سؤال: يقولون: إن الإسلام كالنظم الإمبرياليّة احتلّ باسم الفتح أماكن مختلفة من العالم، ثم استعمرها فيما بعد؟ فما رأيكم في هذا؟
الجواب: لا يختلف هذا الادِّعاء عن بقية الادعاءات المغرضة الأخرى التي يلهث بها أعداء الإسلام، والتي تهدف إلى خداع وتضليل المسلمين الذين لا يعرفون الإسلام حقَّ المعرفة.
بدايةً من الذي سيستعمره الإنسان في شبه الجزيرة العربية وما الذي سيحتله؟ هل شاهدتم إنسانًا يحتل قومه وقبيلته ثم يستعمرهما؟ لا سيما إذا كان المُدعى استعماره أناسًا فقراء مثل إنسان الحجاز أو أرضًا مجدبة مثل أراضيه!
علاوةً على ذلك فإنه من باب السخرية بل من المستحيل أن نلصق صفة الاستعمار والإمبريالية والاستغلال بهؤلاء الروحانيين الذين تصدّوا لجميع المخاطر بغية تبليغ رسالة الإسلام إلى كل أنحاء العالم، واعتبروا الاستشهادَ أعلى مرتبة في سبيل الدعوة التي يؤمنون بها، وأمضوا أعمارهم في مكافحة أعداء يفوقونهم بخمسة عشر أو بعشرين ضعفًا على شتَّى الجبهاتِ في كلِّ أنحاء العالم.
يا ترى ما الذي تَحَصلَ عليه هؤلاء الناس واستغلُّوه واستفادوا منه في مقابل ما تجشَّموه من صعاب وما عايشوه من حرمان وتضحية؟!
إن الذين ادَّعوا مثل هذه الادعاءات يعترفون كذلك بأن ادِّعاءاتهم لا محلَّ لها من الصحة، فهل من الممكن إلصاق صفة الاحتلال والاستعمار بهؤلاء الناس الذين فارقوا أوطانهم وبيوتهم وذويهم سنوات عدة، لا يألون على شيء إلا التعريف بربهم حيثما حلُّوا ورحلوا؛ والذين جعلوا الموت والشهادة أغلى أمانيهم، والذين تتفطَّرُ قلوبهم لعدم نَيلِهم الشهادة في الحرب وعدم تمكُّنهم من لقاء أصدقائهم في الآخرة.
إن النُّظُمَ الاستعمارية هي من صنعت الاحتلال والإمبريالية بوجوهها المثيرة للاشمئزاز، بداية من الإسكندر حتى نابليون ومرورًا بالرومان حتى الجومانيين ومن المغول حتى بعض الدول التي اقتفَت أثرهم في الوقت الحاضر، فهؤلاء هم الذين خربوا البلاد وأفسدوا الأخلاق وأحدثوا الوقيعةَ بين الأفراد، ثم خلَّفوا وراءهم أماكن خربةً وأطلالًا ومفاوز قفرةً وأيامًا انعدم فيها العمل والنشاط وأماسيّ لا تفكر في المستقبل وسيولًا من الدماء والقيح والصديد وانصرفوا.
أما اليوم فهم كالعقارب يلدغون ويصيحون ويريدون باسم الاحتلال والاستعمار أن يُلَطِّخُوا وجهَ الإسلام ونبيَّه العظيم صلى الله عليه وسلم وخلفاءَه الراشدين والدولة العلية العثمانيّة وسلاطينها حتى يتسنى لهم التستُّر على أعمالهم المقزِّزة المخجِلة.
وكما أن المسلمين لم يقوموا باستغلال دولة أو باحتلال أحد؛ شعبًا كان أو فردًا في أي حقبة تاريخية أو في أيِّ مكان في العالم؛ فكذلك لم يسمحوا باستعمار واستغلال الغير للأماكن التي فتحوها.
أجل، كيف يدّعون أنهم محتلون مستغِلُّون وخليفة دولتهم الإسلامية كان يسدّ رمقه ببضع زيتونات يوميًّا قائلًا: “حريّ بي أن أعيش معيشةَ عامة المسلمين وعلى مستوى أفقر واحد منهم “، في فترة كانت تتابع فيها الفتوحات في كل أنحاء العالم.
ما الذي احتلَّه واستعمره ذلك الذي كان همُّه الآخرة، ولما جاؤوا له ذاتَ معركةٍ بسلَبِ الشخص الذي قتله وضع يده على حلقومه وقال: “ما شاركتُ في هذه المعركة من أجل الغنيمة، بل إنما شاركتُ فيها حتى ينفذ السهم في هذا الحلقوم فأستشهد في سبيل الله”.
وفي معركةٍ أخرى قَتل أحد المسلمين رجلًا من كبار الكافرين الذين كانوا يُلحقون أذًى بالغًا بالمسلمين ثم اختفى، فوقف قائد الجيش الإسلامي عند سَلَبِ المقتولِ ونادى على القوم مستحلِفًا الجندي المسلم القاتل أن يأتيه، فاضطر الجنديُّ المسلم إلى الخروج وإجابةِ النداء، ولما وقف أمام القائدِ بوجهه الملثَّم جرى الحوار التالي بين الاثنين:
– بالله عليك هل أنت من قتله؟
– أجل.
– إذًا خذ الألف دينار هذه.
– لقد قمت بهذا العمل من أجل الله.
– ما اسمك؟
– وما تفعل باسمي؟ أم أنك تريد أن تعلنه على الملإ وتضيِّعَ ثوابي؟
قولوا لي بربكم: هل من الممكن أن يقوم مثل هؤلاء الناس باحتلالِ أحدٍ أو إقامة مستعمرات على وجه البسيطة؟! أم الأحرى أن نقول: إن العداوة والحقد عندما يصلان إلى مستوى معين فإنَّكم ترون الذين امتلأت صدورهم بهذه الصفات البغيضة لهم أعين ولكن لا يبصرون بها، ولهم آذان ولكن لا يسمعون بها، ولهم قلوب وعقول ولكن لا يفقهون بها.
والآن لنرجع إلى الموضوع الرئيس: ما معنى الاستعمار والإمبريالية؟ ومن الذي صنعهما؟
الإمبريالية أو بعبارة أخرى الاستعمار هي: فرض سيطرة مجتمع على آخر أو دولة على أخرى، واستغلالها وابتزازها، إلا أن كلمة الاحتلال والحاكمية والاستعمار لا تحمل المعنى نفسه دائمًا، ومن ثم يمكننا ترتيب هذه المصطلحات وفق أشكالها المشاهدة في الوقت الراهن:
1- الاحتلال والسيادة المطلقة: يعني الهيمنة على بلد ما والتخلّص من أصحابها الحقيقيين والاستيطان فيها، حتى إن عصرنا الحالي وما سبقه من عصور قد شهد عديدًا من الأمم التي طردت سكان البلاد التي احتلَّتْها في مختلف أنحاء العالم؛ من مغارب الأرض إلى مشارقها، وأنشأت الأبنية على قبورهم.
2- الاحتلال العسكري: ويعني فرض السيطرة العسكرية على بلد ما، والتدخل في جميع شؤون أفراده، فمثلًا بعد أن احتُلّت الهند من قِبَلِ بعضِ الدول، لم ينسحِبِ الاحتلال من الهند إلا بعدَ سنواتٍ طويلةٍ ذاقَ خلالها الهنودُ مرارة الاحتلال العسكري على نفسِ الشاكلة التي نتحدَّثُ عنها الآن.
3- التدخُّلِيّة: تعني التدخل سرًّا وعلنًا في الشؤون الخارجية والأمنية والدفاعية والاقتصادية لدولة ما، وما الطور الذي يتبعه الشرق والغرب حاليًّا مع الدول الفقيرة الضعيفة المتخلفة إلا نوع من أنواع التدخلية.
4- استراتيجية الغزو الفكري: وهي أخطرُ صور الإمبريالية وأكثرها شيوعًا، ووفقًا لهذه الإستراتيجية تقوم الدول الاستعمارية بوضع الخطط للغزو الفكري لدولة ما؛ فتُرشِّح عددًا من الأبناء المهرة الجريئين المستثمرين في تلك الدولة، ويلقنونهم تعليمًا خاصًّا داخل الوطن وخارجه، ويسجلونهم في محافلَ خاصّة، يستطيعون التحكم من خلالهم في مصير دولتهم، فيوضع هذا المثقف المستغرب في نقطة حيوية بإدارة دولته، وبذلك تصل تلك الدول الاستعمارية إلى مآربها في احتلال هذه الدولة.
وقد أتى هذا النظام الذي استخدمه المستعمرون الغربيون أُكُلَه كثيرًا في القرون الأخيرة، وتوصل المستعمر من خلاله إلى هدفه بسهولة دون أن يكون هدفًا مباشرًا للطرف الآخر ودون أن يثير الحنقَ عليه أو العداوةَ له؛ حتى إننا يمكنُ أن نعتبرَ العالم الإسلامي اليوم قد سقطَ إلى حدٍّ كبير في مثل هذه الهوَّة من الاستغلال والاستعمار.
وإليكم ما جرى في الدول التي تعرضت للإمبريالية أيًّا كان شكلها:
1- ابتعدَ الشعب عن أصله بسببِ الانصهارِ الثقافي، وأُنسِيَ ماضيه وتاريخَه، وجُرّ إلى السقوط في أزمة الهويّة.
2- مُحِيَت العزيمةُ القوميَّة، وأجدبت الأرض، وأصبحت الصناعةُ تابعة للدول الإمبريالية، وعقمَ العلم، وحلَّ التقليد محلَّ البحث والتقصِّي.
3- أصبحَ الشعب ينازعُ بسبب انتهاجِ السياسة القائمة على ركيزتين؛ إحداهما: عدم الإبادة الكاملة للشعب، والثانية: عدم السماحِ له بالنهضة الحقيقية، فغدا في احتياجٍ دائم لغيرِهِ، وأُلهي طوال حياته بكلمات غير واضحة المعنى مثل التقدمية والغربية والحضارة والحداثة.
4- وُضعت الدولة تحت الحصار بسبب الدعم الخارجي والمعونات الخارجية، وأعيقت الواردات والصادرات سرًّا وعلنًا، حتى تفاقم الوضع بشكل عام بسبب استئثار الإمبرياليين بالنهضة والتنمية.
5- عملت الدول الإمبريالية كلَّ ما يلزم حتى تجعل الشعب من ناحية في فقرٍ دائمٍ، وجرَّتْهُ من ناحية أخرى إلى الإسرافِ والبذخ، ونثرَتْ بذورَ عدم القناعة في صدرِهِ، وجعلته في استياءٍ دائم لِتَصِلَ به في النهاية إلى نزاعٍ داخلي.
6- قتل الإمبرياليون روح البحث لدى أفراد الشعب في العلم والتقنية والتكنولوجيا، وعوّدوا معاهد العلم على التقليد، والمصانع على التركيب، وجعلوا الثكنات العسكرية معرضًا لفضلتهم من الأدوات الحربية.
الآن يا ترى هل من المنطق تشبيهُ الإسلام والفتوحات الإسلامية بهذه النظم الإمبريالية الاستعمارية التي تسبَّبَتْ في هذا القدر من المساوئ والأضرار؟
بدايةً فكما لم يعمل الإسلام على تشريد أحدٍ من وطنه وبيته فكذلك لم يقيد أحدًا ويمنعه عن السعي والعمل، لقد حرر الإسلام شعوب الدول التي فتحها ولم يضع حظرًا على أديانهم ومشاعرهم وأفكارهم، بل كفل الرعاية لهم جميعًا كما كفلها تمامًا للمنتسبين إليه ومواطنيه، وجاء الفاتحون المسلمون بالأمن والأمان إلى معظم الدول التي فتحوها، فأصبحوا أفرادًا معتبرين محبوبين مقبولين لدى أهالي تلك البلاد… فإن لم يفعلوا هذا أكان من الممكن أن ينهال النصارى على الكنائس في بعض البلدان يدعون الله فيها بالنصر للمسلمين خشية أن يستولي الرومان على بلادهم مرةً أخرى؟. إن لم يفعلوا هذا أكان من الممكن أن تحافظ دولة كبيرةٌ مترامية الأطراف مثل الدولة الإسلامية على الأمن والأمان طوال عصورٍ عدة؟ أليس للإنسان أن يحتار وينبهِر من المقومات التي لجأ إليها هؤلاء المسلمون لتحقيقِ الأمن والأمان في بلادهم كلَّما رأى دولةً لم تستطع أن تحقق الأمن والأمان على أراضيها رغم صغر مساحتها ورغم ما تملكه من وسائل اتصالات حديثة وعدة وعتاد عسكري!؟ أظن أن عديدًا من المثقفين في وقتنا الحاضر قد أدركوا هذه الحقيقة، فنادوا بضرورة إعادة النظر في المقومات التي شكلت دعائم وجودنا وبقائنا والخاصة بتلك الفترة التي أطبقت فيها سيادة الإسلام على كل العالم.
ونجحَ الفاتحون المسلمون في فتح القلوب مع أبواب البلاد التي فتحوها، فحظوا بثقةِ وتقديرِ أهالي تلك البلاد، ثم استثمروا مكتسبات وفنونِ ومعارف تلك البلاد في مجالي العلم والفنِّ ومهدوا حقول العمل للعلماء والمفكِّرين في بلادهم، وبالغوا في تقدير العلماء والمفكرين مهما كانت أديانهم، وجعلوهم أعزاء مكرَّمين داخل المجتمع الإسلامي.
ولم يضطهد الفاتحون المسلمون أو يظلموا أحدًا مطلقًا، على عكس ما فعلت الدول الاستعمارية بشعوب البلاد التي احتلوها واستعمروها، ليس هذا فقط بل عامَلَ الفاتحون المسلمون أهالي البلاد التي فتحوها معاملتَهم لِبَنِي جلدتهم والمنتسبين لدينهم، ومواطنيهم.
جاء في الخبر الذي يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رجلًا من أهل مصرَ أتى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين عائذٌ بك من الظلم قال: عذت بمعاذ، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم عليه، ويَقْدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب، فجعل يضربه بالسوط، ويقول عمر: اضرب ابن الألْيَمَيْن، قال أنس: فضرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحبُّ ضربَهُ، فما أقلع عنه حتى تمنَّينا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: ضع على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذى ضربني، وقد اشتفيت منه، فقال عمر لعمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟، قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني[1].
وعند وجود عمر بن الخطاب في فلسطين لتسلُّمِ مفاتيح بيت المقدس أدركَتْه الصلاة، ورغم إلحاح البطريرك عليه بالصلاة داخل الكنيسة إلا أنه رفضَ وفضّل أن يصلي على التراب في الخارج وقال قولته الشهيرة: “لا، لو صليت داخل الكنيسة لاتَّخَذَها المسلمون من بعدي مسجدًا، وقالوا هنا صلى عمر”[2]، وبذلك أظهر موقف الإسلام من المنهزمين؛ ذلك الموقف الذي تتجلى فيه قمة الرحمة والإنسانية، والذي لم يبلغ أحد مستواه حتى يومنا هذا.
قولوا لي بربكم، هل يمكن لهؤلاء الناس أن يحتلُّوا غيرهم؟ أو يفكروا في استعمار غيرهم؟ وهل يصلح أن نُطْلِقَ النظامَ الإمبرياليَّ على ذلك النظام القرآني الذي مثّلَتْهُ هذه الأرواح السامقة؟!
[1] ابن عبد الحكم: فتوح مصر والمغرب، 1/195.
[2] تاريخ ابن خلدون: 2/268.