1- مفهومنا الأخلاقي
إنّ ممّا تدعونا إليه الضرورةُ بدايةً أن نتّفِقَ مع قرّائنا الأعزّاء على بعض الأمور؛ لأنني على قناعةٍ بأن الاستفادة تتعذّر من هذا الكتاب دون الاتّفاق على بعض المسائل الرئيسة.
أجل، هل من الممكن -عند تناول الموضوعات المتعلّقة بالتربية في الأسرة- الاتّفاقُ على المفهوم الأخلاقيّ مع مَن لا يتضجّرون من كثرة المساوئ في وطننا ومدينتنا وقريتنا وبيتنا؟ وماذا عسانا أن نقول إن رضينا بحالنا رغم كلّ شيءٍ، ولم تؤثِّر فينا المساوئ المحيطة بنا؟ وهل من الممكن أن نتصوّر فائدةً تُرجى من مدارسة المسائل الأخلاقيّة إن لم ترتجِف قلوبنا وننفر من الانحطاط الأخلاقيّ الذي نرى فيه أولادنا وأحفادنا وأبناء إخواننا ومَن نحن لهم بمثابة الخال والعمّ والجار ذي الجنب.
لم يُكتب البقاء لأيّ مجتمعٍ ظهر فيه الفساد على مدى التاريخ، ولا أعلم إن كان في هذا استثناءٌ أم لا، ولكن لا جرم أن الأمم التي حافظت على وجودها مدّةً طويلةً دون أن يجافيها التاريخ كانت تحترم القيم الأخلاقيّة.
2- أسباب انهيار الأمم
وإذا ألقينا نظرةً على الحضارات السابقة نجد أنّ معظم الانهيارات ترجع إلى قارضٍ أخلاقي كالقارض الذي تسلّط على سدّ “إِرَم”، وأحيانًا لا نشعرُ بالمساوئ الأخلاقية وهي تنخر بهدوءٍ في قيم المجتمع، وإذا ما شعرنا بها يكون الزمن قد ولّى، مَثلُها مثلُ السرطان، فكما لا نستطيع غالبًا أن نفطن إلى وجود السرطان إلا بعد غزوِه المناطِقَ شديدة الحساسيّة في البنية وبعد أن تبدأ الرحلة إلى الآخرة، فكذلك هذه المساوئ.
نعم، كيفما يفعل السرطان في بنية الإنسان تفعل المساوئُ الأخلاقية في حياة الأمم، فإنْ تغافل رؤساءُ الدول ثم أرباب الأُسَر والمربّون والأمّة جميعًا عن مثل هذا الانحطاط الأخلاقيّ لانهارت الأمّة كلها انهيارًا مدوّيًا، وربما لا يتنبّه البعضُ من الغفلة حتى لو انهارت أركان الأمّة كافّة، ولعل البعض الآخر يرى الأمر طبيعيًّا كالأحياء التي تعيش تحت الأنقاض بحجّة أن هذه هي الحياة.
أجل، إذا ما تطرّقنا إلى الأسباب الرئيسة وراء انهيار الأمم لرأينا بشكلٍ عام:
طَيْش الشباب واستهتارهم، والرغبة في إحياء المشاعر البهيميّة لدى أصحاب نزعات التحرُّر، والانغماس في الشهوات، وابتغاء المجتمع للدنيا ونسيانه للآخرة، والبعد عن الله والإعراض عن القرآن، وانسلاخ القلوب من مشاعر الخوف والمهابة، وانجرار كلّ شيءٍ إلى المادّة.
ومعظمُ هذه العوامل هي السببُ في انهيار العديد من الدول منها الدولة العثمانية، وفي حين أننا كنّا نريد التخلّص من الأزمات التي أحدثتها الفراغات المعنويّة إذا بنا نستعين بأمورٍ دنيويّةٍ تزيد من حدّتها، وندخل في دائرةٍ فاسدةٍ، بيد أن المشكلة تنبع من فقدان الأمم لمعنويّاتها وابتعادها عن القرآن ومبادئ الإسلام ونسيانها لربّها عزّ وجلّ، فأصبح مصدرُ الداء دواءً لمن يبحثون عن دواءٍ لدائهم العميق.
هذا وإنّ نقطةَ الانحراف معروفةٌ واضحة؛ إذ كان كلّ شيءٍ ينشأ عن الانغماس في المادّة وإهمال المعنى، بيد أن الحياة المادّيّة تُشكّل جانبًا من حياة الإنسان والحياةُ المعنويّة تُشكّل الجانب الآخر منها، بل جوهرَها، ومثل هذا القصور المعنويّ لا يمكن سدّه بالمادة.
في الواقع أنه يمكن لكلّ شيءٍ أن يحقّق التوازن إذا ما تمّ الأخذ بالمادة والمعنى على السواء وفق قدر ومقدار كلٍّ منهما؛ يعني يتحقّق التوازن والنجاح إن وفّينا حقّ الله بما يليق بعظمته سبحانه، وأدّينا حقَّ القرآن حقّ قدره، ووجّهنا اهتمامَنا وتقديرَنا للدنيا على حسب قيمتها وللآخرة كما يليق بها.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (سُورَةُ القَصَصِ: 28/77)؛ أجل، يجب أن نستغلّ ما أنعم الله علينا به من صحّةٍ وعافيةٍ وثروةٍ وعقلٍ وأن نستعدّ بذلك للآخرة، ولا ننسى في الوقت ذاته نصيبَنا من الدنيا، هذا هو مقياس القرآن الكريم، فلو تحقّق التوازن بين الدنيا والعقبى حسب هذا المبدإ القرآنيّ ما أصابنا هذا القدر من البؤس والتعاسة.
ومن ثمّ أقول إن الضرورةَ تقتضي عند تناول مسألة التربية في الأسرة أن نبحث فيما يمكن الاتّفاق فيه على المبادئ الأخلاقيّة، خاصةً في هذا العصر الذي تَمنع فيه الملذّاتُ الدنيويّة الفردَ من ذكر الله.
تتعرّض كلّ أمّةٍ لفتراتٍ من الازدهار وأخرى من الانحطاط، وإنّما ترتقي بالمبادئ التي ترفع من شأنها، وتتدهور بالعوامل التي تحطّ من قدرها؛ لأن قوانين الكون تجري في أُطُرٍ جبريّةٍ مشروطةٍ، وبما أن الطبيعة جزءٌ من الكون فقد خلقها الله في الظاهر تابعةً لهذه القوانين الجبريّة، ولذا لا بدّ من مراعاة قوانين الطبيعة والآيات التكوينية، فإن اعتمدتم على غفران هذه القوانين لكم أو على تسامحها وتجاوزها عن أخطائكم، ثمّ قصّرتم في بعض وظائفكم لنبَذَتْكم وقضتْ عليكم. أجل، فلا غفران لدى الآيات التكوينية التي هي قوانين الشريعة الفطريّة، إنها لا تُسامح أو تغفر ألبتّة، فإذا ما أحسنّا اختيار المنهج حسب هذه القوانين رفعَنا الله إلى مرتبةِ أعلى علّيّين، وإن قصّرنا في مراعاة الأسباب تردَّينا إلى أسفل سافلين إلا بفضلٍ من الله ومنّةٍ.
وإن كنّا سنرجع مرّةً أخرى إلى المشكلة الرئيسيّة فعلينا أن نجيب على الأسئلة التالية: هل أنتم على قناعةٍ بأن هناك عوامل خطيرة وأسبابًا موضوعيّةً وراء فساد الأخلاق؟ وهل تصدّقون حقيقةً بوجود أزمةٍ أخلاقيّةٍ؟ وهل تنظرون إلى حياتكم الفوضويّة الحالية على أنها فسادٌ أخلاقي أم أنها مظهرٌ لوضعٍ عادي؟
3- تقليد الأمم الأخرى
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ”[1].
إن السبب في انهيار المجتمعات التي ساد فيها الانحطاط الأخلاقيّ يرجع إلى الانخداع بالدنيا، وعدمِ القدرة على تحقيق التوازن بين الجسد والروح، والعجزِ عن كبح جماح النفس؛ ومع الأسف بدأت هذه المشكلة منذ فجر التاريخ، وانتقلت من جيلٍ إلى آخر عبر العصور، ثم ورِثَ الغربيّون هذه المساوئ، فزيّنوها بشيءٍ من فنتازيا الحضارة ونقلوها إلى مقلّديهم، وعلى ذلك يُعدّ هذا الحديث الشريف معجزًا للبيان. أجل، لقد أُوحيَ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى وحيًا غير متلوٍّ، ثم صاغه في قالبٍ من الكلمات.
وهنا لا يمكنني أن أنتقل إلى مسألةٍ أخرى دون التطرّق إلى النقطة التالية: عندما ننظر إلى بعض الدول والشعوب نرى أنها مرفّهةً سعيدةً بإمكانياتها المادّيّة، ونحسب أنها قد تجاوزت كلَّ مشاكلها، بيد أن الإنسان الغربي يعيش دائمًا في ضيقٍ واضطرابٍ، ينشد السعادة لكنه لا يجدها، ونسبة الانتحار في الغرب مرتفعة مقارنةً بالأماكن الأخرى، ولا يمكن أن نتصوّر أن هناك أمّةً تعيشُ سعيدةً بينما تشيع وترتفعُ نسبة الانتحار بين أفرادها رجالًا كانوا أم نساءً.
وقد كشف مؤتمرٌ عُقد بـ”الرباطِ” عاصمةِ المغرِبِ تحت عنوان “تنظيم الأسرة” أن نسبة الطلاق في أمريكا تبلغ (40%)، وربما زاد هذا الرقم في الوقت الحالي، هذه هي أمريكا التي يراها الجميع بأنها أكثر الدول توازنًا بين الأمم المتدنّية أخلاقيًّا، قد لا تكون تأثّرت بأراجيف الغرب لحساسيّتها في بعض المسائل، ورغم هذا توجد المشكلة نفسها هناك أيضًا.
4- المخلوق المكرّم
لا بدّ أن يوجَّه كلُّ شيء ويُسخَّر لسعادة الإنسان، فالإنسان هو خليفة الله في أرضه، سخّر الله له الكون؛ فكان لا بدّ أن تقوم الحضارات من أجله وبغيةَ سعادته، فهو أكرم مخلوق؛ يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (سُورَةُ الإِسْرَاءِ: 17/70)، ويؤكد “الشيخ غالب”[2] هذه الحقيقة القرآنيّة فيقول:
أحسِن النظر إلى نفسك فأنت زبدةُ العالم
وقــــــــرّةُ عــــــيــــن الأكـــــــوان؛ فأنـــــت ابــــن آدم
أجل، الإنسانُ مخلوقٌ مكرّم في نظر الله تعالى، وكلّ الحضارات وكلّ الأنظمة السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة على الأرض ليست إلا فعاليات للاعتراف بقدره وقيمته؛ فلا قيمةَ ألبتّة للأنظمة إن كانت لا تنشد سعادة الإنسان؛ ولا تعِد البشريّة بأيّ شيءٍ.
5- الرهبانيّة وسيادة الكنيسة في الغرب
ثمّة بونٌ شاسعٌ بين العالم الإسلاميّ والعالم الغربيّ في هذا الموضوع، فلقد انهارت سلطنة الرهبنة والمسيحية في الغرب بتفوّق العلم، أما الوضع في العالم الإسلاميّ فكان على النقيض من ذلك؛ حيث ازداد التوجّه إلى الدين بالتزامن مع تقدّم العلم.
قبل حركات النهضة والإصلاح في أوربا فُرضت الضرائب الباهظة على الشعوب الذين يقعون تحت سيادة الكنيسة، حتى غدا الجميع مضطربًا خائفًا قلقًا على مستقبله بسبب قوانين الكنيسة المتغيّرة على الدوام.
وكان الزعماء الروحانيّون يُضمرون عداوةً شديدةً للعلم، ولا يرحّبون أبدًا بالاختراعات العلميّة التي كان مصير معظمها الرفض دون النظر حتى إلى ماهيّتها؛ وليس بقليلٍ مَن حكمت عليهم محاكم التفتيش بالأشغال الشاقّة المؤبّدة بسبب هذه الاختراعات والابتكارات المختلفة!
ولم يكن للناس القدرة على الاعتراض على هذا المفهوم القمعيّ، بل لم يكن بوسع معظمهم -باستثناء قلّةٍ من الأرستقراطيّين- الحديثُ عن قمع الفقراء وحقوق المرأة التي كانوا يعتبرونها في محالّ العمل نصفَ إنسانٍ فلا تأخذ من الأجر إلا نصفه، وبناءً على هذا حصلَ لدى معظم شرائح المجتمع امتعاضٌ ونفورٌ من الدين.
وبسبب هذا النفور العام تهاوى بشدّةٍ كلّ ما يتعلّق بالكنيسة بمجرّد قيام الحركات الإصلاحيّة في شتّى الأماكن؛ وتبع ذلك انهيارٌ تامٌّ للقيم الأخلاقيّة.
6- العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام
لم يخِبْ أملُ أيّ عالِمٍ في العالم الإسلاميّ؛ فلم يكن الدين يمارس أيَّ قمعٍ على الدولة أو الشعب، فالقوّة دائمًا مع الحقّ، والأمراء في خدمة الخلقِ، حتى إن الحكّام المسلمين كانوا يُذعنون لأيّ كلمةٍ تُقال في سبيل الحقّ، بل كانوا يُبدون تلهّفهم إلى تقبّل الحقّ.
وإنّ ما جرى بين السلطان “محمد الفاتح” و”خضر شلبي” رحمهما الله ليُعتَبَرُ واحِدًا من النماذجِ الكثيرة التي تُبرهن على صحّة هذا الأمر[3].
وقد كان الخلفاء الراشدون من أمثال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب كرّم الله وجهه يتحاكمون مع يهوديٍّ أمام القاضي، وبما أن القوّة كانت مع الحقّ دائمًا فلا مجال إذًا للجبروت أبدًا كما وقع في الغرب، ومن ثمّ لم يحدث لدى أيّ شخصٍ امتعاضٌ أو نفورٌ من الدين، فالحياة التي ينشدها الآخرون في الأوطوبيا قد صارت حالًا واقعًا في هذا العالم الإسلاميّ.
7- المبادئ الأخلاقية
ما الذي نستحسنه وما الذي نستقبحه؟ كيف نُفكّر في تربيتنا لأطفالنا؟ وهل هناك خطّة أو هدف وضعناه للقيام بهذا الأمر؟
كيف نُفكّر في تربية أبنائنا؟ نقول: “إنني أريد أن يكون ولدي هكذا؟”؛ فماذا فعلنا من أجل تحقيق ذلك؟ كيف نرى تسكّع الأبناء هنا وهنالك إلى ساعة متأخّرةٍ من الليل؟ هل سنفتح أبوابنا وصدورنا لهم إن جاؤوا في أيّ ساعةٍ من ليلٍ؟
ما الأفعال التي نتقبّلها من أطفالنا وإلى أيّ حدٍّ؟ وأيُّ الأفعال نَصفها بالأخلاقيّة أو غير الأخلاقيّة؟ وما الأفعال التي نستحسنها فيهم ونستقبحها منهم؟ وإلى أي حدٍّ سنسمح لهم فيما يفعلون؟ وعلى أيّ قاعدةٍ نعتمد في مسألة التدخّل في أزيائهم؟
هل فكّرنا حتى الآن فيما نفعله إن لم نرتضِ شأنًا من شؤونهم؟ هل عثرنا على حلٍّ لهذا؟ كم من الأبواب طرقنا، وإلى كم من المتخصّصين لجأنا؟ وكم من الدمع سكبنا في سبيل البحث عن حلٍّ؟
إن هذا الموضوع يعنينا كما يعني أقاربنا وجيراننا بل وكلّ أمّتنا، لكن هل سعينا كي نصِلَ إلى حلٍّ في الحقيقة لكلّ هذه الأمور؟
فإن لم تكن لدينا خطّةٌ أو هدفٌ في هذا الموضوع فهذا يعني أننا أصبحنا -كما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديثه السالف الذكر- نتبع سننَ مَن قبلنا شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ، فانسقنا إلى جهنّم وبئس المصير.
والواقع أن كل هذا يرجع إلى ابتعادنا عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم وخضوعِنا لأهوائنا ورغباتنا.
إن كثيرًا من الآباء يعانون اليوم من بعض أولادهم، فيا تُرى ما الذي فكّرنا فيه لمعالجة أخطائهم؟ لا تُقَلِّلوا من أهمّيّة التفكير في هذا الأمر.
أجل، لا بدّ لنا أن نفكّر هكذا، ونرجع إلى أنفسنا ونطرح هذا السؤال: ماذا يمكن أن نفعل حقًّا في مثل هذا الأمر؟ فيا ترى هل نحن متسامحون أم جُفاةٌ أم غيرُ مبالين؟ هل نكتفي بمشاهدة ما يجري في بيوتنا في صمتٍ وتبلّدٍ للشعور؟ أم هل نبحث عن حلٍّ لكل صغيرةٍ وكبيرةٍ في البيت؟
يمكننا أن نُطنِبَ في هذا المضمارِ فنطرحَ على أنفسنا تساؤلاتٍ أخرى، نحو: هل تتبّعنا طفلنا كالحارس الأمين؟ وهل بذلنا جهدًا للتعرّف على أصدقائه؟ وهل استطعنا أن نمهّد له الجوّ المناسب دائمًا؟ وما نوعيّة الناس الذين عرّفناه بهم حتى الآن؟ فإن لم نفعل هذا فمع مَن يلهو ويلعب؟ هل يكفي أن نسجّله بمدرسةٍ أو نعهد به لمعلّمٍ أو نلحقه بدورةٍ لحفظ كتاب الله تعالى؟ وهل يكفي أن ندلّه على المسجد ونعهد به إلى الإمام؟
ولا تقل أهمّيّة البحث عن جواب هذه الأسئلة المتداخلة عن أهمّيّة قيام حياتنا الذاتيّة على النظام والعمق والإخلاص والمثابرة والجاذبيّة.
8- الحياة وفقًا للمبادئ والتخطيط
من المهمّ أن نجعل لحياتنا مبادئَ نسير عليها منذ البداية؛ أجل، علينا أن نقول في أنفسنا: “يجب أن أخطّط لهذه السنة على هذا النحو، وللسنة القادمة على هذا الشكل، وللسنة التي بعدها على هذا المنوال”، فإن فعلنا هذا ألفينا ما هو معلومٌ لنا من الخطط والمشاريع، واتّخذنا القرار الصائب بسهولةٍ ويسرٍ، وما وقعنا في حيرةٍ من أمرنا، ولكن إن لم نضع لأنفسنا مبادئ وخططًا بشأن المستقبل فعلينا أن نتأهّب للانجراف -مذهولين- من الغد إلى المجهول، تخيلوا أنّ هناك أمورًا متراكمةً مجهولةً داهمت حياتكم فجأة، عند ذلك هل ستأخذون في الصراخ والعويل؟ أم ماذا ستفعلون! إذًا لا بدّ أن تُعِدّوا العُدّة حتمًا قبل وقوع كلّ هذا.
فلننظر الآن إلى حال العالم الإسلاميّ الذي يبلغ مليارًا ونصف مليار مسلم، وعندها سنرى أن الأبناء والأحفاد يحترقون في نفس الفرن الذي شُوِي فيه الآباء، وفي نفس النار التي اكتووا هم بها، وبينما يحترق أحدهم ترى الآخر ينظر إليه في غاية اللامبالاة، وفي حين أن الأمّة أو الأمم تغوص في الوحل نفسه نجد الآخرين ممّن يأتون بعدهم يسيرون على منوالهم تمامًا بلا وعيٍ فيغوصون في نفس المستنقع الوخِم، ويتجرّعون نفس البؤس المرير، ولا يَبقَون في أذهان البشر إلا كذكرياتٍ بغيضةً.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الإخبار والإنذار كما سردنا آنفًا: “لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ”[4].
يمكن أن نستنبط من هذا الحديث تحذيرًا فحواه: “خذوا حذركم، وانتبهوا، وسيروا كما لو أنكم تسيرون في حقل ألغامٍ، واحتاطوا فلربّما ينفجر فيكم لغمٌ في أيّ لحظةٍ”.
وهنا نتوقّف عند هذه الأبيات الشعريّةِ المثيرة للشجون التي نظمها شاعر الإسلام المرحوم “محمد عاكف”[5]:
انـــــســـــلـــخ الـــحـــياء وســـقــــط، حتى دخلت الــوقـــاحـــــة كـــــلَّ خاص وعام
كـــم مــــن وجـــــــوهٍ قبـــيــــحــــــــةٍ كــــان يـــــسترهـــا ذلــــك الــــرقــــيق من الــلـــثــــام
انعدم الوفاء، وضاعت حرمة العهد، وأصبح لفظ الأمانة بلا مدلـــــــول
الـــــكذب رائــــــــــج، والــــــــخيانـــــــــــة في كلّ مكــــانٍ، والـــــــحقّ مـــــــــــجــــهولٌ
والــــــــقـــــــلـــــوب قـــــاســـيـــــةٌ، والآمــــــــــال ســــافـــــلـــــة والــــمشــــــاعـــر دنــــــيّــــة
وتــــتــــــجّـــــه الــــعـــيـــــون إلى عــــــــــبــاد الله بــنـظـــــراتِ اســتــحــقــارٍ قـــويّـــــــــــة
الأجـــــــســـاد تـــــــقـــشعـــــــــــرّ يا ربّ مـــــا أفــــــظــــع هــــــــــذا الانــــــــــقـــــــلاب!
لــــم يــــعــــد ديــــــنٌ ولا إيـــــــمـــــان، فالـــــديـــــن خــــــــرابٌ والإيـــــــمــان تــراب
تـــــــــلاشــــــــــــــت الـــــــمـــــفـــــــــاخــــــــــــر، وخـــــــــــــــــرســــــــــــت الـــــضــــــــــمــــــائــــــــر
لـــــــم يـــعــــد هـــنــــاك اســـــتــــقـــــلال والأخــــلاق في اضـمـحــلالٍ ظــاهـــر.
أجل، لم تنتشر الفوضى واضمحلال الأخلاق في مكانٍ واحدٍ، بل عمّت كلّ الأماكن، حتى إنّ مَن ينزعجون من هذا باتوا -بتأثير إشعاعاتها- متبلّدي المشاعر، وكأنهم لا درايةَ لهم بما يجري.
9- الأخلاق العالية
يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ”[6].
إنّ نِعَمَ الله علينا لا تُعدّ ولا تُحصى، ولقد زُوِّدنا بقابليات ومؤهّلاتٍ تُمكِّننا من اتّخاذ موقعنا بين ساكني الملإ الأعلى، وإن تقدير الألطاف الإلهيّة التي وَهبها لنا ربُّنا سبحانه وتعالى لهو من مقتضى تعظيم الله تعالى، واحترامِ ذاتنا المزوّدة بالعديد من الطاقات الكامنة.
إن الكتب الإلهيّة هي صدى هذه الرسالة ونَفَسُها، والأنبياء هم أصدق ممثّلين لهذه الحقيقة، أما الحلقة الأخيرة في هذه السلسلة الذهبيّة فهي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أسطعُ برهانٍ لهذه الحقيقة، وأعظمُ سلطانٍ للأخلاق العالية؛ يقول الله تعالى في سورة القلم مشيرًا إلى عمق أخلاقه صلى الله عليه وسلم وسعتها: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (سُورَةُ القَلَمِ : 68/4).
10- زينة الحياة الدنيا
يقول الله تعالى في سورة الكهف: ﴿اَلْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ (سُورَةُ الْكَهْفِ : 18/46)، تشدّد الآية الكريمة عامّةً على أن المال والبنين زينةُ الحياة الدنيا وزهاؤها، وأن لها موقعًا لا يستهان به. أجل، إنها تابعة للوجه القبيح الفاني للدنيا، وهذا الوجه ينظر إلى الدنيا نفسها، وهو وجهٌ ذابلٌ متراخٍ فاسدٌ يبعث على الضيق والإزعاج[7].
وهذا يعني أن المال في حدّ ذاته ليس بشيء يُفتخر به، والولد كذلك ليس مما يُفتخر به في نفسه، غير أنهما إن وُجّها إلى الله وإلى الآخرة وصلا إلى قيمةٍ تفوق كلَّ القيم، ودخلا في صنف الباقيات الصالحات، فإن حدث هذا صارا في الآخرة أشجارًا باسقة تعلن عن نفسها بثمارها، رغم أنهما كانا بذرةً في الدنيا.
إن هذه الأمور التي حاولتُ أن أنوّه إليها ما هي إلا مبادئ وضعها لنا القرآن الكريم؛ تحدّد لنا المنهج الأقوم، وتهب الحياة لأرواحنا، وهي كامنةٌ في صيدليّة القرآن الكبرى، وفي النظام الذي نسجه الرسول صلى الله عليه وسلم بيديه الميمونتين المباركتين وهو السنة النبويّة، وإن استمداد الحياة من القرآن والسنة والإنصاتَ لصداهما العلويّ لهو محض اختصاصٍ من الرحيم جل جلاله.
11- الرحمة
يشير القرآن الكريم إلى ضرورة أن يستعين الناس برحيميّة الله عندما تعترضهم أيّ مشكلةٍ كما ورد في قصة أيّوب عليه السلام: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ: 21/83)، أجل، فالاستعانة برحمانية الله ورحيميّته هي بمثابة طلب العون منه لأنفسنا وعائلاتنا وأولادنا -الذين أطلقناهم في الشوارع- وأقاربنا، وإعلانٌ كذلك عن عجزنا وضعفنا، واعترافٌ وتسليمٌ بأنه سبحانه وتعالى بيده مقاليد كلّ شيء، فضلًا عن ذلك فالمرحمة في الوقت ذاته وسيلةٌ لجلب الرحمة، فالراحمون يرحمهم الله، فإن كنّا على وعيٍ تامّ وحساسيّةٍ بالغة إزاء التفسّخ والتفلُّتِ وفساد الأخلاق صان الله وحمى كلَّ ما يمكن أن يتعرّض فينا للفساد.
يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اَلرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، اِرْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ”[8].
إن الموت الحقيقيّ والمصيبة الكبرى ليستا الموت الذي نعرفه ولا المصائب التي يمكن أن تقع كحوادث الطرق وغيرها، إنما هما غفلةُ الإنسان عن نفسه، وتبلّد شعوره، وموته في عالم القلب والمعنى.
نعم، إن أعظم البلاء ألّا يستطيع المرء أن يفطن إلى الحريق داخل بيته، وأن يظلّ بلا حسٍّ أو شعورٍ إزاء ما أصاب ولده من فسادٍ وعفنٍ.
فإذا كان الوالدان لا دراية لهما بالحريق المعنويّ في بيتهما فما أعظمها من تعاسةٍ، وما أشدّها من غفلةٍ، وما أكبرها من ضلالةٍ، فمهما بكى مثل هؤلاء على حالهم فلا يكفي، لأنّ البكاءَ أيضًا يحتاج إلى قلب يشعر.
12- الإنسانية في أعلى مراتبها
الانحطاط الأخلاقيّ هو أفظع المصائب، من أجل ذلك نرى أن المبادئ الأخلاقيّة للقرآن الكريم هي أنجعُ علاجٍ لإنسان اليوم الذي تتغلّب عليهم الأزمات النفسية.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ $ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ $ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ (سُورَةُ التِّينِ : 95/4-6).
ويمكن أن نستنبط من هذه الآية المعنى التالي: إنّا جعلنا الإنسانَ في صراعٍ مع نفسه على الدوام، فإن تردّى أحيانًا أو وقع سرعان ما ينهض ويحلّق بأجنحةِ الإيمان والعمل الصالح، ويرتقي إلى الإنسانيّة في أعلى مراتبها.
إنّ هذه الآية تسعفنا، وتشدّ من أزرنا، وترقى بنا إلى أعلى مراتب الإنسانيّة. أجل، إنها تخلّصنا من العجز والوهن، ومن السقوط والانحطاط والتردّي إلى أسفل سافلين، وترقى بنا إلى أعلى علّيّين.
وسنحاول في الفصول التالية عرض الرسائل النورانيّة للقرآن الكريم حول هذه المسائل.
[1] صحيح البخاري، أحاديث الأنبياء، 50؛ صحيح مسلم، العلم، 6.
[2] غالب محمد أسعد دَدَه: (1757-1798م) أحد كبار الشعراء الأتراك الذين عاشوا في الحقبة الأخيرة من عهد الشعرِ الكلاسيكي، نظمَ أشعارًا صوفيّةً مستخدمًا لقب “أسد” أو “غالب”، وله دواوين ومؤلّفاتٌ عديدةٌ، منها “الديوان” و”الحُسن والعشق” و”شرح جزيرة المثنوي” و”الصحبة الشافية”. (مترجم)
[3] يُروى أنّ معماريًّا غير مسلم شارك بناء “جامع الفاتح” الذي شُيّدَ في عهد السلطان “محمد الفاتح”، فقام هذا المعماري ببعض أعمال البناء وفقًا لرغبته الشخصيّة مخالفًا في ذلك تناسبَ الجسم العمرانيّ متجاهلًا أوامر المهندسين والقائمين على شؤون البناء، فلمّا علم السلطان محمد الفاتح بذلك أمر بقطع يده جزاءً له ونكالًا، وإذ بالمعماريّ يرفعُ دعوى قضائية ضد السلطان يعترض فيها على هذا الحكم السلطانيّ، فكان القاضي في هذه القضيّة “خضر شلبي”، فاستدعى كِلا المتخاصمين ليمثلا أمام عدالة المحكمة، وفعلًا حضر كِلاهما أمام “خضر شلبي” فاستمع لأقوالهما دون محاباةٍ للسلطان ولا مُطلٍ للمعماري، ثمّ أصدرَ حكمه بقطع يدِ السلطان الفاتح، فأخذتِ الحيرةُ والدهشةُ قلبَ ذلك المعماري، وتنبّه إلى مبدإ العدل والحقّ في الإسلام فكان ذلك سببًا في اعتناقه الإسلام، وقام بالعفو عن السلطان، وبعد انتهاء المحاكمة حدث أمرٌ جللٌ أذهل جميع الحاضرين؛ حيث أخرج السلطان الفاتح كرةً حديديّةً مصمتة بها نتوءات وأظهرها للقاضي “خضر شلبي”، وقال له:
“لو لم تحكم بما أنزل الله لكنت ساحقًا رأسك بهذه”!
فأخرج القاضي خنجرًا كان يُخفيه، وأظهره للسلطان، وقال له:
“وأنت يا مولاي لو لم ترضَ بما قضيتُ لقطَّعتُ جسدَك إربًا إربًا بهذا الخنجر”. (مترجم)
[4] صحيح البخاري، أحاديث الأنبياء، 50؛ صحيح مسلم، العلم، 6.
[5] محمد عاكف أَرْصُويْ (1873- 1936م) هو من أساطين الشِّعرِ التركيّ، وهو كاتب نشيد الاستقلال التركي، وهو ذو خُلُقٍ رفيعٍ وسَمتٍ حسَنٍ يتخذه كثيرٌ من الأتراكِ قدوةً لهم، إنه رجلُ فكرٍ ومعرفة، وإن كتاباته وترجماته لتحفل بالفوائد الجمة والخدمات الكثيرة. (مترجم)
[6] مسند البزار، 15/364؛ البيهقي: السنن الكبرى، 10/323.
[7] وللدنيا وجهان آخران ينظر أحدهما إلى أسماء الله الحسنى باعتبار الدنيا مَظهَرًا للأسماء الحسنى، والوجه الأخير ينظر إلى الآخرة من حيث إن “الدنيا مزرعةُ الآخرة”، وكلا هذين الوجهين حسن.