سؤال: يذكر بعضُ المعلِّمين -أنه عدا المعاناة من الضيق المادي والمشاق- قد يتأثرون أحيانًا بمشاكسات الطلاب وعزوفهم عن العلم والتعلم، فما قولكم في هذا؟
الجواب: لو وضعنا المبادئ الدينية نصب أعيننا لتبين أنَّ التعلّم والتعليم وظيفتان علويتان مرتبطتان بما وراء السموات، وفي كثير من الآيات والأحاديث الشريفة إشارات إلى أهمية العلم وحضٌّ عليه، يقول ربنا تبارك وتعالى:
﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (سُورَةُ الزُّمَرِ: 39/9).
وعندما تحدّث القرآن الكريم عن فضل سيدنا آدم عليه السلام على الملائكة أبرز ميزته في موهبته وقدرته على تحصيل العلم، وهذا له مغزى عميق في حديث القرآن الكريم عن أهمية العلم، يقول تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/31-33).
ويُفهم من هذا أن أهم خاصية فضلت الإنسانَ على الملائكة هي تعلُّمه الأسماء، أي استعداده وقدرته على تحصيل العلم.
وَرَثَةُ منهاج الأنبياء
وجّه سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنظارَ إلى أن العلم هو ميراث النبوة، قال:
“إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ”[1].
وقال في حديث آخر:
“إِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا”[2]، ولفت الأنظار إلى أهمية العلم والتعليم.
إذًا المعلِّم ممثِّل لمهمة سامية، وهو صانِع فكرها ومهندسها، واليوم يمكن للمعلِّم الذي جعل همَّه دعوتَه أن يُنير عقول طلابه وأرواحهم باستغلال كل إمكانيات العصر، وسبر أغوار العلوم، والاستفادة من كل فروع المعرفة مثل الرياضيات والأحياء والفيزياء والكيمياء والتشريح والفسيولوجيا والجيولوجيا؛ وعليه يُقال: إنّ التعليم هو أنسب الطرق لإشادة الصروح العظام في باب صياغة الإنسان؛ من أجل هذا أولى القرآن الكريم هذا القدر من الأهمية للتعليم، وأكثرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن هذه المسألة، فكلّ من ينشد النفع لوطنه وأمته والبشرية جمعاء عليه أن يتحمل كلَّ المشقات وأن يبذل وسعه في هذا السبيل رغم كل شيء، وأن يستخدم هذه الأداة النافعة بكلّ قوة.
ساحةُ تأثيرٍ تمتد من الطالب إلى بيئته
نعم لا يُعتد شرعًا بشهادة الأطفال لكنها نفسيًّا هي أمضى الشهادات، فهم إن قالوا صُدِّقوا، والمثل التركي يقول: “سَلِ الطفلَ”؛ فإذًا ليس الطالب هو المخاطب الوحيد للمعلِّمين، لأن لكل طالبٍ أقرباءَ كأصوله وحواشيه، وعندما يرجع من المدرسة يقصّ عليهم ما جرى فيها مع معلّمه، وكيفما يفعل المدرِّس في تصرفاته وأخلاقه يروي الطفلُ لعائلته، فيقول عن معلمٍ أحبه وتعلّق به: إن معلّمنا يعاملنا بأخلاق سامية، يسمع شكوانا، ويحل مشكلاتنا، فإن حزِنّا سرَّى عنا وأذهب كلَّ همومنا وغمومنا؛ وبهذا يحسن أولياء الأمور الظنَّ بالمعلِّم، وإن استطاع المعلِّم اقتناص زيارة أولياء الأمور أو مناسبات أخرى لبِنَاء حوار بنَّاء معهم صار الطلبة بذلك قنوات لشبكة علاقات بعدَّة عائلات؛ وبذلك يمكن أن تصل عناية المعلم بالطالب ورعايته له إلى أسرة الطالب أيضًا، بل إلى كل ذي قربى بهذه الأسرة، فتتسع مساحة تأثيره.
وأرى أنَّ مهمة كهذه لها هذا القدر من المكتسبات جديرة بأن يقوم بها الفرد مهما كانت المشاق والعقبات، وبأن يكتفي بما يسد الرمق إن لزم ذلك، وألا يرى من العقبات المادية كضعف الراتب مشكلةً تَثنيه عن أداء رسالته، فالمال ليس ركنًا في كل شيء، بل ربما كان أشد الناس فقرًا على وجه البسيطة هم الأنبياء، ومع ذلك تربّعوا في قلوب الناس، ووجهوهم إلى الخير، ووهبوا للدنيا كلها حياة جديدة، ولا أقصد أن يكون الفقر المصطنع وسامًا للمعلّمين، بل أريد أن أبين أن المال ليس كلَّ شيء، وأن لدينا أنواعًا أخرى من الثراء مثل: كسب القلوب، والنفوذ إلى الأرواح، وتوجيه الناس نحو غايات سامية.
ولقد حاز التعليم أهمية بالغة خاصة اليوم؛ إذ حوَّلت الأنشطةُ التعليمية العظيمة العالمَ قرية صغيرة؛ هذا ويُلاحظ أن من المعلِّمين من يُكره الطلاب على أشياء دون اكتراث لردود أفعالهم، أما أنتم فعليكم أن تجتهدوا بالاعتماد على الودّ واللطف للانطلاق برحلات قلبية إلى قلوب الناس، فالتعليم طاقة كامنة وراء كل ما تقومون به.
ومن الضروري تشجيع الطلاب على كل المستويات لسلوك هذا السبيل، وتحفيزهم على التعليم؛ وليس لكلامي هذا مفهوم مخالفة، فمثل التعليم العنايةُ بجميع المهن التي تنهض بالمجتمع وتُنعشه، فلا يجوز إفساح المجال لوقوع أي ثغرة أو قصور في مناحي الحياة المختلفة، ولكن لا ننسى أنّ للتعليم مكانةً خاصة في إحياء المجتمع.
كسبُ قلوب تدعو لنا طوال العمر
أما مسألة مشاكسات الطلاب وعدم مبالاتهم بالتعلُّم فلنعترف بدايةً أنَّ مثل ذلك قد يصدر عن أي طالب، فالجانب الأهم في التعليم هو الاعتراف بمثل هذه المشكلات وتحمّلها والصبر عليها، ها أنتم ترون النَّحّاتَ يبذل جهدًا كبيرًا حتى يصنع من الحجر القاسي الصلد تمثالًا، ويتصبب عرقًا ويتعب ليجعل هذا الحجر في قالبٍ ما بعد نحته وتشكيله؛ وليست مهمة المعلِّم بأيسر من ذلك، فهو يحاول أن يعالج هذا الإنسان الخام، ويحتّ كل أطرافه المدببة ويشكّله حتى يصل به إلى أن يكون إنسانا حقيقيًّا، أو قل: إنه كالصائغ يعالج الجواهر المكنونة لدى الإنسان ويعمل على إقامة صرح روحه؛ أجل، إنه مثل الفنان يعيد صياغة الإنسان من جديد.
ورغم هذا كله قد يوجد طلابٌ يختلقون المشكلات ويُخلّون بالنظام العام، فيلزم عندئذ مقابلة أولياء الأمور وتطبيق برامج بديلة للتوجيه والإرشاد؛ وذلك للحيلولة دون إضرارهم بمن حولهم، وللحفاظ عليهم ما أمكن، مثال ذلك استدعاء أولياء الأمور إلى المدرسة ليشاهدوا أبناءهم عن بعد، ثم نعمل معًا لإيجاد سبلٍ شتّى للعلاج بالتشاور بين المعلِّم وولي الأمر.
لقد أخرج الرسولُ الأكرمُ محمد صلى الله عليه وسلم معلِّمينَ للحضارة الإنسانية من بين أشدِّ الناس همجية وبداوة وتعصبًا لعاداتهم واختلاقًا لأعذار يسفكون بها الدماء؛ وبذلك أصبح عليه الصلاة والسلام حبيبًا للقلوب، حتى إن منهم مَن دخل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين صحابته، وصاح قائلًا: “أيُّكم ابنُ عبد المطلب؟”، ثم جاء اليوم الذي لان فيه قلبه وجلس في حضرته صلى الله عليه وسلم يستمع إليه وكأن على رأسه الطير.
هذا هو أعظم تعليم وإرشاد؛ أجل، إن الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام قد جعلوا من أشدِّ الناس همجية وبداوة أناسًا صدِّيقين وتيجانًا فوق رؤوسنا؛ فمن الممكن أن يقع مثل هذا في كل وقت وحين؛ وعلى ذلك فمن المفترض أن يكابد المعلِّم ويعاني ويتكدّر، ولكنه في النهاية سيكسب أناسًا يدعون له طوال العمر، وسيُكتب له في سجل حسناته مثل حسناتهم، فالظفر بنتيجة كهذه تستحق منا مزيدًا من التحمل أيًّا كان قدره.
وقد لا يستطيع المعلِّم أن يصل بطلابه إلى المستوى المنشود، وقد لا يفوز بجميع الطلاب الذين مدّ لهم يد العون، فكم من الناس انفضّ عن أعظم المرشدين الممتازين فخابوا وخسروا، فما على المعلِّم إلا أن يبذل ما في وسعه في هذا السبيل، ثم يفوّض الأمر إلى الله بارئ الثمرة، وليُعلَمْ أنّ المعلِّم لو عدّ هذه المهمةَ أولى أولوياته، ثم انشغل بهذه الوظيفة وتجرّع الآلام كي يوفيها حقها، فلا جرم أن الله تعالى لن يخيِّب سعيه أبدًا، وسيتغمده بفضله وإحسانه، ويلهمه سبل الحل والرّشاد.
ما مِن معضلة إلا ويحلّها لسانُ الحال
مسألة مهمة لا ينبغي أن نغفلها في التعليم، ألا وهي أثر الأسوة الحسنة ولسان الحال في إرشاد الطلاب وتوجيههم، فإن الإنسان ينزع إلى الشر، ويجنح إلى الشهوات وسيئ الأخلاق مِن غضب وحقد وعداوة واعتداء على الحقوق، فمن المفترض أن ينحدر إلى أسفل سافلين إن أسلمناه لأهوائه؛ ولا يتأتى قمع أهوائه وتنمية ميوله الطيبة إلا على يد مرشد يُقتدى به في سلوكياته وأفعاله.
وأخيرًا أريد أن أبوح ببعض مشاعري، وأرجو ألا يُعد هذا تفاخرًا: أنا ابن الرابعة والسبعين لو عُهِد إليّ بوظيفة في كوخي الخشبي الصغير في “كستانه بازاري”[3] لهرولت لأدائها، ولعلها في نظر بعضكم أمر صغير يسير، لكنني لا ولن أعدها كذلك ألبتة، حتى إن بعض الناس قد يعد مطالعتي مع الإخوة هنا وانشغالي بالطلاب أمرًا يسيرًا صغيرًا، بيد أنه عندي أعظم الوظائف التي تأخذ بيد الإنسان وتبلغ به أعلى الدرجات.
وحُمادَى القول أن على الإنسان أن يقدر التعليم قدره ويجلّه، ويدرك أنه مهمة الأنبياء، فالحقيقة أنه من المتعذّر أن نجد بين مَن يخدمون الأمة إنسانًا يَعدِل المعلِّم؛ لأن خدمة الناس واستثمارهم أعلى من كل شيء، فلا شيء يعدل إرشاد بضعة أشخاص وتوجيهَهم حتى وإن كنتَ بستانيًّا لكل حدائق العالم وبساتينه، والسلطنة أيضا لا تعدل الرقيّ بالناس إلى مستوى الإنسانية، ألم يتربَّ الحُكّامُ العظام على أيدي معلِّمين عظام؟
وهكذا فبعد أن نضع هذا الأمر نصب أعيننا نقول: إنَّ أقربَ الناس إلى الله عزَّ وجلّ هم المعلِّمون الذين نذروا حياتهم لنفعِ غيرهم؛ لأن هؤلاء هم مَن يُعيدون صياغة الإنسان، ويبنون المجتمع، ويشيدون الواقع، ويصنعون المستقبل.
[1] سنن أبي داود، العلم، 1؛ سنن الترمذي، العلم، 19.
[2] سنن ابن ماجة، المقدمة، 17.
[3] لما عمل المؤلف مديرًا ومدرِّسًا في “كَسْتانَه بازاري” -معهد لإعداد طلاب العلوم الشرعية- أقام في كوخ خشبي صغير جدًّا بجانب المعهد.ش