار النظر الكليّ.
[1] سعيد النورسي: المثنوي العربي النوريّ، الرسالة الرابعة (قطرة من بحر التوحيد)، ص.117.
[2] صحيح البخاري، الاعتصام، 21؛ صحيح مسلم، الأقضية، 15.
[3] صحيح مسلم، الإمارة، 152.
[4] نجيب فاضل قِيصه كُورَكْ (1321هـ/1904م – 1403هـ/1983م): من أشهر المفكرين والشعراء والكُتّاب الأتراك في القرن العشرين، لُقب بـ”سلطان الشعراء” لطول باعِه في الشعر.
[5] سعيد النورسي: المثنوي العربي النوري، الرسالة السادسة (حَبّة)، ص 229.