سؤال: يُقال: إن التعفُّف والاستغناء من أهمِّ مقومات روح التفاني ، فما الأمور التي تجب رعايتها ليتمكّن المرء من المحافظة على خُلق التعفف والاستغناء في مراحل حياته كلها؟
الجواب: أنوّه بدايةً أنّ الغنى في الاستغناء بالحقِّ عن الخَلق، بل إن من استغنى بوسعه أن يتحدّى الخَلق جميعًا بهذا الخُلُقِ؛ فمن يحلّق بروح الاستغناء يضع بينه وبين الأهواء والتشوفات المادية والمعنوية كافّة حجابًا ويغلِّق الأبواب ويوصدها، فلا تذلّه المنّة، ولا يشعر بالامتنان لأحد سوى الله تعالى.
الذل والخنوع من أجل المنصب
علينا ألا ننسى أن الاستغناء ليس سلوكًا مقصورًا على موقفنا من المال والملك والثروة الحقيرة، بل هو أيضًا الثبات والصمود في وجه المقام والمنصب والتقدير والتهليل وشتى أنواع الرغبات والأهواء النفسية؛ فلو عزم عليك الناس بإصرار أن تتقلّد منصبًا أو رتبة كأن تكون مديرًا أو مستشارًا أو نائبًا في مجلس الشعب، فحاسب نفسك وقل لها: “يا تُرى هل يمكنني أن أحافظ على روح الاستغناء وأنا في هذا المنصب؟!”.
أي حاسبها قائلًا: “ما الدافع للحصول على هذا المنصب، أهو الهوى أم السعي في خدمة الأمة لنيل رضا المولى عز وجل؟”؛ فإن تحكمت النفسانية بالنفس فعليك أن تقاوم ذلك الهوى.
ورُبَّ قائل: “لو تعين علينا جميعًا الاستغناء عن بعض الوظائف والمناصب فستظلّ شاغرة؟!”
وجوابه أنه لو وُجد كفء لهذا المنصب وقدَّمتَ نفسَك فهذا يثير الضغائن والحسد، ويفضي إلى النزاع والشقاق، فلو اجتمع عشرة أئمة أَكْفَاء في مسجد، ثم تقدمتَهم إلى المحراب، فهذا ضررُه أكبر من نفعه؛ لأنه لا بد أن أحدهم سيؤمّ الجماعة.
وأمرٌ آخر ذكره بديع الزمان سعيد النُّورسي: “على المرء أن يؤثر التبعية على المتبوعية التي تنذر بالخطر وتقتضي تحمّل المسؤولية”. أجل، إن الإمامة أمرُها جلَل؛ فالإمام يتحمل تبعة المأمومين جميعًا، فإذا أخطأ تحمّل تَبِعة الجماعة كلها، ومثل هذا لو أنّ محافِظًا قصّر لَتحمّل وِزر أبناء المحافظة جميعًا، وكذا لو أن الرئيس ارتكب خطأ يضرّ بالشعب، فسيرحل إلى الآخرة وهو محمَّلٌ بأوزار الشعب كلّه.
إذًا على المرء أن يُؤْثِر دور الناخب لا المنتخَب؛ لأن الخطأ ديدن كلِّ من يحرصون على الفوز بالانتخابات، أما من لم تهمّه نفسُه وسعى ليتقلّد الأكفأ أيًّا كان فقلّما يُخطِئ.
أَصعبُ الاستغناء
ذروة الاستغناء في هجر المرء لمدح النفس، وتذمُّره إذا مدحه الناس؛ أجل، على المؤمن الكامل أن تستشعر أعماقه أنّ المدح قدح وإن راق لنفسه الأمّارة، بل عليه أن يسأل نفسه قائلًا: “إنما أبتغي الجزاء في الآخرة، فلماذا يقدّمه الناس إليّ الآن، يا ترى هل أنا مَن دفعهم إلى ذلك؟”، ثم يؤثر سبيل العجز والفقر، فيقول: “اللهم أَنْسِني نفسي، وكرِّه إليّ الحديث عنها”.
قد يستغني الإنسان عن المال والملك، بل قد يُعرِض عما يُعرَض عليه من مناصب كأن يكون واليًا أو محافظًا أو نائبًا في مجلس الشعب أو مستشارًا، ولكن الاستغناء عن التقدير والتبجيل أصعب من هذا كلّه؛ فمن الأهمية بمكان أن يبدأ الإنسان فيتخذ موقفا حازمًا من كلّ ما يُوجّه إليه من تقدير وحفاوة، وألا يواري الباب لهذا الضرب من الآمال والتشوفات، وأن يحثو التراب في أفواه المدّاحين والحامدين حتى يغلق المنافذ دون هذا السبيل.
تربويّون مجهولون تواروا وراء خشبة المسرح
إنني أعدّ أصدقاءنا التربويين الذين يعملون في مجال التعليم والتربية في كثير من الدول من أعظم الناس تضحيةً في عصرنا؛ لأنهم انفتحوا على العالم في ظروف صعبة، ورَبّوا طلابًا سيخدمون للحبّ والإنسانية؛ ثم آثروا البقاء وراء خشبة المسرح في حفلات يُعرض فيها شيء من ثمرة جهودهم، واكتفوا بتصفيق الملايين وتهليلهم لطلابٍ أشرفوا على تربيتهم وتعليمهم؛ اللهم لا تخيّب ظنّنا فيهم، فإنَّا لنرجو أن يواظبوا على أداء أعمالهم بصدق وإخلاص كما عهِدناهم.
ورأى بعض الفضلاء العارفين بالجميل تكريمَهم وشكرهم إذ إنّهم مصدر هذا الأمر ومهندسوه، بيد أنهم آثروا الخفاء والتواري وراء خشبة المسرح؛ والحقُّ أن هذا هو السلوك الأمثل الذي كان عليهم القيام به.
أجل، على مَن ينثر البذور في التراب أن يرحل إلى الآخرة مجهولًا متواريًا، ولا يشغلن نفسه بمن يحصد سنابلها ولا بمَن يدرسها، ولا بمَن يأتي بالغلال إلى الجَرِين، بل ينبغي ألا يتعلّق قلبه برؤية الثمرة.
أجل، إنّ أسمى أمانينا -نحن المؤمنين- أن تعلو كلمة الله عز وجل وترفرف خفّاقةً في أنحاءِ العالم كافّة، وأن تصبح حقيقةُ “لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله” هي صدى القلوب المؤمنة وأنفاسَها في كلّ مكان؛ ولو كانت لنا ألف روح لَما تأخرنا في التضحية بها في سبيل تحقيق هذه الغاية؛ حتى إني -أنا الفقير البائس- أيضًا لَأعد هذه الغاية أعظم أمنية ورغبة في الحياة، وأحيانًا تفيض عيناي بالدموع وأنا أقول: ليت صدى “لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله” يتردّد في كلّ مكان.
ورغم هذا الشوق والحماس فإنك إن أسهمتَ في تحقيق هذه الغاية المثلى ولو بقدر ضئيل، ولحقتَ بهذه القافلة المباركة، فأرى أن عليك أن تقول: “وا شوقاه إلى مجيء ذلك اليوم، يومِ نموّ ثمرات هذه الجهود وظهورها، وبُعدًا ثم بُعدًا للتصفيق والتهليل والتقدير والتبجيل من مدّاحين يقولون: “كانت لهذا الرجل يدٌ في هذا الأمر، حسبي أن أشاهد -وأنا في العالَم الآخر- هذه الغاية السامية عاليةً خفّاقة في أنحاء العالم كافّة”.
بل على المرء أن يتمثل شعور الاستغناء الحقيقي، وأن يسعى إلى إدراك أفقه، فيقول: “قد تفرز مشاركتي في هذا الأمر مشكلات وعثرات، فالأفضل أن أخرج من هذه الدنيا وأتوارى تحت التراب، وأشاهد -وأنا في العالم الآخر- تصريف الأمور الربانيّة”.
الإعراض عن الدنيا والإقبال على الله
أهمّ وسيلة للحفاظ على روح الاستغناء هي التخلّق بخلق “الإيثار”؛ فعلى إخواننا في حركة المتطوعين أن يتحلّوا بهذا الخلق، حتى إن عليهم أن لا يكتفوا بالتضحيات الماديّة كالإطعام والسُقيا والتبرع بالراتب، بل وعليهم أن يؤثروا الآخرين بالفيوضات المعنوية؛ أجل، عليهم أن يروا غيرهم أجدر منهم بالمقامات المعنوية، وأليق منهم بالكرامات؛ وعليهم ألّا يتوجَّهوا إلا إلى ربِّهم ويؤثروا رضاه على كل شيء، ويقولوا دائمًا: “حسبُنا الله ونعم الوكيل”.
هذا هو روح الإيثار وخلق الاستغناء بمعناه الحقيقيّ، وإننا لَأَحوجُ ما نكون إلى هذا الخلق في أيامنا هذه.
والحاصل أن على هؤلاء أن يُعرضوا عن المكاسب الدنيوية من مقام ومنصب وتقدير وتبجيل وتهليل، بل وعليهم أن يُعرضوا في هذا السبيل عن المقامات الأخروية -من وجه- وألّا يتشوفوا إليها، وأن ينتظروا النعم الأخروية من فضل الله وكرمه وسعة رحمته؛ إذ إنه لا سبيل للحصول على أي قيمة إلا بفضل من الله وإحسانٍ منه سبحانه وتعالى، فلن يدخل أحدٌ الجنة أو ينجو من النار بنفسه؛ إن ذلك محض فضل وإحسان ورحمة من الله جلّ وعلا، فإن أعرض الإنسانُ عن كل شيء سواه فتح اللهُ له الأبواب جميعها؛ نعم، أَوصِدوا الأبوابَ دون الدنيا تجدوا أن الله جلّ في علاه قد أبدلكم ألف بابٍ بالباب الذي أوصدتموه، لأنه سبحانه بيده مفاتيح كلّ شيء.
أجل، لو أردتم أن تتفتّح أبواب الإحسان والرضا والمدد الرباني فأوصدوا الأبواب دون كلّ الآمال الدنيوية.