مقارنة بين التربية القرآنية والتربية غير القرآنية
في هذا القسم نقسم مسألة التربية من حيث الأساس إلى قسمين: التربية القرآنية والتربية غير القرآنية.
ثمّة احتماليّة أن يكون جيلُ المستقبل ظالـمـًا همجيًّا متبلّد الشعور بسبب اعتناقه للأفكار الفلسفيّة الخاطئة، وانسياقه وراء التيارات الفاسدة السفسطيّة المتطرّفة، أو أن يكون رحيمًا عزيزًا واسع الأفق بسبب ما سيعتنقه من دساتير إلهيّة ومبادئ قرآنيّة سامية.
والحقّ أن الإنسان متى ما ابتعد عن القرآن وركن إلى نفسه تعاملَ بقسوةٍ وظلمٍ ووحشيّةٍ مع الضعفاء والعجائز وقليلي الحيلة، فاستعملهم واستغلّهم بل واستحقرهم واستخفّ بهم، فإن غدا يومًا ذليلًا ضعيفًا تذلّل وقبّل الأيدي والأرجل متذلّلًا، وخرّ على الأرض مقابل أدنى مصلحة يرجوها.
كيف يتناول القرآن الإنسان؟ وكيف يعرّف الفرد؟ وما الذي ينشده فيه؟
إننا سنحاول عند تناول هذه الأمور أن نرسم لوحةً للشخص الذي يصفه القرآن بالمسلم، نوضّح من خلالها بعض المبادئ الخاصّة بهذا الموضوع، فمَن تقبّل هذه المبادئ وعايشها فهو المسلم الكامل، والمجتمع الذي يشكّله هؤلاء المسلمون الكاملون هو المجتمع المثالي.
الفرد له وضعان: الأوّل: وضعه كفرد، والثاني: وضعه كركنٍ في المجتمع.
وبدهيٌّ أن صلاح المجتمع من صلاح الفرد، فسلامة المجتمع تقتضي سلامة أفراده مادّيًّا ومعنويًّا، وسلامة الفرد تُقاس بسلامة عقيدته، ومداومتِه على العمل الصالح، وموافقة معاملته مع مبادئ الشرع الحنيف.
لنبدأ حديثنا بالتربية غير القرآنية، إذ التخلية قبل التحلية:
1- التربية غير القرآنية
أ. تُفرعِنُ الناسَ
التربية غير القرآنيّة كما شاهدنا على مدى التاريخ تجعل لدى الإنسان استعدادًا لأن يكون فرعونًا ذليلًا.
أجل، إن للفرعنة وجهين، الأول: القوّة والتجبّر؛ وعندها يكون الإنسان متعدّيًا متجبّرًا ظالمًا مفاخرًا أنانيًّا، والثاني: الضعف والوهن؛ فبه يكون الإنسان مسكينًا بائسًا ذليلًا يقبّل أقدام الآخرين، وكما يقول الأستاذ بديع الزمان رحمه الله رحمة واسعة:
“التلميذ المخلص للفلسفة الدنيويّة فرعونٌ ولكنه فرعونٌ ذليلٌ، حيث يعبد أخسَّ شيءٍ لأجل منفعته، ويتّخذ كلّ ما ينفعه ربًّا له، ثم إنه عنودٌ دنيءٌ؛ إذ يتذلّل ويخنع لأشخاصٍ هم كالشياطين، بل يقبّل أقدامهم!”، أما الروح التي تربّت على القرآن فيقول عنها: “عبدٌ عزيزٌ لا يستذلّ لشيءٍ حتى لأعظم مخلوق”[1].
إن هذا الحال لا ينطبق فقط على فرعون موسى، بل هو قاسمٌ مشتركٌ بين ذوي الطباع الفرعونيّة على مدار التاريخ، وأظنّ أنّ هذا العصر هو العصر الذي يكثر فيه مثل هؤلاء الفراعنة.
فمثلُ هذا الشخص المتفرعِن إن مرّ بضائقةٍ ما وأعْيَتْه الحاجة تذلّلَ في سبيل الحصول على منفعته، وتلوّى وخرّ على الأرض خانعًا، فإذا ما وضع قدمه على أرض صلبةٍ وشعر بالقوّة تحوّل إلى معتدٍ همجيٍّ مغرورٍ مفاخرٍ، وهذه هي أوصاف ذي الوجهين وذي المعايير المزدوجة.
ويرسم القرآن الكريم صورة لهذه النفسيّة الشاذة، فيقول: ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى $ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾. (سُورَةُ النَّازِعَاتِ: 79/23،24).
هذه هي اللحظة التي تفرعن فيها وتجبّر، واغترّ فيها بخيله ورجِلِه.
وأما الحالة الثانية فهي التي أصابه فيها الذلّ والهوان، وجعلت منه أذلَّ الأذلاء وأبأسَ البؤساء، ويصور القرآن الكريم هذه الحالةَ الروحيّة بقوله: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (سُورَةُ يُونُسَ: 10/90(.
وعند إنعام النظر في هذه الآية يتبيّن لنا أن فرعون لم يكن مخلصًا في قوله، بل كان عدم الإخلاص ينبعث من صيحاته، كما لم يكن صادقًا في مشاعره وأفكاره وكلامه، لو كان صادقًا لَقبِلَ اللهُ منه إيمانه، ولكن لمّا جافى الصدقُ كلامه عندما انقطعت به السبل ولجأ إلى الله تعالى بالدعاء لم يقبلِ الله تعالى منه هذه الصيحات المؤلمة، وهذا نوعٌ من الفرعونيّة؛ يمكنكم أن تصادفوا المئات ممّن يتّصفون بها في وقتنا الراهن؛ يأتون حتى أعتاب بيوتكم ويقبّلون أيديكم وأرجلكم من أجل المقام والمنصب، فإن انقضت مصلحتهم انصرفوا عنكم واعتبروكم نسيًا منسيًّا، وجحدوا العرفان بالجميل، والحقّ أنكم إن شاهدتم هؤلاء الناس وهم لا يوجّهون هِمَمَهم لحلّ المشاكل الوطنيّة وخدمة الدين والإيمان وتربية الأجيال، ويتظاهرون بالعمل النافع على سبيل التضليل، شعرتم بحسرةٍ وضيق واشمئزاز بالغٍ منهم.
قد لا يكون من تربَّى تربيةً غير قرآنية “فرعونًا” من كل الجوانب، لذا نفضّل تسمية السلوكيات التي ذكرناها آنفًا “سلوكيات فرعونية” أو “أخلاقًا فرعونيّة” بدلًا من تسمية أصحابها “فراعنة”، فقد يوجد لدى المؤمن أحيانًا أخلاقٌ فرعونيّة، وقد يتحلّى الكافر بأخلاقٍ مُوسَويّة، فإن استقرّت هذه الأخلاق الفرعونيّة لدى المؤمن وتمكّنت منه غدا -نسأل الله السلامة- فرعونًا في النهاية، أمّا مَن تخلّق بالأخلاق الحميدة الموسويّة فقد يدور يومًا في فلك سيدنا موسى عليه السلام.
أجل، إن الله لا ينظر إلى منظر الناس وهيئاتهم وأعراقهم وطبقاتهم، بل ينظر إلى قلوبهم وحياتهم الروحيّة وتقواهم وزهدهم؛ أي إن معاملة الله مع الناس تكون حسب أوصاف الناس لا حسب أسمائهم.
وفي هذا الصدد يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ”[2].
ب. تدفع الإنسان إلى العناد والتمرّد
العناد والغرور من سمات مَن تربّى تربيةً غير قرآنيّة، ففي سبيل عزّته وشرفه وكرامته يهضم الكثير من الحقوق ويسحق العديدَ من القيم دون رويّة أو تردّد، بيد أن الله تعالى وهب الإنسان هذا العناد حتى يثبُتَ على الحقّ ولا يتراجع عن القضية التي يؤمن بها.
أجل، إن الله تعالى قد أمدّ الإنسان بحسّ العناد حتى لا يتراجع عن القضية التي يعرفها ويؤمن بها ويُدافع عنها حتى وإنْ حُرِمَ من المال والمنصب وشتى النعم والآلاء، غير أن سوء استعمال هذا الحسّ ووضعه في غير محلّه قد يحوِّله من خلقٍ نافع إلى خلُق ضار، والتمادي في سوء استعماله هو بداية التردّي والهلاك؛ إذ يسوق الإنسانَ إلى الفرعونيّة؛ حتى إن مَن يحمل هذه الصفة لا يقبل الحقَّ وإن شاهده أمامه، ولا يتوانى في إظهار ذُلّه وهوانه من أجل أدنى وأخسّ منفعة.
وحال الأمسِ لم يتغيّر عن حال اليوم. أجل، إن ما أحدثته التربية غير القرآنيّة في النفوس أمسِ لا يختلف عمّا يحصل اليوم، فهناك الكثير من الفراعنة في أيامنا لا يبدؤون كلامهم إلا بقولهم “نحن المثقفين”، وينظرون إلى الناس من برجٍ عاجي، ويرون مَن لا يفكّرون على شاكلتهم في مستوى أدنى من الإنسانيّة، فإذا ما وهنوا وضعفوا تذلّلوا وتمسكنوا، فإن وصلوا للمنصب والسلطة لا يعترفون بحقّ الحياة لغيرهم، وإذا استثنينا بعض الظروف والأحوال سنجد أنه لا خلاف بين هؤلاء وبين الأقدمين من ناحية الطباع والشخصيّة.
إن الإنسان لا يجني من وراء التربية غير القرآنية سوى إشباع البطون وتلبية الرغبات النفسية، فإذا ما ذُكِرَت سعادة الإنسانية لا يخطر ببالهم سوى تلبية الأهواء الجسدية.
قد تعتقد بعض الدول مثل أمريكا وألمانيا وإنجلترا وفرنسا والسويد والنرويج وهولندا أنها قد حقّقت لمجتمعاتها السعادة والأمان بتحسين الأوضاع الاقتصاديّة، ويحسبون أنهم قد أبدعوا عالمًا مثاليًّا كالذي يصوّره كتّاب الطوبيا، لكنّنا نرى السعادة والاطمئنان الحقيقيّين في الإسلام والإيمان، أما هم فيرونهما في ازدهار العمليّة الاقتصاديّة وإزالة كلّ المعوقات الاقتصاديّة، بمعنى أن المجتمع ينعم بالطمأنينة إن كانت صرّته ملآنة ودولته قويّة، وإلا فلا.
غير أنّ ازدياد حوادث الانتحار ونشأة الأنظمة الفلسفيّة المختلفة كلّ يومٍ، وقيامَ الثورات مختلفة الأزياء والأفكار ومحاولةَ إرضاء النفس ببعض الأفكار لَيوضِّحُ أنّ ثمّة قلقًا واستياءً خطيرًا في ثنايا هذه المجتمعات، وأن الرفاهية المادّيّة لم تكن في يومٍ من الأيام كافيةً لتحقيق السعادة المطلقة، وهذا ما يمكن أن نسمّيه بفلسفة التسلية والإلهاء؛ بمعنى أن السعيد هو مَن يطعم جيّدًا ويلبَس جيّدًا.
والواقع أن هذه الفلسفة تَعتبر أن غاية الفرد هي إشباعُ البطون وتلبية الرغبات النفسيّة فحسب.
ج. المنفعة هدفها
المنفعة هي هدفُ التربية غير القرآنية، بل إن أساسَ جميع الصراعات هي المنافع ليس إلا، فإن شرعتم في عملٍ ما بادَرَكم مثل هؤلاء النفعيّين دائمًا بهذا السؤال: ما هي المنافع المادّيّة لهذا العمل؟…
ونظرًا لأن هؤلاء ينظرون إلى كلّ شيء بنظرةٍ مادّية تراهم يقولون: ما الذي جنيتموه من عبادتكم؟ هل ارتقتْ الدولة بصلاتكم؟ وهل تحقّقت الرفاهية للأمّة بصومكم؟…
ولذا لا يستسيغ أصحابُ هذه العقليّة مطلقًا مَن يتحدّث عن الحقّ والحقيقة ويدافع عن الإيمان والقرآن، أو أنهم لا يستوعبون ما يُقال، ولكم أن تُطلقوا على هذا الحال اسمَ: فظاظة التربية غير القرآنيّة.
د. تعتمد حياة أتباعها على الكفاح والجدليّة والديماغوجيّة
إنّ أهم ما يتميّز به النفعيّون هو الصراعُ في سبيل الحصول على المنفعة؛ إذ لا تتّسع المنفعة لتحقيق كل الرغبات والمتطلّبات، ولذا تسود كلَّ المجتمعات التي تتحكّم فيها المنفعةُ صراعاتٌ ونزاعاتٌ متوالية؛ لأن المنافع الموجودة لا تكفي كلّ الرغبات، فالصراع على المنفعة يسيطر على كلّ الأنظمة غير القرآنيّة مثل الاشتراكية والشيوعيّة والرأسماليّة، فمِن الجائز لو اقتضت الضرورة -وفقًا لهذا المنطق- مصادرةُ أموال الغير واتّخاذ كافّة السبل للاستيلاء على كلّ ما هو له.
أجل، إن الصراع على المنفعة هو أهمُّ دستورٍ من أجل الحياة في الأنظمة غير القرآنية التي تأسّست على المنفعة واتّخذت المنفعة لها هدفًا وغاية… ثم محو الفقير وسحقه، حتى يصبح حقُّ الحياة امتيازًا خاصًّا للقادرين فقط.
فإذا ما طبّقنا هذا الأمرَ على علم الأحياء واجهتْنا نظريّات “لامارك” و”داروين”، فهذه النظريات دمّرتْ كلَّ القيم الإنسانيّة الحقيقيّة باعتمادها على مبادئ ملتويةٍ مثل: إن حقّ الحياة للذين يصمدون ويثبتون أمام حوادث الدهر أو الاصطفاء الطبيعي في نظرية التطوّر ليس إلا”، ويرى مَن يتبنّى هذا المبدأ أن مَن لهم حقّ الحياة هم أصحاب الكلمة في القضايا الدولية والمجتمعيّة، والذين يواجهون الحوادث ولا يقهرهم الكفاح مع الحياة، إن هذا المفهوم الذي يعتبر الحياة صراعًا وجدالًا يرى أن الأساس الذي تقوم عليه علاقة الموجودات ببعضها بدايةً من عالم الحيوانات حتى عالم النباتات هو الصراعُ والمشادّة والنزاع، ويعتبر انقضاضَ البعض على البعض أمرًا مشروعًا.
هـ. ترى العنصرية والشوفينيّة هما الرابطة بين المجتمعات
إن العنصريّة الفظّة والشيوعيّة التي تحمل في الأساس فكرًا اشتراكيًّا هما -كما شاهدنا كثيرًا في هذا العصر- أهمّ رابطةٍ تعترف بها التربية غير القرآنيّة بين الأفراد والمجتمعات، وهذه المفاهيم ترى ضرورة إحكام ربط المجتمعات بهاتين الرابطتين، بيد أن العنصرية والشوفينيّة وما شاكلهما من تيّارات قد قاموا جميعًا على مبدإ الْتهام الآخر وابتلاعه وتصرّفوا على هذا النحو، فمثلًا تأسّست الشيوعيّة على مبدإ الْتهام كلّ النظم التي أمامها، ويبيّن التاريخ القريب أن الفاشيّة والنازيّة يتغذّيان على ابتلاع الأنظمة الأخرى.
ولقد ظهرت العاقبة الوخيمة الشنيعة لهذا المفهوم التربويّ إبان الحربين العالميّتين الأولى والثانية.
و. تعتمد على القوّة
القوّة هي نقطة الارتكاز في الأنظمة الفلسفيّة والاجتماعيّة غير القرآنيّة، فمَن يملك القوّة فهو على حقّ، وهذه أخلاقٌ فرعونيّة إلى حدٍّ بعيدٍ، فالعدوانيّة هي من شأن القوّة التي لا تحترم القيم الإنسانيّة، فمن الصعب على مَن يتناول المسألة بمبدإ القوّة أن يمنع نفسه من التعدّي، ولقد عاشت الإنسانيّة نماذجَ كثيرةً على هذه الشاكلة في القرن العشرين على وجه الخصوص. لِنضربِ الصفحَ عن الاعتداء بين الأفراد، لكن المجتمعات قد بدأت تُحرّكها وتدفعها غريزةُ ابتلاعِ الآخر والقضاء عليه، وكان من أثر الخراب الذي أحدثته الأخلاق غير القرآنية في أرواح هؤلاء ابتداء ظهور سلبيّاتٍ متنوّعة لدى المؤمنين من جرّاء هذا التأثير الإشعاعيّ الذي أحدثته هذه الأخلاقُ.
2- التربية القرآنيّة
أ. العبوديّة هي الفضيلة المثلى لتلميذ القرآن
تلميذ القرآن ليس بظالمٍ أو غدّارِ أو مُفاخِر أو أنانيّ أو جبّار، إنه عبدٌ فقط، عبدٌ لله تعالى، والقرآن الكريم يُنوّه في كثيرٍ من المناسبات بهذه الفضيلة، ويؤكّد على أن العبوديّة شرفٌ وكرامةٌ للإنسان، فإن استوعب الإنسانُ في ظلّ التربية القرآنيّة أنه عبدٌ لله فهذا يعني أنه قد أحرز أعظمَ فضيلة، فلقد كانت العبوديّة هي أبرز صفة لدى النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول في كلمتي الشهادة: “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله”. نعم، إنه عبد الله ورسوله، يرى بعض الأئمّة أن الواو للجمع المطلق وليست للترتيب، وبعضهم يرون أنها تفيد الترتيب، وإننا إن درسنا الموضوع وفقًا لمَن يقولون بالترتيب فسيتبيّن من هذه العبارة -أي “عبدُه ورسولُه”- أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم هو عبدٌ لله أوّلًا، وهنا نكتة لطيفةٌ لا بدّ أن نبيّنها وهي: أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عبدٌ لله قبل أن يُبعث رسولًا، وحتى بعد أن انتهت رسالته بوفاته ظلّ أشرفَ وأعزَّ عبدٍ عند الله تعالى، فكلّ شيءٍ يزول وتبقى العبوديّة قائمةً.
أجل، إن النبوة والولاية وما يترتب عليهما من وظائف ينتهي ويفنى، ولا يبقى إلا شيء واحدٌ فقط وهو العبودية لله تعالى سلطانِ الأزل والأبد.
واستجابة لأمر الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/21) يقف المؤمن أربعين مرّةً في اليوم أمام ربّه في خضوعٍ وعبوديّة تامّة قائلًا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ (سورةُالفَاتِحَةِ: 1/5)، والمؤمن الحقيقيّ هو عبدٌ عزيزٌ لا يركع أمامَ أحدٍ وإن كان أعظم المخلوقات؛ لأنه عبدٌ لله لا لأحدٍ سواه، وهو بذلك سلطانٌ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى حتى في تلك اللحظات التي يبدو فيها ذليلًا خاضعًا، لا يتذلّل ولا يخضع لأي فرعون أيًا كان، وحياةُ الأنبياء عليهم السلام مليئةٌ بأمثلة مهمّة في هذا الموضوع، فقد عرفوا ربَّهم الواحدَ الأحدَ المعبودَ المطلقَ والمقصودَ بالاستحقاق، فما استسلموا أمام أيّ تهديد وما خضعوا لغيرهم أمام أيّ وعيد.
تعالوا نذهب خيالًا إلى عصر النبوّة والسعادة؛ حيث نجدُ سيدَنا عمار بن ياسر وهو يُصهَر في الشمس بدروع الحديد التي ألبسوها له، ومصعب بن عمير وهو ملقى على الأرض بسبب الهِراوات التي كانت تنزل عليه كلّ يوم، وأمثال سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنهم جميعًا وهم يتلوّون جوعًا وعطشًا، فإذا ما شاهدنا ذلك أخذتنا الحيرة والدهشة أمام عُمق عبوديّة هؤلاء لربّهم سبحانه وتعالى، ومن الممكن أن نرى مثل هؤلاء من ذوي القلب العميق في القرون المتوالية؛ مع الفارق بينهم في الدرجات والمراتب.
أجل، في كل عهد يُقيّض اللهُ تعالى رجالًا يجابهون الظلم والإلحاد، وينتفضون لإحقاق الحقّ كي يعلُوَ ولا يُعلى عليه، وهؤلاء عاشوا حياتهم من أجل القرآن واتخذوه مرشدًا لهم وهاديًا ودليلًا.
وإنّ بعضًا من وسائل إحقاق الحقّ يسهل القيام به، وذلك مثل تشكيل الجمعيّات وتكوين الأحزاب وعقد المؤتمرات، والقيام بالعمل مقابل الراتب أو الأجر أو التشوّف لأمور أخرى… أجل، كلّ هذه أمورٌ يسيرة، ولكن الأهمّ من ذلك هو التمسّك بالحقّ وإعلاؤه دون تشوّفٍ لأجرٍ دنيويٍّ أو أخرويٍّ، وتنشئةُ أجيالٍ نقيّة لا تنشد غرضًا من وراء عبوديّتها لربّها، مخلصةً، تفكّر في غيرها، وتواظب على أداء وظيفتِها الحياتيّة إلى الأبد، وأعظم لقبٍ يُطلَق على هذا هو التلمذة على يد القرآن الكريم، فهم لا يرغبون أن يُلقّبوا بغير هذا اللقب.
ب. تلميذ القرآن متواضعٌ وفقيرٌ إلى الله تعالى
تلميذُ القرآن إنسانٌ متواضع؛ حتى إن البعض يحسبه بسبب هيئته الخارجيّة كسولًا فاترَ الهمّة، مع أنه ليس كذلك، إنه حليمٌ مسالِمٌ لأبعد الحدود، ولكنه ذو عزّةٍ وعزيمةٍ، لا يتذلّل لغير ربّه سبحانه، ولا يخضع لسواه جلّ شأنه؛ لأنه صاحب ديناميكيّة داخليّة، ولذا فإنه يَعدّ مثلَ هذا التذلّل والخضوع لغير الله شركًا بالله.
قد يبدو تلميذُ القرآن فقيرًا عاجزًا في الظاهر، وهذه ميزةٌ أخرى تُحسب له؛ لأن فقره وعجزه كجناحين يحلِّق بهما للوصول إلى الله سبحانه وتعالى، وكلّما أحسَّ بعجزه وضعفه في نفسه ازدادت ثقته بربّه سبحانه وتعالى.
ولذا تُراه يردِّد دائمًا قول نبيّه صلى الله عليه وسلم: “لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ”[3]. وهذا البعد الداخلي للعجز والضعف والفقر مثل جناحين نورانيّين بالنسبة له، فكلّما أدرك عجزه وفقرَه وضعفَه في نفسِه هرولَ بجناحَي العجز والفقر لعبودية الحقّ تعالى، ابتغاءَ رضاه.
ج. لا هدف لتلميذ القرآن إلا رضا الرحمن
إن الهدف الأوحد والغاية المثلى لدى تلميذ القرآن الكريم هو إرضاءُ الله تعالى فحسب، وإنه لَينتظر بفارغ الصبر دائمًا ذلك اليوم الذي يخاطبه فيه ربّه قائلًا: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ $ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ (سُورَةُ الفَجْرِ: 89/27-28).
وقد عبّر سيدنا يوسف عليه السلام عن هذا الأفق المثالي بقوله: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (سُورَةُ يُوسُفَ: 12/101)، فلقد أحرز نبيُّ الله الكريم هذا مكانةً مرموقةً في مصر، وسكنت عبرات أبيه الذي ابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم، وجاءه إخوته الذين أساؤوا إليه قديمًا وأذعنوا له، ورغم هذا كلّه فإننا نراه يتوجّه إلى ربّه تعالى متضرّعًا إليه بهذا الدعاء رغم كلّ ما بلغه من رفاهيةٍ مادّيّة وطمأنينةٍ معنويّةٍ، وهذا التوجّه مسألةٌ مهمّة لا بدّ من الوقوف عندها بدقّةٍ وعناية.
وهذا يعني أن رضا الله تعالى هو الميزة التي تفوق كلَّ رفاهية وسعادةٍ مادّيّةٍ، وتُشعر الإنسان بأهمّيّتها على الدوام، ويصل بها القلبُ إلى الاطمئنان الكامل.
والمؤمن يرمي من وراء سعيه وجهده رضا الله تعالى، فهو يؤدّي عبادته لأن الله كلّفه بذلك لعلّه يحظى بنيل رضاه سبحانه وتعالى، ويأمل أن يجني ثمرةَ سعيه في الآخرة، فإذا ما أصابه فضلٌ مِنَ الله في الدنيا توجّه لله بالحمد والثناء، وسجد له امتنانًا وشكرًا.
أجل، إنه لا يفكّر إلا في الرضا الإلهي فحسب، وقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرةٌ تؤيّد هذا الأمر مثل قوله تعالى:
﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ (سُورَةُالزُّمَرِ: 39/11).
﴿قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ (سُورَةُ الزُّمَرِ: 39/14).
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ (سُورَةُ البَيِّنَةِ: 98/5).
د. دستور الحياة لتلميذ القرآن هو التعاون
جعل القرآنُ الكريم من التعاون والتضامن دستورًا للحياة، يقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 5/2).
أجل، على المؤمنين أن يتعاونوا مع بعضهم البعض في مسألةِ معايشةِ أوامر الدين وإحيائها، ويجب ألا ننسى أن الوجهة الاجتماعيّة للإسلام هي الغالبة، فمن الضروريّ النهوض بهذه الوجهة والمحافظة عليها، ولذا يقول القرآن: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى”.
ولأن الحياة ليست عبارةً عن جدالٍ وصراعٍ، بل تعاونٌ وتضامنٌ، فالذرّات تُعين النباتات، والنباتات تُعين الحيوانات، والحيوانات تمدّنا بالغذاء وهكذا، بل إنّ كلَّ شيءٍ يتبدّى فيه التعاونُ والتضامن؛ حتى إن ذرّات الهواء والتراب والماء وجزيئاتها تعتمد على فكرة التعاون في الحفاظ على وجودها.
وعندما يرى المؤمنُ الكونَ في مثل هذا النظام التعاونيّ يقول: الكون كلُّه عبارةٌ عن تعاونٍ وتضامن، ومن ثمّ فعلى الإنسان أن يتواءم مع هذا النظام العام في الكون، ويُهرع للمساعدة والتعاون دائمًا حتى لا يخلّ بهذه السيمفونيّة المتناغمة وهذه الموسيقى العامة المتوائمة.
هـ. الرابطة بين المؤمنين عند تلميذ القرآن هي الأخوة
أكّد القرآنُ الكريم على أن الرابطة بين المؤمنين هي الأخوّة بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (سُورَةُ الْحُجُرَاتِ: 49/10)، فيجب أن تكون هذه الرابطة قائمةً بين المسلمين جميعًا، وهذا يستدعي التأكيدَ مرّةً أخرى على شعور الأخوّة، ولا سيّما بين الذين يعيشون الإسلام، فيجب على المؤمن أن ينظر إلى المؤمنين على وجه البسيطة بمنظار الأخوّة، وأن يرى الكون مهدًا لهذه الأخوّة.
و. الحقّ هو المبدأ الأساس عند تلميذ القرآن
والتربية القرآنية تَعتبر الحقّ هو نقطة الارتكاز وليس القوّة، وترى أن المحِقّ هو القوي، فتلميذ القرآن يعيش على عقيدة أن الحقَّ هو الغالب في المستقبل بفضلٍ من الله وعنايته وإن بدا ضعيفًا اليوم.
واحترامُ الحقّ في نظر المؤمن كالعبادة، روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان بينه وبين أبيّ بن كعب رضي الله عنه خصومة، فقال عمر لأبيّ: اجعل بيني وبينك رجلًا، فجعلا بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه، فأتياه فقال عمر: أتيناك لتحكم بيننا، وفي بيته يؤتى الحكم، فلما دخلوا عليه، أَجلس زيدٌ عمرَ معه على صدر فراشه، فقال عمر رضي الله عنه: “هذا أول جورك جرتَ في حكمك، أَجلِسْني وخصمي مجلسًا”، فقصا عليه القصة.
فقال زيد لأبيٍّ: اليمينُ على أمير المؤمنين، وإن شئتَ أعفيتَه.
فأقسم عمرُ على ذلك، ثم أقسم له:
“لا تدرك بابَ القضاء حتى لا يكون لي عندك على أحدٍ فضيلةٌ”[4].
فالمؤمن الذي لم يخضع لتاثير أنظمة الفلسفة غير القرآنية يعيش الحقّ ويوصي به على الدوام كما جاء في قول الله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ $ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ $ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (سُورَةُ العَصْرِ: 103/1-3).
وكما يقول شاعر الإسلام “محمد عاكف”:
لـــلـــه أســــمـــــــــــاءٌ تــــــفـــــــوق الـــــعـــــددا
على رأسـها اسـم الحـقّ قـد تـمـجّـدا
أعــــظِـــم بـــإنـــســانٍ تـــمـسّــكَ جـيّـدًا
بــــالـــحــــقّ، يــعـلـو صــــــادحـًا مــغـرّدًا
لِــــــــمَ كـان الصحابةُ الكرام يقــرؤون
ســـــــــورةَ الـــعــصــر عــنـــدمـــا يـفـترقون؟
لأن هـــــذه الـــســـورة تـحـوي أســرار الـفلاح
يأتي الإيمان الحقيقي في البداية ثم الصلاح
ثـــــم الـــــــحـــــــقّ أيــــــا عـــزيـــــزي ثـــــم الــصـبــر
وهــذه هــي خـــصــال الإنــســانـــيّة الــزُّهْـــــــرُ
فإذا ما اجتمعت هــــذه الأربــــع خصـــــــال
فــــلا مـــجـــــال لـــلـــــوهــــن والاضــــمــــحلال.
إن الأشياء قائمة بوجود الحقّ تعالى، وللأشياء حقيقة تابعة لاسم الله الحقّ، وهو من أعظم الأسماء الإلهية.
والمؤمن يعتبر القوّة في الحقّ، فالـمُـحقّ هو القويّ، وكما تقول القاعدة الإسلامية: “الحق يعلو ولا يُعلى عليه”، ومن ثمّ فالحق عالٍ دائمًا وهو أبيض أبلج، لا يستطيع أيُّ شيءٍ التغلّبَ عليه.
[1] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: الكلمات، الكلمة الثانية عشر، الأساس الثاني، ص 142.
[2] صحيح مسلم، البر، 34.
[3] سنن أبي داود، الأدب، 101؛ مسند الإمام أحمد، 5/42.
[4] البيهقي: السنن الكبرى، 10/243.