إن كل موجود عند توجهه نحو الهدف أو الغاية المقدرة له وفق قوانين الخلق والفطرة يسلك سلوكاً إجبارياً. والأصح أن نسمى هذا السلوك: “السَّوْق الإلهي”. فأول خلق الإنسان ونموه علَقةً في رحم الأم وتحوله من مرحلة جنينية إلى أخرى، كل ذلك يجري حسب هذا السوْق الإلهي. والأمر نفسه جار في المخلوقات جميعها، إذ كلها تجري وفق مصالحها، وهذا معلوم لدى الجميع في أيامنا هذه. ورغم أن الطبيعيين والماديين يطلقون على هذا السَّوْق الإلهي “الغريزة” أو “السَّوق الطبيعي” فإن عالم الوجدان يرى أنه سَوْق إلهي.
وفي الحقيقة أن “دليل الهداية” هو أحد أدلة التوحيد، وهو موضوع مستقل بذاته يربط كل ما يجري على وفق هذا السَّوق الإلهي والهداية الربانية بوجود الله ووحدانيته.
إن كل شيء ينجز ما أُنيط به من وظيفة بهذا السَّوق الإلهي، من الذرات إلى المجرات. أي من الألكترونات الدائرة حول نواة الذرة إلى السيارات والمجرات السابحة في الفضاء، فكل شيء يسير وفق الخط المرسوم له من قبل الله سبحانه، ويسعى للهدف المخطط له دون أن يحيد عنه قيد أنملة.
ترقد الدجاجة على بيضتها وتنتظر انتهاء مدة الحضانة صابرة على الجوع والعطش وشدة الحرارة ولا تترك موضعها قط. تُرى هل هي على علم عن ماذا ستفقس البيوض؟ ولِمَ تعاني هذه المعاناة كلها؟ علماً أنها بعد مدة ستزاحم أفراخها على الحبات الملتقطة! جواب هذه الأسئلة واضح بالنسبة لنا وهو أن الله يسوقها إلى هذه الجهة.
ثم أن الفرخ داخل البيضة ما أن يحين موعد خروجه إذا به ينقر جدار البيض من الداخل بمنقاره اللين الطري وتفقس البيضة ويخرج إلى حياة رحبة أكثر بكثير من حياته داخل البيضة، فمن أين له العلم والشعور بهذه الحياة الجديدة حتى يبذل قصارى جهده للخروج إليها من البيضة؟
وكذا الطفل ما أن يولد حديثاً حتى يتلهف إلى صدر اُمه ليمص ثدييها. ثم مَن الذي ملأ صدر تلك الأم بالحليب الخالص، ثم مَن الذي دلّ الطفل على أن الحليب في الثدي؟ ومَن علّم مص الثدي للطفل. والجواب عن هذا وأمثاله من الأسئلة هو الجواب الوحيد: كل ذلك يحدث بسَوْق إلهيّ.
والقرآن الكريم يذكّرنا في كثير من مواضعه بهذا السَّوق الإلهي نذكر منها:
آ- ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾(النحل: 68).
نعم إن جماعات النحل قد تعلمت صناعة العسل بمثل هذا الإرشاد والتعليم والهداية. فالله I يوحي إلى النحل أن تتخذ من الجبال والأشجار بيوتاً لها، تأوي إليها، وتتعلم من هذا الوحي صناعة قرص العسل… والهندسة التي تستعملها في صناعة قرص العسل والخلايا التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون بمعرفة النحل، أي أن تلك الهندسة توحَى إليها وحياً. ثم أن النحلة تنتقل من زهرة إلى أخرى لتجتني منها الرحيق. ولأجل ألاّ تضل الطريق تستعمل خطة معينة. فتترك في المواضع التي تمر عليها آثاراً خاصة بها. وتعود إلى خليتها متتبعةً نفس الآثار، وفي النهاية تضع ما جمعته من رحيق الأزاهير في خلاياها.
لا شك أن إدارة خارقة تبدو واضحة في الخلية. نعم إن سَوقاً إلهيًّا يشاهد هنا بحيث إن أي دولة عظيمة عريقة محكمة النظام لا تضاهي إحكام تلك الإدارة في خلية النحل.
هناك النحلة الأم تسيطر على إدارة الخلية، وهناك الذكور بعدد قليل للتلقيح، وبقيتها العاملات التي لا تفتأ تعمل دون توقف مؤدية وظائفها على أفضل وجه.
وعندما يحين موعد وضع البيوض فإن النحلة الأم (الملِكة) تضع بيُوضها في كل خلية من الخلايا، ويؤدي العدد القليل من الذكور وظيفتهم الفطرية. وهنا تنتهي مهماتهم، ويظلون في الخلية كطُفَيْلِيِّين ليس لهم عمل سوى إلتهام ما جني من عسل. فالنحلة الأم تستبقي عدداً منهم وتفني البقية الباقية من ذلك. والعدد الباقي منهم سينجزون أعمالهم الفطرية في السنة المقبلة.
فكما لا يُسمح للذكور الطفيليين بالحياة كذلك لا يسمح لأحد من النحل الأجانب بالدخول إلى الخلية، ونشاهد فضلاً عن هذه الإدارة الحازمة، تنظيفاً بنفس المستوى من الجد والحزم. فمثلاً النحلة العاملة التي أتت بالرحيق والطلع إن لم تكن على نظافة تامة -كأن يكون في أقدامها شيء من الطين- لا يُسمح لها بالدخول. أو أن نحلة واحدة إن لم تطع الأوامر وأظهرت نوعاً من الفوضى فإنها تُطرد حالاً من الخلية.
تُرى مَن علّم النحلَ هذه الأمور وهي لا تملك إلاّ دماغاً صغيراً جداً؟ مَن علّمها هذا العلم، بحيث إن ما تصنعه من الخلايا وتنتجه من العسل قبل خمسين مليوناً من السنين، هو نفسه ما تصنعه وتنتجه في الوقت الحاضر. إن النحلة لم تتكامل تدريجياً، بل هي كاملة منذ نشأتها، ومنذ خلقتها فهي عالمة بعملها وهي تستمر هكذا على مر العصور. فبدءاً من حكمة وضع هندسة الخلية على شكل مسدس وليس على شكل مثلث أو مربع إلى صناعة العسل، ذلك السائل اللذيذ الذي فيه شفاء للناس، في كل مرحلة من مراحل هذه العمليات سَوق إلهي حتى إننا لنشعر وكأن نفحات الوحي والإلهام تسير جنباً إلى جنب مع كل عملية من عملياته. نعم كأننا نستشعر بذلك ولكن النحلة تعمل كل عملها وهي لا تستشعر بنسائم هذا الإلهام قطعاً، بل تعملها بسَوق غير شعوري. نعم إنه لا يمكن إيضاح عمل النحل إلاّ بالسَّوق الإلهي.
نخلص من ذلك أن الذي علّم صناعة العسل للنحل هو الله، وعلّم سبحانه أيضاً واجبات كل من الملِكة والذكور والعاملات، وهو الذي نصّب النحلة الأم ملِكة حاكمة على الخلية والأُخريات خاضعات مطيعات لها.
ب- النمل أيضاً يحظى بإلهام إلهي. فالآية الكريمة الآتية تبيّن لنا هذا:
﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾(النمل: 18).
كيف قالت النملة ما قالت؟ لا بد أن للنمل لساناً خاصاً به، ونمطاً معيناً في الحوار. وعلماء الحيوان الحاليون يرددون الآتي:
مَسْكنان للنمل. أحدهما صغير والآخر كبير في الطرف الآخر من خندق صغير، نقلت إحدى النملات من مسكنها إلى مسكن آخر. بعد صمت وسكون لم يدم طويلاً، خرج النمل الذي أضاع فرداًً من أفراده متوجهاً إلى المسكن الآخر، عابراً الخندق على عصا ملقاة عليه، وأغار على المسكن الآخر.
والآن مَن الذي أخبر عن ضياع هذه النملة ووجودها في المسكن الآخر؟ والإختصاصيون يفسرون الأمر هكذا:
إن النملة التي وضعت في المسكن الآخر أخبرت صديقاتها بالخفاء وذلك بإحداثها موجات كهرومغْناطِيسية عما جرى عليها من أحوال وعن موضعها الحالي بإحداثيات معينة، وبعد هذه المحاورة التي تمت بخفاء تام استنفرت أصدقاءها لإنقاذها فشنّوا هجومهم على المسكن الآخر.
بمعنى أن النملة تتكلم.. وقد علّم سيدنا سليمان لغة النمل. ولهذا تبسم سليمان ضاحكاً من قولها( ) وتوجه شاكراً إلى ربه تحديثاً بهذه النعمة العظيمة.
إن للنمل نظاماً اجتماعياً شبيهاً بالنظام الجمهوري، فالجميع يكدون لخزن الغذاء في مسكنهم وليست هناك نملة كسْلانة قط. فإذا ما كان حمل الغذاء ثقيلاً عليها تستدعي صاحباتها فيتعاونّ في نقل الغذاء إلى المسكن، والنملات في سعي دائب طوال الصيف، وفي أثناء الشتاء تكتفي بالغذاء المدخر، وأحياناً تَدبُّ الرطوبة إلى حبوبها المخزونة، فتحتاج إلى عرضها إلى الشمس. وبعد جفافها تنقلها إلى المسكن مرة أخرى، وقد يحدث أحياناً نمو في بعض الحبوب، فتقوم حالاً بتقسيمها إلى قسمين، وإذا ما نما أحد الأقسام تقسمه مرة أخرى إلى قسمين، وهكذا تحافظ على الحبوب للخزن في إطار الاستفادة منها، حيث الحبوب التي نبتت لا تفيدها بشيء.
مَن علّم النمل كل هذا؟ مَن علَّمها هذه المسائل الدقيقة المتداخلة وهي تحمل جسماً أصغر من حجم حافظتنا في الدماغ؟
وجوابنا واضح كما هو الحال في الأسئلة الأخرى: إنه الله سبحانه الذي ألهم النمل كل هذه الأمور، والنمل يساق بهذا الإلهام الإلهي.
«عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: قرَصتْ نملةٌ نبيًّا من الأنبياء، فأمر بقرْيةِ النمل فأُحرقتْ، فأَوحى اللهُ إليه: أنْ قرَصتْك نملةٌ أَحْرقتَ أمّةً مِن الأُمم تُسبِّحُ».( ) فالنمل كما هو مشاهد أمة بذاتها، مسبحات لله بلسانٍ لا نفقهه.
وفي رواية الحاكم في مسنده يقول الرسول:
«خرج نبي من الأنبياء يستسقي، فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء. فقال: ارجعوا فقد اُستُجيب لكم من أجل شأن النملة».( )
فالنملة تعمل كل هذا بسَوق إلهي وإلهام منه تعالى.
ج- يلفت القرآن الكريم نظرنا إلى الجهة الاضطرارية للقدر وكون الحيوانات أمماً أمثالنا:
﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اْلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾(الأنعام: 38).
يروي أبو داود عن رسول الله حديثاً أنه قال: « لولا أنّ الكلاب أمّةٌ من الأمم لأمرتُ بقتلها كلِّها ولكنِ اقتلوا منها كلَّ أسْودَ بَهيمٍ».( )
لقد قلق العلماء من انتهاء نوع من نسل رَخم المسمى بـ(Geronticus eremita) في تركيا، لأن لكل موجود موضعه المعين في توازن البيئة، فانتهاء نسله يعني انفتاح ثغرة في التوازن. فمَن علّم كل موجود أن يجد موضعه في هذا التوازن للبيئة؟
نحن نقول لهذه المسألة: الهداية الجبرية (الاضطرارية) أو الهداية الجارية ضمن متطلبات الشريعة الفطرية. فنحن ننظر إلى جميع أنماط هذا السَّوق والانسياق ونقيسها من هذه الزاوية.