سؤال: انتشر الإسلام بسرعة، ولم تستطع أيّة قوّة التغلُّب عليه خلال ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، فما أسباب ذلك؟ وما سببُ الهزيمة الحالية؟
الجواب: هناك وجهات نظرٍ متعدِّدة حول الفرقِ بين معنى “الإسلام” ومعنى “الإيمان”، ونحن لا نريد الدخولَ في مثل هذه التفاصيل، فإن عبرنا عن الإسلام والإيمان معًا قلنا: إن المسلم هو الذي آمن بالله وبجميع أُسُسِ الإيمان والمستسلم لله تعالى، أي إن المسلم هو الذي نظَّمَ حياته الاجتماعيّة والأسريّة وفق أوامر الله تعالى بكلِّ إخلاص، وإنَّ المسلمين في بعضِ العهودِ لم يجدوا فرصةً لِتطبيق الإسلام من الألف إلى الياء، ولكن إن كانت حماسَتُهم للإسلام والشوق إلى عيشه موجودًا في قلوبهم، فنحن نأملُ من الله ألّا يؤاخذهم، لأن قواهم خارت ووسائلهم انعدمت إلى درجة العجزِ عن رفعِ راية الإسلامِ والنهوضِ بها مرة واحدة، وإن كانوا يتمتّعون برغبةٍ عارمةٍ لفعلِ ذلك.. فإن كانوا قد صمَّموا على الرجوع إلى الإسلام بعزمٍ أكيدٍ وبشوقٍ عارمٍ وبدؤوا بوضعِ الخططِ والأفكارِ لمثل هذا الرجوع أنقذوا أنفسهم من المسؤولية؛ ذلك لأن هناك سبيلين للخلاص من المسؤولية يوم القيامة، إما معايشة الإسلام كاملًا أو المجاهدة لعودته إلى الحياة من جديد.
فإن لم يتم أحد هذين الأمرين فلا مهرب من المسؤولية يوم القيامة، كما ستكون حياتهم في الدنيا حياة ذليلة لأن البُعْدَ عن الإسلام سيؤدّي إلى تسلُّط الكفر على شُعَبِ وساحات حياتهم جميعها سواء الاجتماعية منها أو الاقتصادية أو التجارية أو العسكرية، كما سيكونون مغلوبين في الساحة العلمية والتكنولوجية ثم يُحاسبون على تقصيرهم يوم القيامة، ويذوقون العذاب الأليم.
إن رقيَّ المسلمين لا يقلُّ عن ألف سنة حيث وصلوا إلى ذرى عالية ولا سيما في عهد الخلفاء الراشدين الذي كانت فيه سرعة الصعود مذهلة، وكان رسول الله r قد أخبرَ عن هذا العهدِ الوردي فقال: “يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُونَ نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَغْزُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ”([1]).
وفي حديث آخر يشير الرسول r إلى هذه القرون الثلاثة السعيدة فيقول: “خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ”([2])، وعندما نلقي نظرةً على تاريخنا يتبيَّنُ مدى صدق هذا الحديث النبوي.
بلغَ حكمُ الخلفاء الراشدين ثلاثين عامًا، ومع ذلك فقد تحوّلت الدعوة الإسلاميّة إلى دعوة عالميّة منذ عهدِ سيِّدِنا عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فمن ناحيةٍ وصلَ المسلمون إلى الأناضول، ومن ناحية أخرى تقدَّموا حتى بحيرة “آرال”، ومع أن الخلافات كانت قد بَلَغَتْ الذرى في ذلك العهد؛ إلا أنَّ روحَ الجهاد تتدفَّقُ وتغذّي شعورَ الفتح لدى المسلمين الأوائل، ففُتحت إفريقيا في تلك الفترة، وكان عقبة بن نافع أول الفاتحين لهذه المنطقة من القادة المسلمين، وقد استطاع أن يفتحَ الشمال الإفريقيّ كلّه فترة وجيزة من حياته؛ إذ إنّه توفّي وعمره خمسون عامًا.
كما انصاع البربر إليه في جهاده هذا الذي امتدّ إلى المحيط الأطلسي الذي كان يسمّيه العرب قديمًا “البحر المظلم”، فلما بلغه رُوِيَ أنَّه خاض بجواده البحر حتى الركبة وقال مقولته الشهيرة التي هي أعذب ما يمكن أن يتفوَّهَ به رجلٌ مثالي على وجه البسيطة: “يا رب لولا هذا البحر لمضيتُ في البلاد مجاهدًا في سبيلك حتى أفتح الدنيا لنور الإسلام أو أهلك دونه”.
لم يكونوا يملكون آنذاك عابرات القارات ولا السفن من حاملات الطائرات، ولا سفنًا تستطيع مقاومة العواصف في البحار، بل كانوا يصلون إلى هذه البلدان على ظهور الجمال والخيول، وإذا احتاج الأمر للوصول إلى بلد وراء البحار، قطعوا هذه البحار على متنِ سفنٍ صغيرة وبدائية، ومع كل هذا استطاعوا فتح بلدان عديدة في الشرق والغرب وفي زمن قصير، وإذا أردنا عرض الموضوع من الناحية الحسابيّة قلنا: إن ما فتحه المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين يعادل وقد يزيد على ما تم فتحه في عهود الأمويين والعباسيين والسلاجقة والعثمانيين مع العلم بأن فتوحات عهد الراشدين كانت تستهدف في المقام الأول فتحَ القلوب ونشرَ الإسلام.
إن من أسرار القدَرِ أنَّ البلدان التي يوجد فيها المسلمون حاليًّا فُتِحَتْ كلّها في عهد الصحابة، فمع أن الأندلس بقيت تحت ظلِّ الإسلام ثمانية قرون تقريبًا إلا أنكَ لا تجدُ فيها الآن ما يُشبِعُ فؤادَكَ، أما بلدان تركستان وداغستان وأوزبكستان فلا تزال المساجد والمآذن والمدارس الدينية موجودةً فيها؛ ذلك لأن هذه البلدان فُتِحَتْ من قِبَلِ الصحابة، وأنشأت هذه البلدان التي عاش فيها الإسلام بحق رجالًا عظماء للعلم وللإسلام كالبخاري ومسلم والترمذي وابن سينا والفارابي.
ونحن نتمنَّى لهذه البلدان “التي أسَّسَتْ قواعدها على الإخلاص، وبَذَرَت بذورها بصدقٍ، وامتزَجَت دماءَ الصحابة بِـمِلاطِها، أن تعودَ بمشيئةِ الله إلى الإسلام وإلى يده البيضاء مرة أخرى”([3]). أجل، فنحن كافّة ننتظر مثل هذا اليوم ونشعر ونحسّ بوجودنا في هذه البلدان، ونحن نؤمن بأنه سيأتي اليوم الذي يعود فيه الإسلام الذي غاب عن هذه البلدان إليها… يعودُ كموجات متلاحقة الواحدة منها إثر الأخرى، وهذا موضوعٌ حيويٌّ لا نُطنِبُ حوله بل نرجعُ إلى صلب الموضوع.
إذا كان الصحابة قد نجحوا في فتح العالم في مدة قصيرة فلا بد أن لهذا الأمر أسبابه وتقييمه، فلقد كان كلُّ واحدٍ منهم يحبُّ الدعوة الإسلامية إلى درجة العشق والوجد، ومن نظر إليهم من الخارج ولم يعرفْ حقيقة الأمر خَالَـهُم من المتهوِّرين الذين لامسوا حدودَ الجنون، لأن ما فعلوه كان يذهل العقل فعلًا.
نام علي بن أبي طالب في فراش الرسول ليلة الهجرة، وهذا يعني أنه رضي منذ البداية بأن يُقَطَّعَ بِضَرَبَاتِ السيوف إربًا إربًا ولكن أيدي المشركين بقيت معلقة في الهواء عندما علموا بأن الراقد في الفراش ليس رسول الله r بل هو ابن عمِّهِ علي كرم الله وجهه، أما سببُ تجمُّدِ أيديهم في الهواء فهو من الدهشة، لأن عقولَـهم لم تستوعب هذا الأمر.
فكيف يقوم شاب في السابعة عشرة من عمره بمثل هذه التضحية التي قد تُودِي بحياته؟! لقد ذهل المشركون -ومن بينهم أبو جهل- من هذا المنظر الفدائي العجيب.
وفي أحد الأيام مرّ عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام على دار بني جحش وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة بن ربيعة وأبوابها تصطفق يَبابًا ليس فيها ساكن، فلما رآها على تلك الحالةِ تنفَّسَ الصعداء ثم قال:
وكلُّ دار وإن طالت سلامتها *** يوما ستدركها النَكْباء والحُوبُ
ثم قال عتبة: “أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها! فقال أبو جهل للعباس: هذا من عملِ ابنِ أخيك، فرَّقَ جماعَتَنا، وشتّتَ أمرَنا، وقطع بيننا.
ثم عدى أبو سفيان على هذه الدار فباعَها غصبًا، فذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “أَلَا تَرْضَى يَا عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ بِهَا دَارًا خَيْرًا مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟”، قَالَ: بَلَى، قَالَ: “فَذَلِكَ لَكَ”([4]).
لقد كانوا يتركون كلَّ شيءٍ ويهجرون بيوتهم وعيالهم وأموالهم وأغنامهم.. كلَّ شيءٍ.. وأنَّى للمشركين أن يفهموا هذا الأمر؟!
أجل، فعندما هاجر أبو بكر من مكة إلى المدينة لم يأخذ أحدًا من أهل بيته… لم يأخذ معه زوجته ولا والده ولا أحدًا من أولاده، بل تركهم جميعًا في مكة وهاجر وحده، أما عثمان بن عفان t فلم يأخذْ معه حتى زوجته رقيّة رضي الله عنها وهي بنت الرسول ونور عينه، ولو قيلَ لأيٍّ منا: إن رقية بحاجة إلى من يضحّي في سبيلها بنفسِهِ لأسرعَ الجميع إلى التضحية بنفسه في سبيلها، ولكنها بقيت في مكة وهاجر عثمان t وحده إلى المدينة.
كان ذلك العهد عهد الذين ارتبطوا بصدق وإخلاص بالرسول، لقد كان اتباعهم وحبهم له مذهلًا حتى إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ”([5]).
أجل، كان هذا هو درجة إكبار الصحابة للرسول وحبهم له، بينما كان الرسول يقول لمن يقوم له: “لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ، يُعَظِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا”([6])، ولكنهم مع ذلك كانوا يقومون له، إذ كلما تواضعَ لهم عَظُمَ في أعينهم وزاد حبّهم له، يروى أن الرسول جفل عندما رأى جبريل u للمرة الأولى، وكان هذا في بداية الوحي، يقول أحد عشاق الرسول : “لو أن جبريل u رأى الحقيقة الأحمدية من وراء الأستار إذًا لَغَابَ عن وعيه”، كان الرسول r يزدادُ عظَمَةً كلما ازدادت صِلَتُهُ بالله تعالى ولكنه كان كلَّما زادَ عظَمَةً كلَّما ازدادَ تواضعُهُ وتعمَّقَ، إذ كان يعدّ نفسَهُ إنسانًا من الناس ولا يقبل أيَّ معاملةٍ تتجاوزُ هذا المفهوم ويتضجَّرُ منها.
كان هذا هو العهد الذي توحدت فيه قلوب الصحابة وأرواحهم مع رسول الله إلى درجة أنه قال لبعضِهم: “الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ”([7])، لم يقل هذا الكلام لجبر خواطرهم، بل للتعبير فعلًا عن هذه الوحدة القلبية والروحية، وعندما جاء اليوم الذي قيل لهم أن يهاجروا في أرض الله الواسعة لنشر الإسلام لم يعترضوا ولم يقولوا: لماذا؟… بل هاجروا وانتشروا في أرجاء الأرض من أجل الإسلام ولم يُفكِّروا في العودة إلى وطنِهم القديم، بل فضَّلوا الموت في أوطانهم الجديدة لكي لا يقع أيُّ ظلٍّ من الشكِّ على هجرتهم هذه.
وعندما حُمّ سعد بن أبي وقاص في مكة حَزِنَ كثيرًا فسأله الرسول عن سبب حزنه فقال: “يا رسـول الله أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟” وفي رواية أخرى “أتخلَّف عن هجرتي؟”([8])، ويعني: أخشى أن أموت هنا في مكة وليس في المدينة التي هاجرتُ إليها، وبوركت بوجودك هناك؛ فيصيب هجرتي بعضُ الخلل أو النقص، وسبب تعلُّقِ الصحابة الكرام بالمدينة المنورة يعودُ إلى حبِّهم للرسول الذي قرَّرَ البقاء هناك، وكانوا محقِّين في هذا الحبِّ وهذا التعلُّق، ولكن ما إن صدرَ إليهم الأمر بالهجرة إلى أرجاء الدنيا لِنَشْرِ الإسلام حتّى انصاعوا فورًا، ولم يُبْدِ أحدٌ منهم أيَّ بادرةِ تردُّدٍ أو رفضٍ أو امتعاضٍ، لأنهم كانوا عشَّاق الحقيقة المتجلّية في الإسلام، فعلى مثال مجنون ليلى الذي كان يحوم على الدوام حول ليلى، كان هؤلاء الصحابة متعلِّقين وجدًا وعشقًا بمسألةِ نشرِ الإسلام في أرجاء المعمورة للحصولِ على مرضاة الله تعالى ومرضاة رسوله الكريم.
أجل، ما إن صدر إليهم الأمر حتى توزعوا في أرجاء الدنيا فمنهم من ذهب إلى تبوك ومنهم من هاجر إلى اليمن ومنهم من توجه إلى حضرموت بحماسٍ منقطع النظير.
وعندما جاء اليوم الذي حاولت فيه الدول والإمبراطوريات عرقلة مسيرة الإسلام ووضعَ العصيِّ في عجلات المجاهدين؛ اضطرَّ المسلمون إلى جردِ سيوفهم، إذ كانت تقع على عواتقهم مهمّة مقدسة وهي مهمّةُ نشرِ النور على وجه البسيطة، وعندما استعمل أعداؤهم القوَّة المادِّيَّة لصدِّهم اضطرُّوا إلى اتّباع ذاتِ القوّة ضدَّهم.
لقد آنَ الأوانُ للجهادِ والقتالِ، ولم يتوانوا عن هذا بل أسرعوا إلى ساحة الحرب… فقاتلوا وقُتلوا، ولكن لم يترك أحد منهم الميدان، وأَبْلَوا في كلِّ حربٍ خاضوها بلاءً حسنًا حتى وطِئوا بحوافر خيلهم أرضَ الصين… كانوا كأفرادٍ وكمجتمعٍ مثالًا للبطولة التي لا تستوعبُها سوى الأساطير.
لم يكن الرسول يكلِّفُ أحدًا ما يفوقُ طاقتَهُ، ومع ذلك كان كلُّ صحابي يأخذُ على عاتقه وظائفَ تكاد تكون فوق طاقته ويتسابقون في هذا الأمر، ومن ذلك ما ورَدَ عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: خلَّفَ النبيُّ عليًّا في بعضِ مغازيه؛ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ خَلَّفْتَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟! فسمعتُ رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقول له: “أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي”، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ “لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ”؛ فَتَطَاوَلْنَا لَهَا، فَقَالَ: “ادْعُوا لِي عَلِيًّا” فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ، فَبَصَقَ فِي عَيْنِهِ وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ، فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ([9])، وهكذا اشترك في وقعة خيبر وفتح الله خيبر على يديه.
وذات يومٍ خرجَ النبيُّ غازيًا وولّى أمرَ المدينةِ ابنَ أمِّ مكتوم الذي كان من أقرباء أمِّنا خديجة الكبرى رضي الله عنها، وأمثالُ هذا الصحابيّ الجليل معفيّ من الجهادِ لأنه أعمى ومعذور، وكان من الممكن بهذه العِلّة ألا يشتركَ في الجهاد طوالَ حياتِهِ، ولكنه خرجَ إلى الجهادِ في أرضِ الله الواسعة مع الذين خرجوا في سبيل الله، وذلك بعد وفاة الرسول r، ولم يُثْنِهِ أحدٌ عن الخروجِ بحجَّةِ أنه ضرير، إذ اشترك في الجيش المتوجِّه إلى القادسية على الرغم من تقدُّمِهِ في العمر، تقول الروايات التاريخية أنهم حاولوا إبقاءه في الصفوف الخلفية في يوم القتال ولكنه استطاعَ الوصول إلى القائدِ سعد بن أبي وقاص وطلب منه بإصرارٍ السماحَ له بحملِ اللواءِ، إلى أن ارتقى شهيدًا مجيدًا في تلك المعركة حسب إحدى الروايات t([10]).
هذا مثالٌ على الذين هبّوا للتضحية بأرواحهم في سبيل الله بكلِّ شوقٍ ووجد، لقد كان غياب رسول لله r فرصةً كبيرة لابن أمِّ مكتوم ، لأن الرسول لو كان حيًّا لمنعه من الجهاد بسبب عذرِه، لكنّه الآن لا مانع له من الجهاد، لذا كان فَرِحًا لاشتراكِهِ في الصفوفِ الأولى.
كان أبو طلحة قد شاخ كثيرًا وأصابه الضعف، وذات يوم عندما كان يقرأ سورة براءة أتى على هذه الآية ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 9/41) استدعى أهله وأبناءه وقال لهم “أرى ربي يستنفرني شابًّا وشيخًا، جهزوني”، فقال له بنوه: “قد غزوتَ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قُبِضَ، ومع أبي بكر ومع عمر، فنحن نغزو عنك”، فقال: جهزوني، فجهزوه، فركب البحرَ فماتَ، فلم يجدوا جزيرةً يدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام، فلم يتغيَّرْ ([11])، ولعلَّه شَكَرَ ربَّهُ قُبيلَ وفاتِهِ على هذه الفرصةِ التي أنعمها عليه.
واشترك خالد بن زيد (أبو أيوب الأنصاري) في الحملة التي توجَّهت لِفتح القسطنطينية تحت قيادة يزيد بن معاوية مع أنه كان شيخًا كبيرًا، فقطع هذه المسافةَ الطويلة حتى وصل إلى أبواب القسطنطينية، وعندما هاجرَ النبي إلى المدينة كان أبو أيوب الأنصاري متزوِّجًا وصاحب أولاد، وأما عند خروجِهِ لفتحِ القسطنطينيّة فكان قد مرّ على هجرة النبيِّ قرابةَ خمسين سنة، فإذا أخذنا هذا بنظَرِ الاعتبار عَلِمنا أنه كان يقارب الثمانين من عمره عند خروجِهِ للجهادِ في هذا الجيش، ولقد قَطَعَ كلَّ هذه المسافة الشاسعة من المدينة المنورة إلى إسطنبول على صهواتِ الجيادِ، هنا يُراودني تساؤلٌ ذو مغزى: ما الهدفُ الذي كان يسعى وراءه هؤلاء الصحابة وأمثالُـهم؟
لقد تحدَّثَت عنهم نصوصُ القرآن والسنّة وامتدَحَتهم كمهاجرين وأنصار وَوَرَدَ مثلهم في التوراة والإنجيل، ولكنهم كانوا قد سمعوا رسول الله وهو يقول: “لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ”([12])، إذًا فقد كانت غايتُهم أن يكونوا جنودًا في مثل هذا الجيش المبارك ويحصلوا على رضا الله سبحانه وتعالى، وإلّا فما الداعي لكل هذه الرغبة العارمة ولكل هذه المعاناة؟ كان رسول الله r يشير إلى المرتبة العليا للجيشِ الفاتحِ للقسطنطينية وكان هؤلاء الصحابة يريدون الفوزَ بها ويتسابقون من أجلها.
كانت هذه هي غاية أبي أيوب الأنصاري وهدفه، لذا قام وقدم من المدينة المنورة وقطعَ كلَّ هذه المسافة الطويلة في سفر مرهق ومتعب، ومرت الأسابيع والأشهر ولم يتيسر الفتح، وداهمَ المرضُ والتعبُ هذا الصحابيَّ الشيخَ فكان دائمَ السؤال هل تمَّ الفتحُ؟ وعندما حضرته الوفاة سأله قائد الجيش يزيدُ بن معاوية عن حاجته الأخيرة قال: “حاجتي إذا أنا متُّ فاركب بي ثم سغ بي في أرض العدو ما وجدت مساغًا، فإذا لم تجد مساغًا فادفني ثم ارجع”، فلما مات ركب به ثم سار في أرض العدو حتى لم يجد مساغًا فدفنه بأصل حصن القسطنطينية ورجع([13]).
ومرّ ما يقارب ستة قرون فأعطى الله تعالى شرفَ تحقيق هذه البشارة إلى البطل محمد الفاتح الذي كان بعمر الثاني والعشرين خريفًا آنذاك، أي كان من نصيبِهِ نيلُ بشارةِ الرسول ورضاه والقيام بعملٍ كبيرٍ أنهى عهدًا وفتحَ عهدًا جديدًا في تاريخ البشرية، وتمثيل الروح الإسلامي على أبواب أوروبا، ومن تجليات القدر الإلهي أن اسمه أيضًا كان من اسم النبي إذ كان اسمه محمدًا ولُقِّبَ بالفاتح بعد فتح إسطنبول، لقد قرت عينُ أبي أيوب الأنصاري في رمسِهِ وهو يسمع هتافَ محمد الفاتح وهو يحمد الله على الفتح ويدخل المدينة على صهوة جواده… لقد كان هو الفاتح… وكان جيشه هو ذلك الجيش المبشَّر به.
وهكذا فالذين نذروا أنفسهم سواء لمثل هذا الجهاد والقتال أو للجهاد في ساحة الإرشاد والدعوة والتبليغ؛ عندما يفتحون البلدان تبقى هذه البلدان بأيديهم عصورًا وعصورًا، ولكن عندما يصيبُ الوهنُ أي الخوفُ من الموتِ قلوبَ المسلمين -كما أخبرنا الرسول في أحاديث عدة- يبدؤون بفقدِ هذه البلدان واحدةً تلوَ أخرى.
لقد كنا نملك قبل عصرين أو ثلاثة ثقلًا كبيرًا ومكانةً بارزةً في التاريخ الإنساني وفي التوازن الدولي، ولكننا فَقَدْنا اليوم هذه المكانة وهذا الثقل، وليس هناك إلا تفسيرٌ واحدٌ لا غير لهذا الأمر، وهو أننا كنّا نحملُ روحًا إسلاميّةً في عهد التفوُّق وننقاد إلى الله تعالى ونستسلمُ لأوامره بشكل جدّيّ، أما في عهد التراجع والتخلُّف فقد أحاطَ الوهن بقلوبِنا، أي داخَلَنا الخوفُ من الموتِ والضعفُ وحبُّ الحياة والتعلُّقُ بها والخشيةُ من المستقبل.
لقد حكم المسلمون أرجاء العالم -التي انتشروا فيها بسرعة مذهلة- مدة ألف عام تقريبًا وأداروها إدارةً جيدة، فهل يمكن عزوُ أسبابِ هذا النجاحِ الكبيرِ إلى أيِّ عاملٍ غير عاملٍ واحد؛ وهو أن المسلمين كانوا قد نذروا كلَّ ما يملكونه -سواء أكان ماديًّا أو معنويًّا- في سبيل الله تعالى؟
ونحن نرى الروح نفسها عند باقي المجاهدين والأبطال في العالم الإسلامي، إذ لم يتشبثوا ولم يتعلقوا بحبِّ الحياة، بل بحبِّ هِبَةِ الحياة للآخرين، لقد كان هدفُهم شيئًا واحدًا وهو إعلاء كلمة الله في الأرض.
نرى هذا عند “ألب أرسلان” وعند “كلج أرسلان” وعند السلطان “مراد الأول” وعند “محمد الفاتح” و”ياووز سليم”… وفي غيرهم وغيرهم، في معركة “ملازكرد” الشهيرة لبس “آلب أرسلان” جبة بيضاء ثم وقف أمام جيشه وخطب فيهم خطبةً حماسية قال فيها إنه يدعو الله أن تكون جبته البيضاء هذه كفنًا له، أي كان يبتغي الشهادة أكثر من ابتغائه النصر، لذا فقد لبسَ كفنَهُ والتحمَ دون تردُّدٍ مع جيش يبلغ أضعاف جيشه، فما غربت الشمسُ إلا وقد كُتِبَ له النصرُ ولكن كانت هناك غصّة في حلقه، إذ لم تُقَدَّرْ له الشهادة في تلك المعركة.
أما السلطان “مراد الأول” فقد دعا اللهَ قبيل المعركة أن ينصرَ جيش المسلمين وأن يرزقه الشهادة، وقد قُبِلَ دعاؤُه فانتصرَ جيشه ورُزِقَ هو الشهادة([14])، وعندما تلقى الطعنةَ القاضية وتهاوى إلى الأرض وبدأ يجودُ بأنفاسِهِ؛ سألوهُ عن آخر رغبةٍ له فقال جملتَهُ الأخيرة بعد النُّطْقِ بالشهادتين: “لا تنـزلوا عن صَهواتِ الجياد”.
كان للدولة التي أنشأها أمثال هؤلاء ثقلٌ دولي في جميع العهود، فالأنظار كانت مصوّبة إليها على الدوام. أجل، إن مثل هذه التضحيات التي أبداها هؤلاء الأبطال، إلى جانبِ وضعِهم رضا الله في المرتبة الأولى؛ هو الذي أمَّنَ عيشنا بعزَّةٍ وحَفِظَ حدودَنا.
وعندما فقدنا هذه الروح أحاط الأعداء بنا من كلِّ الجهات، وبدؤوا بالتهامِنا تدريجيًّا. أجل، لقد متْنَا أولًا في مستوى الروح ثم في مستوى الكرامة ثم في المستوى المادي، والآن بدأْنا ننتَظِر المعونة من الدول الكبرى، وأصبَحْنا نعدّ نجاحنا في تأخير سدادِ ديوننا لهذه الدول إنجازًا كبيرًا.
فإن أرادت هذه الأمة الرجوع إلى سابق مجدها فعليها أن تُعيدَ تطبيق جميع العوامل التي رفعتها إلى الأعالي في السابق، دون إهمالِ أيِّ عاملٍ منها، لأنه ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى $ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ (سُورَةُ النَّجْمِ: 53/39-40).
[1] صحيح البخاري، المناقب، 25؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 208-209.
[2] صحيح البخاري، الشهادات، 9، الرقاق، 7؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 212.
[3] كتب المؤلف هذا قبل تحرر هذه البلدان من الاستعمار الروسي. (المترجم)
[4] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/114-115.
[5] صحيح البخاري، الشروط، 15؛ ابن هشام: السيرة النبوية، 3/328؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 4/175.
[6] سنن أبي داود، الأدب، 151؛ مسند الإمام أحمد، 36/515.
[7] صحيح مسلم، الجهاد والسير، 86؛ مسند الإمام أحمد، 16/555.
[8] صحيح البخاري، الجنائز، 36؛ صحيح مسلم، الهبات، 5.
[9] صحيح البخاري، الجهاد والسير، 119؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة 31؛ مسند الإمام أحمد، 3/160.
[10] ابن الأثير: أسد الغابة، 4/251.
[11] ابن الأثير: أسد الغابة، 6/178.
[12] مسند الإمام أحمد، 31/287؛ الطبراني: المعجم الكبير ، 2/38؛ الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 4/468.
[13] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 3/369؛ ابن عساكر: تاريخ دمشق، 16/59.
[14] انتصر العثمانيون في هذه المعركة وهي معركة “كوسوفا” الشهيرة تحت قيادة السلطان مراد الأول ضد الجيش الأوروبي المتألف من البلغاريين والصرب والبولنديين؛ وبعد انتهاء المعركة تجول السلطان مراد في ساحة المعركة فقيل له إن أحد نبلاء الصرب يرغب في إشهار إسلامه أمامه وإنه ضمن الجرحى فذهب السلطان إليه، ولكن كان هذا الأمرُ خدعةً من هذا النبيل الذي قام بِطَعْنِ السلطان بخنجرٍ كان يخفيه بين ملابسه، وهكذا استشهد السلطان مراد الأول. (المترجم)