إن الحاكم المهيمن على الكون كله هو القدر والتقدير والنظام والانسجام والتخطيط والميزان والاتزان. فالآيات الجليلة تعلّمنا بهذا القدر المنظّم في الكون:
﴿اَللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ اْلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُستَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾(الرعد: 8-10).
﴿وَإِنْ مِن شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾(الحجر:21).
﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ﴾(الرحمن: 7).
نعم، إن القدر يسع الكون كله ويشمل كل ما فيه بحيث لا يمكن تصور أي شيء خارجه. فالله سبحانه، خالق الكون قد وضع في كل شيء بعلمه المحيط، ميزاناً واتزاناً ونظاماً وانتظاماً وقدراً معيناً.. من انفلاق الحب والنوى إلى انبعاث الربيع الزاهر، ومن تصوير الإنسان في الأرحام إلى ولادة النجوم في المجرات. بل إن جميع ما دوّنه العلماء المحققون في العالم كله، في مئات الألوف من كتبهم ما هو إلاّ ترجمة لهذا النظام والانتظام والتقدير الشامل المحيط.
إن القدر الحاكم على الكون يؤمن به القاصي والداني، العدو والولي، المؤمن المعتقد والمنكر العنيد، بل حتى “ماركس” (Karl Marx) عندما يتكلم عن “الحتمية” (Determinizm) إنما يبين هذا القدر الحاكم. وعلى الرغم من أن بعض علماء المسلمين يقرّون نوعاً من الحتمية كـ”ابن خلدون”، بل يجعلونها شاملة على الحياة الاجتماعية أيضاً كما هو في “الحتمية التاريخية” في الغرب. فإننا ضمن مفهوم أهل السُّنة والجماعة نقيد هذه الحتمية بشروط معينة ولا نقرّها على إطلاقها، بل نقبلها مع تلك الشروط، علماً أننا نقرّ بوجود قدر حاكم مهيمن على كل شيء بما فيه الإرادة الإنسانية.
لا شك أننا عندما نقوم بمشروع بناء أو عمل ساعة، فإننا نبدأ أولاً بوضع تصميم وتخطيط بمواصفات معينة؛ فنبدأ نقدّر ونحسب كل ما يمكن أن يظهر في المستقبل ضمن هذه المواصفات سلفاً. فلئن كان هذا التخطيط والتصميم في بناء بسيط أو في آلة بسيطة، فكيف يمكن تصور هذه الأنظمة الدقيقة والتوازن الدقيق المحيّر للعقول بدءً من الذرات ووصولاً إلى الإنسان، دون تخطيط أو منهاج؟ ترى هل هذا النظام البديع المشاهد في الكون أقل شأناً من نظام البناء أو الساعة؟!
إن البذور والنَّوى ما هي إلاّ عُلَب مشحونة بالقدر، فلقد دُرجَ في البذرة كل ما تمضيه من صفحات حياتها بل حياة الشجرة كاملة مندرجة في تلك البذرة، حتى إذا ما ألقيت في التراب تنشق عن ألوف الأُلوف من أنواع النباتات والأشجار والأزاهير المتنوعة، على الرغم من تشابهها من حيث التركيب وتشكلها من المواد البسيطة نفسها. فكل بذرة تعرض أمام الأنظار وهي تنشق عما فصّل القدرُ على حجمها وقدره من لباس، أو تتشكل وفق الصورة العلمية والمعنوية التي وضعها لها القدر. فلو عمل ألوف من الخياطين، طوال سنين مديدة، لا يستطيعون أن يوفقوا حتى إلى خياطة لباس كامل لشجرة واحدة فقط. بينما الأشجار والنباتات جميعها تصنع لنفسها الملابس منذ الخلق. فلا مناص من تفويض هذا الفعل إلى القدر الحاكم. وإلاّ فكيف يمكن أن يوضّح هذا الأمر بغير القدر؟
تأمل في قصر الكون العظيم هذا! فالواقف أمام التلسكوب يرى الأبعاد الشاسعة على مسافة خمسة ملايين سنة ضوئية. يعني إذا انطفأ “نجم نابض” فإنك لا تشاهد انطفاءه إلاّ بعد خمسة ملايين من السنين! أو لو أصبحتَ ضوءً وأردت الذهاب إلى هناك فإنك لا تبلغه إلاّ بعد خمسة ملايين من السنين! أفلا يدفع هذا الكون العظيم وهذا النظام الدقيق الإنسان إلى الإعجاب والحيرة؟
ومن جانب آخر نرى أن هذا العالم الواسع له علاقة وثيقة مع الإنسان هذا العالم الصغير وخليفة الله في الأرض، بحيث إن هذه العلاقة الوثيقة توضح التقدير المطلق والعلم المحيط لله الذي يمسك السموات والأرض بأدق نظام وأبدع ميزان وأروع تقدير وتدبير. فالتناسب الدقيق البيّن بين أعضاء الإنسان يمكن ملاحظته أيضاً في كل جزء من أجزاء الكون كذلك. وحقّاً ما قاله “جين” (Jean): “إن الذي وضع عالم الذرات وعالم الإنسان بل جميع العوالم وضعها وفق مقاييس هندسية دقيقة، فتشاهد هندسة حاكمة على الكون كله. أليست هذه الهندسة الحساسة الدقيقة الحاكمة على الكون كافية لإثبات الإله الأزلي الذي بنى الكون عليها”.
ولنبسط المسألة حسب مدارك العوام:
لو كنتم على أهبة إنشاء بناء ولو كان بسيطاً، فلا شك أنكم ستراجعون أولاً من تثقون بدرايته في هذا الأمر وتسترشدون برأيه. ذلك لأن أي خطإ في في إرساء قواعد البناء -ولو كان طفيفاً- قد يؤدي إلى انهدام البناء فور إنشائه. لذا فإن تقدير حسابات البناء ضروري جدّاً. فهذا البناء البسيط يحتاج إلى تقدير وتصميم وتخطيط يلائمه، وأنتم لا تشرعون بالبناء إلاّ بعد إعداد وتهيئة الأوليات اللازمة، بل يجب أن تراعوا خطة الإعمار في البلدة التي أنتم فيها وتأخذوا بنظر الاعتبار موقع البناء وشكله الخارجي.. إلى آخره من الأمور الدقيقة التي يتطلبها البناء ولو كان بسيطاً، بينما الكون الواسع العظيم بحاجة إلى أدق الحسابات والمقاييس والتقدير. أوَ تريد مثالاً على ذلك؟
انظروا إلى قطعة تفاح تضعونها في فمكم، ولاحظوا العلاقة الدقيقة بينها وبينكم؛ طعم التفاح وفمكم، الفيتامينات التي فيها وجسمكم، بل حتى ظل شجرته وحاجتكم إلى الظل، وحاجة شجرتها إلى ما تلفظونه من غاز ضار في الزفير، وقيامها بتنقية الهواء، ومن ثم شهيقكم وتنفسكم من هذا الهواء الصافي. وهكذا.. إلى مئات ومئات العلاقات الموجودة بيننا وبين التفاح -مثلاً-.. وما ذكرناه ليس إلاَّ نتفاً منها.
فإن شئتم أن تأخذوا المسألة في دائرة ضيقة -كهذا المثال- أو إن شئتم أن تأخذوها في ميدان أوسع بين النجوم؛ فلا ترون إلاّ نظاماً بديعاً وتوازناً دقيقاً وتقديراً في كل شيء.
إن حيواناً منوياً لا يكذب قطعاً، لأنه يتحرك على وفق نظام وخطة معينة، فلو قال سأكون إنساناً، يكون إنساناً، فهو يتكلم بلسان الكروموسومات وبالوظيفة التي لا تخطئ لـ(D.N.A) و (R.N.A) في توجيه الخلايا، لتكوين فم الإنسان وشفتيه وعينيه وأنفه وأذنيه وسيماه وكل ما فيه..
وواضح لدى الفلَكيين الفيزيائيين أيضاً الأبعاد الفضائية، ومعروف لديهم مسبقاً القوى المغناطيسية ومداها في تلك الأبعاد الهندسية الشاسعة وشدة القوى التي فيها. وقد ساعد اكتشاف الكمبيوترات على معرفة أن أي مخلوق في الكون إنما يُنظم وفق خطة معينة منذ خلقه.. وهذا الأمر جار من الذرات إلى المجرات. فلقد سُجّل وعُيّنَ كل شيء في اللوح المحفوظ.. وهذا ما نطلق عليه اسم “القدر”.
ولعل من الأفضل أن نوضح المسألة أكثر..
إن ما ذكرناه -حتى الآن- هو حول القدر الجبري، أي القدر الذي لا يد للإنسان فيه، ولا دخل له فيه. فهذا القدر كوني، لا تؤخذ فيه إرادة الإنسان بنظر الاعتبار. فالله I يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد ولا يُسأل عما يفعل؛ فهو القاهر الجبار. ورغم ما ينطوي عليه كل مخلوق من حكمة إلاّ أن هذه الحكمة ليست مقيدة، لأنه سبحانه وتعالى ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾(البروج: 16). فالكرة الأرضية منذ الخلق تدور حول نفسها وحول الشمس بسَوق من هذا القدر الجبري. فليس لأحد أن يقول لها: “قفي..”. وكذا الشمس والقمر يتسابقان، وليس لأحد أن يمنعهما من هذا التسابق؛ لأن القدر الجبري هو المهيمن في هذا الجريان والتسابق.. فكل شيء خاضع اضطراراً لهذا القدر.