سؤال: ما مكانة السلطانين العثمانيَّين ياووز سليم ومراد الأوّل بالنسبة لِغيرهما من السلاطين؟ وهل أخطأ القانوني في إصداره القوانين؟
الجواب: بادئَ ذي بدءٍ علينا أن نعلمَ أن هناكَ أفرادًا خصّهم الله تعالى بإحسانه وفضله وميَّزهم بصفات معينة، وهذا أمرٌ طبيعي للغاية، فإذا نَظَرْنا إلى من تحلَّقوا حول الحوضِ النورانيِّ لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم من أمثالِ ساداتنا أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم لألْفَينا ميزاتٍ خاصّة اختصّ بها كلّ منهم.
فإذا ما ذكر اسم الصديق تبادر إلى ذهن الإنسان على الفور سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، لأن له ميزة فارقة ألا وهي ارتقاءُ أعلى قمَمِ التسليم، والتغلُّبُ على العقلِ والمنطقِ بالعقل والمنطق أيضًا، وإن كنّا ننشدُ صفةً مميّزة للتفريقِ بين الحقِّ والباطلِ لوجدْنا الفاروقية عند سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإن أردنا صرحًا يمثل الحياء والأدب والتوقير لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لرأينا ذلك في سيدنا عثمان رضي الله عنه، وإن كنا نبحث عن ميزات لها علاقة بالدائرة المباركة لرسولنا صلى الله عليه وسلم لَتَبَادَرَ إلى الذهن سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وعلى نفس الشاكلة ظهرَ عددٌ من الجماعات في عهودٍ مختلفة مثلت عظمة الإسلام وجزءًا من حقائقه العلوية أعظم تمثيل، إلا أنَّه كان بين هؤلاء أيضًا أناسٌ مصطفَون اختلفوا عن غيرهم.
ومن هؤلاء السلاطين العثمانيّون؛ فقد كان السيد عثمان غازي رحمه الله رمزًا للصفاء والإخلاص، وكان أورخان غازي أقرب إليه في إقدامه وشجاعته الإيمانية، أما السلطان مراد فقد كان رائد دولةٍ محنّكًا وقائدَ جيش قلَّ نظيرُه، فضلًا عن رهافةِ حِسِّهِ وولايتِه لله تعالى.
أجل، كان على رأسِ جيشِهِ بصفةٍ دائمةٍ، ولقد استولى على “أدرنه” وفتحَ الله علينا في عهدِهِ “تِرَاقْيَا” لأول مرة، ولقد امتاز بصفاءٍ جعله يتوجَّهُ إلى شيخِهِ ذات يوم قائلًا له: يا سيدي إنَّكم ترون الكعبة عند التكبيرة الأولى، لكن ما بالي أنا! فأنا أُحاولُ ذلك منذ سنوات فلم أوفق إليه إلا في التكبيرة الثانية أو الثالثة.
كان يتضرع إلى الله تعالى أن يعزّ به الإسلام وينال الشهادة في سبيل الله، فلم يضِعْ دعاؤُه سدًى، واستشهدَ في ذلك اليوم، فإن كان المرادُ من السؤال هو هذا المراد فقد بلغ “مرادٌ” مرادَهُ حقيقة.
مراد الثاني أيضًا هو مراد الذي ربَّى الفاتحَ في كنفِهِ ورعايته، هو الذي لا يشكُّ أحدٌ في ولايته، هو الذي استسلمَ لكلِّ توجيهات ولي الله “حاجي بايْرام ولي” وإرشاداته، ولم يرفض له أيَّ طلب، هو الذي عهد بالفاتح إلى الشيخ “آق شمس الدين” ليربّيه ويعلِّمه.
مراد الثاني إنسانٌ معروفٌ بحبِّهِ وعِشقِهِ للتصوُّف والعلوم الدينيّة، ويُحْسِن في الوقت ذاته إدارةَ أمور الدولة، وفي الواقع هذان الطرزان للحياة متباينان، لا بدَّ لأحدهما أن ينتَقِصَ من حقِّ الآخر أو يتمدَّد على حساب الآخر، وإلا فهل يستطيع إنسان أن يخبُر شؤونَ الدولة بكلِّ تفصيلاتِها وأن يُظهِرَ في الوقتِ ذاته العناية نفسها بأمور الدين! إنَّ هذا الأمر من أندر النوادر، ورغم ذلك فقد تمكَّنَ مراد الثاني من التغلُّب على هذا الأمر الصعب.
يقول أحد كبار المفكرين: لم يكسِرْ هذه القاعدةَ إلا الخلفاءُ الراشدون. أجل، فلو عُهِد لإنسان بأن يكونَ عمدةَ قريةٍ لَتَعَذَّرَ عليه الحفاظُ على صفائِهِ وإخلاصِهِ، بيدَ أن هؤلاء حكموا العالم ولم يُفرِّطوا بالإخلاصِ قدرَ الإمكان.
أما السلطان سليم الأول فقد كان رجلًا ملحميًّا مختلفًا تمامًا، ولقد أُثِرَ عنه أنَّه ذات ليلة وبينما كان قافِلًا مظفَّرًا من إحدى معاركِهِ الملحميّة في سبيل الوحدة الإسلامية سَمِعَ بأن الرعيَّةَ والناسَ تدفَّقوا إلى الشوارع منذ أيّام وكلّهم شوقٌ وسعادةٌ لاستقبالِهِ، فما كان منه إلا أن سَلَكَ طريقًا آخر، ودخل إسطنبول في منتصف الليل ودَلَفَ إلى قصر طوب قابي.
إنَّ ذلك الرجل الذي أرهبَ العالم بضربةِ مخلب، وأخافَ الغابةَ كلَّها عندما زمجَرَ، بل وجعَلَها تَرْتَجِفُ فَرَقًا؛ إذا ما جَنّ عليه الليلُ توجَّهَ إلى ربِّهِ، وتحول إلى عابدٍ زاهدٍ ساكنٍ خاشعٍ من رأسه إلى أخمص قدميه، فأشبه طاووس بن كيسان وأويس القرني وكأنَّه ليسَ هو الذي ترتَعِدُ الفرائصُ لرُؤيَتِهِ، تأمّلوا ذلك، فقليلٌ من الناس من حظيَ بهذه الأحوال والأوضاع، ولقد ارتقى هؤلاء السلاطين إلى هذه الآفاقِ العالية؛ ممّا يُحتّم علينا ذكرَهم بعد الصحابة والتابعين.
أما القانوني فهو إنسان عظيم أيضًا، وعزْوُ الخطإ إلى هؤلاء لا يتناسب مع قامة الأعمال التي أنجزوها، كان رحمه الله دائمَ المحاسبةِ والمراقبةِ لله تباركَ وتعالى لدرجة أنه لما قَفَلَ يومًا راجعًا من إحدى معارِكِهِ المظفّرة قضى ليلتَهُ في مكانٍ موحِشٍ حتى يمنعَ الغرورَ من التسلُّلِ إلى نفسه.
إلا أننا نقول: إن قامةً مثل هذه القامة العظيمةِ مع ما لَها من سابقِ فضلٍ كان عليها أن تتصرَّف بحساسية أبلغ فأبلغ تجاه أحكام الشريعة؛ لأنه لا يليق بها غير ذلك.
ومع ذلك فينبغي ألا ننسى أن القانوني لم يتَّخِذْ قرارًا أو يسنّ قانونًا في عهده دون أن يستشير أحدًا، بل كان يستشيرُ علماء عصره في جميع القضايا ويتصرَّف وفقًا لما يصدرونه من فتاوى، لا سيما وأن شيخ الإسلام في عهده هو المفسر العظيم مفتي الإنس والجان أبو السعود أفندي، وعلى ذلك يتضح جليًّا أن القانوني لم يكن بالشخص الذي يتحرَّك وفقَ هواه وهو تحت سمع وبصرِ مثل هذا الشيخ العملاق، وعلى ذلك لا بدّ وأن نعتبر تلكَ الأخطاء من قبيل الخطإ في الاجتهاد، وأن نضطلع دائمًا بذكر الجوانب الحسنة لأجدادنا اتّباعًا للقاعدة التي تقول: “اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ”[1].
علينا أن نكون خيرَ خلفٍ لخيرِ سلفٍ.
[1] سنن أبي داود، الأدب، 50؛ سنن الترمذي، الجنائز، 37.