إن المبلّغ لا يريد جزاءاً ولا شكوراً من أحد عوضاً عما يؤديه من وظيفته المقدسة، مادياً كان ذلك الأجر أو معنويا وروحياً، لأن طلب الأجر يُذهب صفاء الإخلاص والصدق. وحالما يتكدر الصدق والإخلاص تتلاشى قوة التأثير. بل المبلّغ يقلق حتى على ما يورثه تبليغه من ذوق معنوي ولذة روحية أن يكدّرا صفو الإخلاص، ناهيك عن الأجر المادي الذي يجرح التبليغ. وإذا تداخلت منافع مادية في التبليغ رُفع الإخلاص كلياً. ولا يقال لهذا العمل: إنه تبليغ ولن يقال. وأوضحُ دليلٍ على ما ذكرناه ما يقوله القرآن الكريم نقلاً عن لسان جميع الأنبياء عليهم السلام: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الشعراء:109).
وفي الحقيقة يمكن أن نستشف تحت عبارة الأنبياء هذه أنيناً كهذا: “إنني أتقلب لأجلكم في ألم وقلق، وأنتم تهينونني وتطلقون علىّ إسم مجنون، وتحاولون إبعادي عن الناس وترجمونني، وأنا أسعى لأبلّغ الحق بيتاً بيتاً. بينما أنتم توصدون كل باب عليّ. وأنتم تحاولون بكل وسيلة أن تضيقوا الخناق عليّ وتصيبوني بالأذى. وأنا لا أطلب منكم شيئاً، لا في الدنيا ولا في العقبى. إن أجرى إلاّ على الذي أرسلني وقلّدني هذه الوظيفة”.
فهذا صـوت الأنبياء وأنفاسهم جميعاً منـذ آدم u إلى سـيدنا الرسـول الكريم r. وهذا هـو روح أدائهم لمهماتهم.
فعندما أتى حواريو سيدنا المسيح u إلى أنطاكية -إن كانت أنطاكية- إذا برجال الدولة يريدون سجنهم فوراً، فينفّذ الأمر، ويُزجّون في السجن. وما إن سمع حبيب النجار النبأ -وهو موضع ثقة لدى الجميع- حتى هرع إلى المسؤولين، وخاطبهم قائلاً: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾(يس:21).
يذكر القرآن الكريم هذه الحادثة ملفتاً النظر إلى شرطين أساسيين، أو بالأحرى إلى وظيفتين أساسيتين للمبلّغ:
أحداهما: أن يكون المبلّغ نفسه مهتدياً.
ثانيتهما: عدم طلب أيّ شيء كان مقابل التبليغ.
نعم، لا يكون مبلّغاً أو مرشداً من لا يصلي، فلا يُسمَع كلام من لا يؤدي عباداته كاملة، خالية من القصور والنقص ولا يؤثر في المخاطب. وكيف يكون مرشداً من ملأ بطنه بالربا والرشوة والكسب الحرام.. إذ كيف يكون الذين غرقوا في حياة مسرفة فارهة مبلِّغين ومرشدين وهم بحاجة إلى إرشاد لأجل آخرتهم؟
نعم، إن الذين لم يجعلوا حياتهم بمستوى السواد الأعظم ليسوا ممن يسيرون في طريق الرسول الأعظم r وأصحابه الكرام.. بل أطوارهم وأقوالهم كذب في كذب. ولم يهتد أحدٌ إلى الصدق بالكذب، ومن لم يهتد إلى الصدق لن يكون هادياً لغيره قط.
إن المبلّغ كلوحة اتجاه ثابتة، يعلّم الصدق والصواب دائماً. فكل من يعاين حياته ومعايشته يرى الصدق بسهولة ويجده على سيماه. والأولى أن نقول ينبغي أن يرى ويجد.
والقرآن الكريم منبع هداية للمتقين. فكيف ينتفع من منبع الهداية هذا من لم يُدخل حياته كاملة في نطاق ما وضّحه القرآن الكريم؛ إذ الهداية الحقة هي الصراط المستقيم الموصوف في القرآن الكريم، فلا يبلغ الهداية من كانت حياته غير مستقيمة. والتناقض بعينه إن كان هؤلاء أدلاء على طريق هداية الناس.
فالمرشدون والمبلّغون إذن عندما يؤدون ما تعهده الأنبياء عليهم السلام من وظيفة الإرشاد يسلكون طريق الأنبياء. ولا سيما من يتقدم إلى مهمة التبليغ في الوقت الحاضر عليه أن يستمع بقلب شهيد -أكثر من غيره- إلى المرشد الكامل الذي نوّر الله عقله كقلبه، وقلبه كعقله. إذ يقول: “إن أهل الضلالة يتهمون العلماء باتخاذهم العلم مغنماً، فيهاجمونهم ظلماً وعدواناً بقولهم: “إنهم يجعلون العلم والدين وسيلة لكسب معيشتهم” فيجب تكذيب هؤلاء تكذيباً فعلياً”.( )
نعم، لا بد من تكذيب أهل الدنيا فعلاً وإلاّ فما عداه كلام لا طائل وراءه. تتولى خدمةَ الإسلام جماعة من المحتسبين لله في كل زمان، على سطح الأرض. فهؤلاء المضحون لأجل سعادة الإنسانية، يعلّمونها كيف يكون المبلّغ الصادق. فهذه الزمرة الصادقة مع الله تعمل حسبة لله إلى حد تكاد تكفى تركته لكفنه، وقد لا تكفي أحياناً. فأنا أجمّل خيالي بهؤلاء البررة، إنهم حَمَلة عظماء لدعوة عظيمة.
لقد شاهدتْ هذه الأمة الكثيرين ممن يتمشدقون بالحياة الإسلامية واستمعوا إليهم كثيراً، ولكن كلما شاهدوهم واستمعوا إليهم خاب ظنُهم أكثر. وقد لا تتحمل هذه الأمة خداعاً أكثر من هذا، فهي الآن تنظر إلى الحياة الإسلامية المعيشة لا إلى الكلام، وتحتضن كل من يعيش بكلامه فعلاً حياة إسلامية، بل تضحي في سبيله، بينما لا تعير سمعاً ولا تكترث بمن لا يعمل بما عَلم.
ولأوضح المسألة أكثر فأقول: إنكم لاتثقون بالذين لايعيشون من قمة رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم حياة مشابهة لحياتكم “حياة السواد الأعظم”، ولا تعتمدون عليهم، فلا تتفق وفراسةَ المؤمن الاعتمادُ والوثوق بكل خَدّاع ماكر. وإذا أردتم الانتماء إلى أحدهم، فانظروا أولاً إلى حياته اليومية فإن كانت تتسم بالتواضع والاستغناء، ولا تكذب أعمالُه أقوالَه، فاتبِعوه وانتموا إليه. وأعتقد أن هذا أمر فطريّ، إذ ليس من الصواب الانتماء والإتباع دون الإمرار على المحك؛ فالتاريخ أظهر كثيراً من أمثال هؤلاء. ولهذا يجب إتباع من كانت أحواله وأطواره “محمدية” وليست كثرةَ الكلام. فالذين يعدّون الخب مهارة وصنعة ليس لهم إلاّ الضرر للعمل الإسلامي، فهم بعيدون عنا روحياً، وسنبقى بعيدين عنهم.
ثم إن من انتمى إلى جهة وانضوى تحت منّتهم، لا يستطيع أن يفهّم أولياء نعمته شيئا، ولهذا فإن أبا حنيفة، والليث بن سعد، والإمام الثوري، والفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأمثالهم من الأفذاذ تعاملوا معاملة حذرة جداً في هذا الأمر، أي عدم الدخول تحت منّة أحد. ولهذا تجاوزت أعمالهم وأقوالهم العصور، حتى بلغت عصرنا، فعاصرونا. ألا ما أزهر ذلك العصر حتى نوّر العصور التي تلته واحتضن هذه الكثرة الكاثرة من الناس دفعة واحدة!
فمثلاً: “رؤي سفيان الثوري رحمه الله حزيناً، فقيل له: ما لك؟ فقال: صرنا متجراً لأبناء الدنيا، يلزمنا أحدُهم حتى إذا تعلّم، جعل قاضيا أو عاملاً أو قهرماناً”.( )
ورسالة سفيان الثوري إلى الخليفة هارون الرشيد معروفة ومشهورة، وهي أنموذج لكيفية المعاملة مع الحكام! إذ لما تولى هارون الرشيد الخلافة انتظر أن يأتي صديقه الحميم السابق سفيان الثوريّ لمبايعته -وهذا من حقه بلا شك- بيد أن سفيان لم يفكر مثله قط. ولم يتمالك هارون الرشيد فكتب إليه رسالة، وعاتبه فيها عتاباً رقيقاً جاء فيها: “..واعلم يا أبا عبد الله أنه ما بقى من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهناني بما صرت إليه، وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتهم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي وقرت به عيني، وإني استبطأتك فلم تأتني، وقد كتبت لك كتاباً شوقاً منى إليك شديداً، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل المؤمن وزيارته ومواصلته…”. ولما رأى سفيان الكتاب ارتعد وتباعد منه… وأدخل يده في كمّه ولفها بعباءته وأخذه، فقلّبه بيده ثم رماه إلى مَن كان خلفه وقال: يأخذه بعضكم يقرؤه فإني أستغفر الله أن أمسّ شيئاً مسّه ظالم بيده… فأخذه بعضهم.. ثم فضه وقرأه، وأقبل سفيان يتبسم تبسم المتعجب فلما فرغ من قراءته قال: اقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة، فلو كتبت إليه في قرطاس نقي، فقال: اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه؛ فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يُصْلَى به ولا يبقى شيء مسه ظالم عندنا فيفسد علينا ديننا، فقيل له: ما نكتب؟ فقال: اكتبوا:
“بسم الله الرحمن الرحيم، من العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري، إلى العبد المغرور بالآمال هارون الرشيد الذي سُلب حلاوة الإيمان… أما بعد: فإنك قد جعلتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت به على بيت مال المسلمين فأنفقته في غير حقه وأنفذته في غير حكمه… فشدّ يا هارون مئزرك، وأعد للمسألة جواباً، وللبلاء جلباباً، واعلم أنك سـتقف بين يدي الحكم العدل…”. وبقية الحادثة يذكرها أحد الشهود في قصر الرشيد فيقول: “..فأقبل هارون يقرأ الكتاب ودموعه تنحدر من عينيه ويقرأ ويشهق… ثم لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هارون يقرؤه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله”.( )
ترى، ما القوة، وأين مكمن الشجاعة ومنبع الجرأة حتى خاطب الخليفةَ بهذا الأسلوب؟ هذه القوة هي عدم رضوخه لمتاع الدنيا، وتجاوزه الدنيا وكل ما سـوى الله. ولو كان كأمثاله مرتبطاً بالدنيا لما استطاع أن يخاطب الخليفة بهذا الأسلوب. علما أن ذلك الخليفة كان مؤدياً لصلواته الخمس يومياً، وقد حج مراراً واعتمر، وله من النوافل ماله من صيام وقيام، فضلاً على رقة قلبه ولطفه، ولكن الأمر هو أن له بعض أعمال يأثم مرتكبها فأيقظه أحد أصدقائه السابقين بهذا الأسلوب.
وقفة قصيرة هنا لأعرض وصيتي الأولى والأخيرة إلى الأجيال المقبلة الذين يُنتظر منهم خلاص الإنسانية: كونوا أعزاء كرماء. لا تدعوا مراكز القوى المعلومة أن تمكّن منكم. وحتى إن ترددتم عليهم لأجل دعوتكم فكونوا مستغنين دائماً، وإياكم أن تدخلوا ضمن قيود الآخرين لدى نشركم الحق والحقيقة. إن ما وضع الله سبحانه من أسس وقواعد لمَِـنَ الأهمية بمكان. وأنتم ليس عليكم إلاّ إظهار العبودية له. وعندها يكون لكلامكم تأثير ووقع ويتقبل تبليغكم في وجدان الآخرين. وقد تكفل سبحانه بذاته إعطاء قوة التأثير لكلامكم إذا لم تنتظروا شيئاً من الآخرين، إذ تأخذونه من الله سبحانه. وكيف ذلك؟ هو: بتأثير كلامكم في الدنيا، وتشرفكم بجمال الله والجنة في الآخرة. وإن لم تعملوا على هذه الشاكلة وأردتم من الناس شيئاً، يزول تأثير كلامكم أولاً، وتُحرمون من أعظم النعم.
إن مناصب الدنيا وجاهها زائلة فانية. لا تستحق أن يُرتبط بها ولا الاغترار بها! ولكن في الوقت الحاضر يجوز العمل في وظائف الدولة ضمن حالات الاضطرار. وفي أيامنا هذه إذا ما عاش الموظف وعائلته من مرتّبه فإنه من الورع ألاّ يترك ميراثاً، لأنـه قد اختلط -بصورة عامة- كثير من المحظورات مـع المرتّبات. وهذا كلام خاص قيل في الظروف التي نعيشها. وآمل أن تتبدل هذه الظروف كلياً، ويجد كل واحد الطريق المشروع للكسب.
ولقد عزمنا نحن في سبيل أداء التبليغ ليس على ترك المقامات والمناصب الدنيوية وحدها بل حتى على ترك المقامات والمناصب الأخروية، لو كانت لنا في سبيل التبليغ. نعم فكما نفضل تفهيم بعض الشيء في سبيل الحق إلى بضعة أشخاص على أن نكون نواباً في البرلمان، فإننا إذا اقتضت الضرورة نرجّحه على القطبية والغوثية، لأن الأصل هو تذكير الناس وإرشادهم، فلا مقام أرقى وأفضل منه سواءً كان دنيوياً أم أخروياً. لذا فإن جعل التبليغ تكئة لبلوغ مآرب دنيوية -كأن يستعمل الشهرة والصيت التي حازها المبلّغ في أثناء نشره الحق والحقيقة- حماقة كحماقة من يستبدل قطعاً زجاجية تافهة بقطع الألماس الثمينة.
ففي رواية ضعيفة أن في عهد موسى u مُسخ إلى خنـزير مَن كان يجعل الدين مغنماً، مع أنه كان يذكر موسى u وعظمته أينما حلّ من مجلس، ولكن لأنه كان يستغل ذلك لمنافعه الشخصية مسخه الله إلى أخس الحيوانات.
لا شك أن المسخ صورة قد رُفع عن هذه الأمة الإسلامية لوعد قطعه الله على نفسه لحبيبه r، إلاّ أن الكثيرين كانت عاقبتهم مثل هذا الشخص سيرةً.
نسأل الله العلي القدير أن يحفظنا وجميع المبلّغين المرشدين من السقوط إلى هاوية هذه العاقبة، إنه للدعاء سميع وبالإجابة جدير.