هذا الموضوع يستحق أن يخصَّص له فصل كامل، ويُحلّل تحليلاً دقيقاً، إلاّ أنني هنا أريد أن ألفت نظركم إلى بعض أبعاده فحسب للتأمل و التفكر:
إن التضحية أيضاً من أهم خصائص المبلّغ، فالذين لا يضعون التضحية نصب أعينهم منذ البداية -أو يعجزون عن ذلك- لن يكونوا من رجال الدعوة. ولا داعي للكلام عن إخفاق من لم يكن رجل دعوة بهذه الصورة.
بينما المستعدون للتضحية بالمال -إن طُلب- أو بالنفس -إذا تطلب- بل حتى بالأولاد والأهل والمقام والمنصب والشهرة إلى آخر الأمور التي يتغنى بها الآخرون ويجعلونها مبتغى حياتهم، هؤلاء المستعدون للتضحية بهذه الأمور سينصب عرش دعوتهم في الذرى، وهذا أمر محقق ومقدّر.
فعندما أرسى الرسول الكريم r دعوته في مكة، أفهم روح التضحية وغرزها فعلاً في النفوس، بدءاً بنفسه ثم الأقربين له ممن نصروه. فمثلاً: سيدتنا خديجة الكبرى رضي الله عنها زوجة سيد المرسلين، سلطان الدنيا والآخرة، قد بذلت كل ما عندها في سبيل هذه الدعوة المقدسة دون أن تُحرج الآخرين في الطلب، فتحملت جميع مصاريف الضيافة والولائم التي كانت تقام لدعوة مشركي مكة. وعندما توفيت هذه السيدة الكريمة العزيزة الموسرة لم تُبق لنفسها حتى ثمن كفنها!.
نعم، إن كل داع إلى الله يبذل من تضحية فائقة لما يملك من إمكانات مادية، وعلاوة على ذلك ولكي يحيا بدينه وفكره وحريته وإنسانيته بأفضل ما يمكن وليعيش بها، يترك بيئته التي نشأ فيها، أي يهاجر. وهذا بعدٌ آخر للتضحية؛ فقد هاجر سيدنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي y، وهاجر كل غني وفقير وشاب وشيخ وامرأة ورجل من المسلمين. هاجروا جميعاً وتركوا موطن آبائهم وأموالهم لظَلَمَة مكة وجباريها، ولم يأخذوا شيئاً معهم إلاّ ما يسدّ الرمق في الطريق. فالمهاجرون عندما تجشموا كل هذه التضحيات في سبيل تبليغ دعوتهم التي آمنوا بها والتمثل بها، استقبلهم أهل المدينة: الأنصار، بالترحاب وضمّوهم إلى صدورهم. وهذا نوع آخر من التضحية؛ ذلك لأنهم آثروهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.( ) فرجال التبليغ والإرشاد أيضاً في الوقت الحاضر، عليهم أن ينفّذوا هذا المفهوم للتضحية والتي تمثلت في عهد الصحابة الكرام الذين هم في الذروة في كل مجالات الحياة، ويظهروا الحالة نفسها، وذلك لأن بخلافها لا يحالفهم التوفيق، كما ذكرنا في المقدمة.