إنساننا اليوم بحاجة إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أكثر من أي وقت مضى، فالنبوة قد ختمت بخاتم الأنبياء r، فسُدّ ذلك الباب سداً نهائياً. والحال أن عصرنا الحاضر يموج كفراً وعصياناً يفوق مجموع ما في العصور التي خلت. لذا يتعرض الذين تعهّدوا هذه الوظيفة الجسيمة في يومنا هذا إلى مضايقات ومشقات أشد ممن تعرضوا لها في العصور السابقة. فهذه الظروف العسيرة جداً هي التي تؤهل مرشدي عصرنا ومبلّغي الدعوة فيه أن يسبقوا الذين أتوا من قبلهم، ونأمل أن يتسنموا موضعاً خلف الصحابة الكرام مباشرة. فالنفس مهما كانت أدنى من الكل إلا أن الوظيفة أسمى من الكل. واللطف الإلهي سبحانه يرِدُ بقدر حاجة الناس. وعندما تُقسم الرحمة الإلهية إلى النـاس كافة توزّع على الأغلب بنسبة متعاكسة مع اقتدار الشخص؛ فمن كان أعجز وأضعف فالله سبحانه أرحم به.
إن الذنوب النـاجمة من النظر من منافذ أجواء شتى، وما تترك من انطباعات في أذهاننا قـد اقتحمت حتى أغوار قلوبنا بل جعلتنا مشلولي القوى، فباتت ليالينا خالية من الأشواق ومحاريبنا محرومة من الدموع. ولا أدري مـاذا ننتظر من مصائب بحالتنا هذه الشبيهة بجثة هامدة خاوية من العشق والمحبة؟ وربما المصيبة التي هي أدهى منها هي الطرد من رحمة الله الذي أصاب الشيطان -والعياذ بالله-.
نعم، نحن أناسي القرن العشرين نُصبح ونُمسي مع الذنوب، فلو رُفع الحجابُ عن أبصارنا وشاهدنا ماهيتنا المعنوية لكنّا أول من يولّى فراراً من حالتنا تلك.
وعلى الرغم من كثرة إجرامنا وانهيارنا وسقوطنا فإن إيداع ربنا الكريم وظيفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلينا ليس إلا من حاجتنا الشديدة إلى رحمته تعالى. فنحن في منتهى الضعف والعجز والله سبحانه في منتهى العلو والرحمة. ولو عبّرنا عما يختلج في وجداننا بـ”الحمد لله” ألوف المرات لكانت زهيدة أيضاً تجاه رحمته الواسعة هذه.
لقد غدا القرن العشرون قرن انهيار كل ما يتعلق بالمعنى والروح؛ إذ زاغت النظرات وغُشيت الأبصار وقُصمت الظهور، وغدت مواقع القياد خلاف طهر المحراب. وعلى الرغم من هذه الظروف غير الملائمة فإن صوت سيد المرسلين r وأنفاسه الطاهرة تُسمَع ولو بهمسات خافتة. وإن صدى أقواله المباركة التي نطق بها قبل عصور، يتجاوز المكان والزمان ويصل إلينا، وما هذا إلا رحمة ربنا الواسع الرحمة. وإلاّ كيف نفسر هذا الأمر؟ ولهذا فما علينا إلا أداء الشكر على هذا اللطف العميم. وذلك بأن نملأ أعماق أرواحنا بأنفاسه الطاهرة الباعثة على الحياة ونستنشقها. فالذين يؤدون الشكر بهذا الشكل ينجون بإذن الله في العاقبة.
يقول سعدي الشيرازي:
تُـرى، أيُّ غـمّ قد يَحيـقُ بأمةٍ لها أنت في الدنيا ظهيرٌ ومعوانُ
وما الخوف من موج البحار إذا طغى ونوح على ظهر السفينة رُبانُ( )
نعم نحن نبحر في سفينة النجاة، ربانها سيد المرسلين. ورباننا يهتف بنا قائلاً: “لا نجاة إلا لمن ركب السفينة”. أفلا نستجيب لهذا النداء معاً؟
لنحاول الآن متابعة الآيات الكريمة التي تذكر بتوظيف المسلم بمهمة التبليغ وثوابه الدنيوي والأخروي لقيـامه بوظيفته حق القيام. يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾(آل عمران:104).
بمعنى لتتكون منكم جماعة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر دائماً؛ فيدعون الناس إلى الخير ويجنّبونهم الشر، ويبينون لهم الحسنات ويكونون مثال الصدق والاستقامة، حتى إنهم يتجنبون السيئات تجنبهم الثعابين والعقارب. وبتعبير آخر يكون كل واحد منهم كالنجم القطبي في المجتمع لتهتدي بهم سفينة المجتمع التي تمخر عبـاب بحر الحياة الاجتماعية إلى سواء السبيل، فتُنظم القيادات وتوزع المسؤوليات وفقهم. وبهذا تُقلل الانحرافات والتخلفات إلى أصغر حد ممكن. فهذه الجماعة الرائدة تكون ملتحمة مع هذه الوظيفة إلى حدِ أن الذين يتفرسون فيهم لا يجدون أنفسهم إلا أنهم أمام مجسَّم الأمر بِالمَعروفِ والنْهي عَن المُنكَرِ وبذلك يكونون موضع ثقة وتصديق. فإن لم تكن ضمن مجتمع جماعة تتصف بهذه الصفات وتستمر عليها، فاقرأ على ذلك المجتمع السلام، فقد انتهى أمره ولن يهتدوا إلى الصواب طالما ليس فيهم مثل هذه الجماعة.
وبعكسه إن كان في موضع ما جماعة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فالله سـبحانه وتعالى ضامن أن يحفظ أهل ذلك الموضع من كل المصائب السماوية والأرضية. نعم، إن الله سـبحانه ضامن؛ إذ ليس غيره يقدر أن يضمن ذلك قط، وذلك بنص القرآن الكريم: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾(هود:117). فأقول استناداً إلى بيان القرآن الكريم وأقوال جميع الأنبياء والأولياء العظام: إن الله جلّ وعلا لا يُنـزل مصيبةً على موضع يؤدّى فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. حتى لو استحق المجتمع ذلك العقاب فالله سبحانه يرفعه عنهم لأجل تلك الجماعة الرائدة، لشدة ارتباط قلوبهم به سبحانه. إذ لا تمضي دقائق عمرهم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم في وجل واضطراب مستديمين، حتى استولى عليهم هذا الأمر وأصبح شغلهم الشاغل لا ينفكون عنه؛ في مأكلهم ومشربهم ومنامهم ويقظتهم، يتفكرون: كيف نبلّغ هذا الأمر؟ ومتى؟ ولمن؟ فكأن هذه الحالة سرّ وجودهم. وطالما أمثال هؤلاء من عباد الله الذين نذروا أنفسهم لله يصولون ويجولون في صفوف مجتمع ما، فهم في أمان لا تصيبهم مصائب وبلايا سماوية وأرضية. لذا إن كنا نريد أن نكون في أمان من المصائب السماوية والأرضية فعلينا العودة فوراً إلى تسلم وظيفتنا التي خُلقنا لأجلها.. وعلينا أن نعرف قطعاً أن المصائب النازلة تنـزل بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولئن كنا نريد دفع تلك المصائب والبلايا فلا يتحقق ذلك إلا بأداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلا تحوز عبادة أخرى على هذه الخاصية. وقد يهلك الله شخصاً أو جماعة أو قوماً و يخسف بهم الأرض، وهم يذكرونه ويعبدونه ويتلون الأذكار آناء الليل وأطراف النهار ويطوفون ببيته الحرام إلا أن يكون ذلك الشخص أو الجماعة أو القوم مهمومين بأداء مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلقين عليها، وعندها يتعهد الله سبحانه تلك البلدة ويحفظ أهلها من الهلاك.
ولأجل هذا نجد في بعض المصادر روايات إسرائيلية مفادها: أن قوم لوط u أُهلكوا وكان فيهم ألوف العباد والزهاد القائمين الليل الصائمين النهار، ولكن ما كانوا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر. والله أعلم كم من قائم بالليل وصائم بالنهار كان في أثناء هلاك أصحاب الأيكة قوم شعيب u.
وفي مقابل هذا لا نجد قوماً قط أُهلكوا وفيهم مَن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ولا يذكر التاريخ ولو مثالا واحداً على هذا. وسنفصل هذه المسألة لدى بحثنا عن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الواردة في هذا الشأن.
يمكننا أن نقيّم حقيقة التبليغ والدعوة في الأرض والحاجة الماسة إليها من زاوية أخرى بالآتي:
إنه بمقتضى خلافة الإنسان في الأرض، فقد منحه الله سبحانه وتعالى القدرة على التصرف في الأشياء وبوّأه مكانة عالية في خلافة الأرض واهباً له إرادة من إرادته. فلا “أنانية” في أيّ مخلوق إلا في الإنسان. فهو بهذا “الأنا” والخواص الموهوبة له يبلغ إدراك حقيقة هويته وذاته. وذلك بالتعرف على أسماء الله الحسنى وصفاته الجليلة بتجلياتها المتنوعة. لأن “الأنا” المعطى له ما هو إلا وحدة قياسية ليُشعره بالتملك والحرية، فيستطيع به أن يدرك ربَّه ومالكَه وقدرته على كل شيء، وذلك بوضعه خطوطا افتراضية لمُلكه ومَلَكاته النسبية بالقياس إلى مطلقات صفات الله الجليلة.
وهكذا فإعطاء هذه الميزة والخاصية للإنسان يعني قبوله خلافته منذ البداية. ومعلوم أن الله سبحانه قد خلق آدم u بعد خطابه الملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي اْلأَرْضِ خَليفَةً﴾(البقرة:30) وأعطاه حق التصرف في الأشياء وعيّنه خليفة في الأرض. والخليفة لا يستطيع أن يتجاوز الحدود المرسومة له من قبل من استخلفه، تلك الحدود التي رسمتها الأوامر الإلهية المبلّغة إلى أنبيائه الكرام. ومتى ما عمل الإنسان بمقتضى تلك البينات والأحكام الإلهية يكون مؤدياً مهمة الخلافة على أفضل وجه.
يروي الحسن البصري t حديثا مرسلا يوضح هذا المفهوم: “مَن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفةُ الله في الأرضِ وخليفةُ كتابه وخليفة رسوله”.( )
إن واجب كل إنسان هو معرفة الله سبحانه وتعريف الآخرين به تعالى وإظهاره بأطواره وأحواله أنه لله سبحانه. وكذا من الواجب أيضاً معرفة رسوله وكتابه والتعريف بهما. وكذا تحويل أوامر الله وأوامر رسوله إلى حياة معيشة ضمن هذه الوظيفة. علماً أن هذه الوظائف هي غاية وجود الإنسان. بمعنى أن الإنسان بقدر أدائه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون منجزاً وظيفته الملقاة عليه. وجميع هذه الأمور وسائل مهمة لبلوغ الإنسان خطوة فخطوة إلى رضى الله سبحانه وتعالى.
تروي درة بنت أبي لهب رضي الله عنها: “قالت: قام رجل إلى النّبيّ r وهو على المنبر فقال: يا رسول الله أيّ النّاس خير، فقال r: خير النّاس أقرؤهم وأَتقاهم وآمَرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأَوْصَلُهم للرّحم”.( )
نعم، إن خير الناس من يأمر بالمعروف وينشر الخير والفضيلة حتى يصبح ويمسي به، وينهى عن المنكر باذلاً قصارى جهده لمنع السيئات، متقياً رب العزة، جاعلا حياته المعاشة وفق ما يقتضيه اندماج أوامر القرآن الكريم والشريعة الفطرية، أي ينظر إلى الأشـياء والحوادث من زاويـة الحقائق المنبجسة من القرآن الكريم، شفيقاً على الخلق، واصلاً للرحم. وهذه هي أهم الوظائف.
فإن كنا حقاً نستشعر برباط العلاقة مع إنساننا الحاضر ونعتقد أننا نعطف عليه ونحتضنه بالرحمة والشفقة، فإن أحسن دليل على صدق تصرفنا هذا هو أداء ما يجب علينا من وظائف نحوه، ولا شك أن العمل المقدّم في هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا علينا السعي الجاد لأداء هذه الوظيفة تجاه الإنسانية جميعاً.
ثم إن مَن ينهض بهذه الوظيفة كائناً مَن كان يكون ضمن الثناء الرباني، إذ يقول تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ % يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(آل عمران:113-114)
بمعنى أن أي إنسان كان إذا ما أدى هذه الوظيفة وكان مؤمناً بالله واليوم الآخر يحظى بالثناء القرآني. نعم، أليست هذه الآية الكريمة وأمثالها تسوقنا إلى الآمال العظيمة؟
إن إنساننا في الوقت الحاضر أحوج ما يكون إلى المحبة والشفقة والكلام الطيب والصوت الأنوس الحنون بدلاً عن القسوة والعنف والضرب والقتل. فالمنتظَر منا اليوم خفض جناح الرحمة والشفقة على الجميع حتى نسمع أنّاتهم في قلوبنا، وتستشعر قلقهم واضطرابهم في نفوسنا، فتشاركهم في الأفراح والأتراح. ومتى ما تحقق هذا فقد تحقق إذن عمل مهم تنتظره الإنسانية.
يشاهد في الوقت الحاضر عدد هائل من النـاس -يدفعنا إلى الإعجاب- اهتدوا واختاروا الإسلام ديناً لهم سـواء في الشرق أو في الغرب. ويشاهد أيضا في داخل البلاد وخارجها عودة إلى الديـن تحير العقول. فالمساجد والمصليات التي نسيت أو تنوسيت في الأمس أصبحت الآن جزءاً لا يتجزأ من الحياة. وحيث إن هذا الأمر عام وشامل فقد انتشر على الأرض جميعا بسرعة. ولئن كان كل هذا يعدّ في وقتنا الحاضر أمراً ذا بال -وهو كذلك- فإنه يدل على أن القلوب إنما تُفتح وتُغلق بالشفقة. وأن كل ما يثير الحقد والبغض لم يأت بخير سابقاً كما لن يأتي به حاضراً ومستقبلاً.
ولقد سمعت وشاهدت الكثيرين من الذين اهتدوا حديثاً أنهم لو كانوا قد قتلوا بالأمس ما كانوا لينعموا بهذه الأذواق الروحية اللطيفة التي تفيض اليوم من الإيمان، حتى كانوا يرددون مرات ومرات: “الحمد لله، لم نُقتل كفرد من أفراد الجبهة المقابلة في أيام الفوضى والإرهاب التي عمّت البلاد، وإلاّ لكنا خسرنا الدنيا والآخرة”.
وإنه لذو مغزى عميق ما يقوله صحابي كريم اهتدى حديثا إلى الإسلام، مخاطباً صحابياً آخر عاتبه ولامه على قتله في الجاهلية أحد أصحاب النبي r: أنت تلومني لعملي ذاك، ولكن الله جل جلاله قـد أدخله الجنة بيدي لفوزه بالشهادة، فماذا لو كنت أنا المقتول وأنـا على الكفر حينذاك؟ بمعنى أنني كنت سأخلد في النار!
وأنتم كذلك إذا ما أصغيتم إلى من نجا من الإرهاب والفوضى واهتدى فلازم مصلاه، تسمعون الصوت نفسه. وفي الحقيقة أنني أترقب بلهفة ماذا يقول الذيـن لجأوا إلى القوة في حل الأمور إذا ما رأوا أولئك المجرمين السابقين قد أصبحوا اليوم خاشعين لله في صلاتهم يبكون؟
أورد مثالاً حياً لتوضيح هذا الأمر من خير القرون:
عمرو بن العاص عاش عمراً مباركاً طويلاً، كان هذا القائد الجسور والسياسي المحنك قلِقاً قلقاً شـديداً “وهو في سـياقة الموت. فبكى طويلا وحوّل وجهه إلى الجدار. فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله r بكذا ؟ أَمَا بشرك رسولُ الله r بكذا ؟ قال فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نُعِدُّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسـول الله. إني قد كنت على أطباق ثلاث. لقد رأيتُني وما أحد أشد بغضا لرسول الله r مني. ولا أَحَبَّ إليّ أن أكون قد استمكنتُ منه فقتلتُه. فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار. فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي r فقلت: ابسُطْ يمينك فلَأُبايعْك. فبسط يمينه. قال فقبضت يدي. قال: ”ما لك يا عمرو؟” قال قلت: أردت أن أشـترط. قال” تشترط بماذا؟” قلت: أن يُغفَر لي. قال” أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟” وما كان أحد أحب إليّ من رسـول الله r ولا أجلّ في عيني منه. وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا لـه. ولو سُئِلتُ أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه. ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة. ثم وَلِينا أشياءَ ما أدري ما حالي فيها. فإذا أنا مت، فلا تصحبني نائحة ولا نار. فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا. ثم أقيموا حول قبري قـدر ما تنحر جزور. ويقسم لحمها. حتى أستأنس بكم. وأنظرَ ماذا أراجع به رسل ربي.”( )
وقد شهدنا كثيراً، الحامدين الشاكرين الله لعدم موتهم وهم يجتازون دهاليز تلك الفترة المعتمة، وتوجههم إليه سبحانه بالإيمان كتضرع عمرو بن العاص t وحمده لله لخلاصه من الموت في تلك الفترة. فلئن استطعنا أن نهيئ لهم في الدورة الثانية والثالثة حياة مليئة بأشواق الإيمان نكون قد ضمنّا لهم قضاء لحظاتهم الأخيرة من حياتهم أيضاً تدفق بنشوة الحمد والشكر.
إنه لا حدود للوظيفة. ولا سيما من نـذر نفسه ليكون فدائي المحبة.. فدائيو المحبة هم الذين نذروا أنفسهم لتحبيب الله إلى الإنسانية جميعاً. لا همّ لهم إلاّ إيجاد سبل تحبيب الله للناس وتمهيد طرق الوصول إلى الحياة الخالدة. وقد كسبت هذه الوظيفة الملقاة على عاتق هؤلاء الأبطال في الوقت الحاضر أبعاداً جادة أخرى؛ لأن غالبية الناس يعيشون حياة مقطوعة الصلة بالله سبحانه على الرغم مما يشاهَد من عودة إلى الإسلام في مناطق مختلفة ومبشرة بالأمل. فإنقاذ هؤلاء من مثل هذه الدوامة أمرعسير جداً وجليل في الوقت نفسه. فكم هو عسير ومؤلم مخاطبة إنسان مصروع لحد الجنون مغمور في مستنقع آسن مميت: كن كما أنت عليه.. كذلك من العسير جداً إيقاظ هذا الجيل الذي يتخبط في هذا المستنقع وجلب انتباهه إلى أن يحافظ على صفاء قلبه وتوثيق صلته بالله. بل هو أعسر منه. ولكننا مضطرون إلى اجتياز هذه المشاق وتخطي هذه الصعوبات. فالمحبة والتسامح من الوسائل المهمة لتجاوز هذه الصعاب. لأن أغلب الناس يواجه إما بالفوز بالحياة الأبدية أو خسرانها. ونحن نريد أن يفوزوا بحياتهم الأبدية. والحال أنهم لم يدركوا بعدُ عِظَم ما هم فيه من المهالك، ولهذا يستغربون مما نبذله من جهد وهمّة على إنقاذهم، بل أحيانا يسخطون علينا ويصدوننا. فالقيام بعمل مماثل يدفعهم إلى حرمانهم من الحياة الأبدية. لذا فإن تصرفاتنا ينبغي أن تخالف تصرفاتهم وأعمالهم؛ إذ لو علموا حراجة وضعهم لأدركوا سـبب اهتمامنا وبذلنا الجهود، ولَسَعَوا إلينا سعياً حثيثاً، ولغمروا قلوبنا بالبهجة والسرور. لذا ينبغي الاستمرار في الإيقاظ والتنبيه على الرغم من استغرابهم وصدّهم لنا. وهكذا فعل الأنبياء وكذا الأولياء والأصفياء وهم شموس الإنسانية وأقمارها. فمثلاً:
سيدنا نوح، كيف اهتاج وتفجّع من عصيان ابنه في عدم ركوب السفينة معه رغم إلحاحه عليه، ثم كيف توسل إلى الله سبحانه وتعالى ولاذ به لإنقاذه من الغرق حتى حال بينهما الموج؟( ) ففي وقتنا الحاضر مئات من الأحداث أمثال هذه تدفعنا إلى التفجع نفسه.
وسـيدنا إبراهيم u كان يهمه كثيراً ويقض مضجعه عبـادة أبيه للأصنام، فتوسل بكل الوسائل الممكنة لإفهامه الحقائق.( ) فسلوك الأنبياء هذا يعلّم الشيء الكثير لفدائيي المحبة في عصرنا الحاضر.
وسيدنا الرسـول r الذي خاطب عمّه الذي حماه طوال أربعين سنة: “أَيْ عَمِّ قل لا إله إلاّ الله كلمة أُحَاجُّ لك بها عند الله”.( )
هذا الموقف الجليل للنبي المحزون الذي كاد يهلك نفسه لهداية الناس، يجب أن يكون ماثلا أمام أعيننا دون مغادرة. وأنه r لم يقابل قومَه الذين حاصروه وآذوه بشتى صنوف الأذى إلا بالمحبة والتسامح والرحمة،( ) قابلهم بالمحبة وأصبح هو الظافر؛ لأنه بهذه المعاناة والمكابدة قدمدّ جسراً يؤدي إلى اغتنام مليارات الناس حياتهم الأبدية.
نعم، إن هـذه الوظيفة السـامية وظيفة منوطة تماماً بفدائيي المحبة والشفقة… وظيفة الذين يرغبون عن أذواق عيشهم ليتنعم الآخرون. إنها وظيفة من لا يتنعم حتى في الجنة إن لم يرشد أفراد مجتمعه إلى طريق الجنة.. مثلما قاله مثال الشفقة: “لقد ضحيتُ حتى بآخرتي في سبيل تحقيق سلامة إيمان المجتمع، فليس في قلبي رغَبٌ في الجنة ولا رهَبٌ من جهنم، فليكن سعيد بل ألف سعيد قرباناً ليس في سبيل إيمان المجتمع التركي البالغ عشرين مليونا فقط بل في سبيل إيمان المجتمع الإسلامي البالغ مئات الملايين. ولئن ظل قرآننا دون جماعة تحمل رايته على سطح الأرض فلا أرغب حتى في الجنة، إذ ستكون هي أيضاً سجناً لي، وإن رأيت إيمان أمتنا في خير وسلام فإنني أرضى أن اُحرق في لهيب جهنم؛ إذ بينما يحترق جسدي يرفل قلبي في سـعادة وسرور.”( ) وهكذا دأب الفدائيين، أما الصديقون فدأبهم: ليكبر جسدي بكبر جهنم لئلا يدخلهاعبد من عباد الله.
إن تحويل هذه الأقوال إلى أفعال عسير جداً، ولكنها جديرة لإفهام مدى الشفقة الواسعة سعة البحار الزاخرة، لحالة جيشان الروح ولو آناً من الزمان.
وما أعظم شفقة الرسول الكريم r الذي سينادي في هول يوم المحشر “أمّتي.. أمّتي” متضرعاً خاشعاً سـاجداً لله حالَما يدرك أن من أمته من سيدخل جهنم.. فلا يرفع رأسه من السجود إلا عندما يخاطَب: «يَا محمّد ارفع رأسك سَل تُعطَهْ واشفعْ تُشَفَّعْ».( ) فهذا تعبير عن شفقة ورحمة لا نظير لهما للرسول العظيم r تجاه أمته. وفي الوقت نفسه فهو مثال لأعظم فدائيي المحبة. فلا يكون فدائي المحبة إلاّ من ينسى حظوظه البشرية وسعادة عائلته ومشاغله الدنيوية في سـبيل هموم الناس وآلامهم ومن يتعالى على مطالبه. بل لا يمكنه أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه الأكمل إن لم يكن فدائي المحبة بحق.