Reader Mode

سؤال: هل هناك اختلاف بين حبِّ نبينا صلى الله عليه وسلم لأمَّته وحبِّ الأنبياء الآخرين لأممهم؟ وما مدى حبِّهِ صلى الله عليه وسلم لأفرادِ أمَّتِه؟

الجواب: السؤال يشتملُ على بضع مسائل أُولاها: التعرُّف على الفرقِ بين محبَّة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وبين محبة الأنبياء الآخرين لأممهم، ثم معرفة مدى محبّة سيد العالمين عليه الصلاة والسلام لأفرادِ أمَّتِهِ.

لا شكَّ أن كلَّ نبيٍّ من الأنبياء عليهم السلام يُحِبُّ أمَّتَهُ، وقد يقصد بهذا الحبِّ أحيانًا المحبة، وأحيانًا أخرى الشفقة، وكلتاهما تتبوَّأُ أعلى مرتبة لدى الأنبياء، لكن كما أن هناك تفاوتًا في الدرجات بين الأنبياء فكذلك هناك تفاوتٌ بينهم في المشاعر والأفكار، وبناءً على هذه الحقيقةِ نجدُ أن المحبَّةَ التي تفيض بها قلوب جميع الأنبياء هي في درجة أرقى وأعظم لدى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وخيرُ شاهد على ذلك أن الله عزَّ وجلَّ وهو يتحدَّثُ عن محبَّتِهِ صلى الله عليه وسلم وصفه باسمين من أسمائه فقال: ﴿رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 9/128)،  فهو مُعَلِّمُ الشفقة والحبِّ للمؤمنين.

إن النبي صلى الله عليه وسلم يفيضُ قلبُهُ شفقةً ومحبَّةً لأمَّتِهِ؛ لدرجةِ أنه يقول يوم القيامة والناس يموجون بعضهم في بعض: “أمَّتي أمتي”[1]، رغم أن الجميع بمن فيهم الأنبياء والأولياء يقولون “نفسي نفسي”[2].

لَكَمْ كانت شفقتُهُ عظيمةً ومحبتُه بالغةً! لدرجة أنه رجعَ عن القمَّةِ التي ارتقاها في رحلةِ المعراج، وعن المقام السامي الذي لم يَصِلْ إليه أحدٌ سواه؛ حتى يأخذ بِيَدِ أمَّتِهِ إلى طريقِ النجاة، فيجعلهم يتذوَّقون حلاوةَ هذا المعراج، بينما هو يتجرَّع الآلام.

إنها شفقةٌ جعلت الملَك يتألم ويستشيطُ غضبًا ويقول لنبينا صلوات ربي وسلامه عليه: “إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟”، لما رأى هؤلاء السفهاء يضربونه بالحجارة حتَّى أسالوا دمَهُ الشريفَ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا”[3].

إن شفقتَهُ ومحبَّتَهُ صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى عظيمةٌ لدرجةٍ لا يمكنُ مقايسَتُها مع شفقةِ أو محبَّةِ أيِّ نبيٍّ آخر.

وتاريخُ حياتِهِ صلى الله عليه وسلم كَنَسِيجٍ حِيكَ بمئاتٍ من أمثلةِ الشفقةِ والرحمة، أما الناحية الروحية للمسألةِ فليسَ بالإمكان أن نستوعبَها.

وأنوه هنا قبل الانتقال إلى مسألة الحبّ بين أفراد أمَّتِهِ صلى الله عليه وسلم بقاعدةٍ ساريةٍ على جميع الأنبياء: وهي أن كلَّ نبيٍّ يحبُّ على الأكثر من أمَّتِهِ الوارثين لنبوَّتِهِ، وهذه قاعدةٌ عامّةٌ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج عن هذه القاعدة؛ لأن غاية وجودِ جميعِ الأنبياء هو تبليغ معاني النبوة، فلم يتركوا لِلْخَلَفِ تركةً من مالٍ ومنصب، أما التركةُ الوحيدةُ التي تركوها لهم فهي الدين ومبادئه، ولا ريب أن من سيحمي هذا الدين هم أكثر قربًا وحبًّا للأنبياء كل حسب درجة أسبقيّته، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي”[4].

وهذا التوجه لأهلِ البيت ليس بسببِ القرابةِ فقط، بل هناك سرٌّ دقيقٌ في هذا الأمر، وبناءً على هذا السر يوجِّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظارَنا إلى أهل البيت؛ لأن أهلَ البيت النبويِّ بحكم فطرتهم يحمون ويرعون كتاب الله وسنَّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن رعايتهم في العهود التي تليه هي في الوقت ذاته رعاية وحماية لهذا الدين، وبناءً على هذه الحكمة لفتَ نبينا صلى الله عليه وسلم أنظارَنا على الأكثر إلى أهل البيت.

ومن ناحية أخرى يُعَدُّ سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين الوارثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تمثُّلِ دعوته وحماية معنى النبوَّة، بل هم الوارثون الحقيقيُّون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وانطلاقًا من هذه النقطة نجد أن الصحابة الكرام هم أوَّل من حازوا قصبَ السَّبْقِ في حمايتهم ورعايتهم ومؤازرتهم لدعوةِ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خَلَفَهُم أهلُ البيت الذين انحدَرُوا من هذا النسلِ الطاهر وتمثّلوا الإسلام في عصرهم على أكمل وجه، ووهبوا الحياة للقلوب، وكانت الأولوية بالطبع للحياة الدينية وخدمة الدين؛ ولذا يُعَدُّ كلّ الوارثين لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في أيِّ عصرٍ كان؛ هم من أهل البيت وأقرب المقربين له.

ومن ثم فليسَ من الخطإ أن يقال إن المؤمنين الذين كرَّسوا حياتهم لِأَداء الخدمات الدينيّة في عصرنا الحالي هم وارثو النبوَّة؛ لأنهم وارثون لدعوى النبوة، وإذا ما نظرنا إلى المسألة من هذه الناحية ما ألفينا اختلافًا بين سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وغيره من الصحابة، لأنهم جميعًا وارثوا دعوى النبوة، لكن لو اجتمعت كلُّ الأمة في الفضيلة الخاصَّةِ ما استطاعت أن تُساوي أبا بكر رضي الله عنه.

وهذا يعني أن من عاشوا في عهده صلى الله عليه وسلم ومن عاشوا فيما بعد أيًّا كانوا سيصبحون أهلًا  لمحبته صلى الله عليه وسلم بقدر رعايتهم لدعوى النبوة وحمايتهم لها.

وهكذا فبناءً على الآية الكريمة التي تقول: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاَغُ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 5/99)؛ تُعَدُّ مهمة التبليغ هي الوظيفة الوحيدة الملقاة على عاتق الأنبياء، وهي الوظيفة الملقاة أيضًا على عاتق المؤمنين الذين جاؤوا من بعده صلى الله عليه وسلم ويعتبرونه مرشدًا لهم؛ وهذا يعني أن وظيفَتَنَا نحن أيضًا هي الاقتداء به والتبليغ ليس إلّا، وعلى ذلك فنحنُ نعتبر أنفسَنَا أكثر الناس حظًّا في هذا العالم لتبعيَّتِنا له صلى الله عليه وسلم.

وهنا أيضًا ألفتُ أنظاركم إلى وجهةٍ أخرى للمسألة:

إن وضعَ وارثي النبوَّة ممَّن رأوا الحبيبَ المصطفى صلى الله عليه وسلّم يختلفُ عن وضع من لم يَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فالأوَّلون قد شاهدوا نورَ نبوته صلى الله عليه وسلم، ونشؤوا في كوكبه المنير، واستضاؤوا بنوره، ووقفوا على كلِّ أحواله، وعاشوا في جوٍّ كان يتنزل فيه الوحي مرارًا وتكرارًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشعروا شعورًا بالغًا بدفءِ الوحي، رباهم الأستاذ والمعلم الجليل صلى الله عليه وسلم، فأبدى لهم محبَّةً واهتمامًا خاصًّا أكثر من غيرهم، وأعزهم ورفع من شأنهم، ولعل استلطافه صلى الله عليه وسلم لهم بقوله: “مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ”[5]، “مَثَلُ أَصْحَابِي مَثَلُ النُّجُومِ، مَنِ اقْتَدَى بِشَيْءٍ مِنْهَا اهْتَدَى”[6]، هو أفضلُ تعبيرٍ وأعظمُ أسلوبٍ يليقُ بمن اجتمعَتْ فيه كلُّ صفاتِ الكرم عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا أكثر الناس حُبًّا له بين البشرية، وقد بادَلَـهُم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحبَّ وأحبهم هو أيضًا.

فضلًا عن ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بقولِهِ هذا قد لقّن القادة والساسة الذين يأتون من بعده ويسوسون الناس درسًا حكيمًا، ورسم لهم منهجًا خاصًّا يسيرون عليه، فلا بد أن يُقدَّم مَن يقفون ويكافحون في الصفوف الأمامية في كلِّ عصرٍ ومصرٍ، ويُفضَّلوا على غيرهم.

وهذا دَينٌ علينا أن نوفيه، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم من هذه الجهة يتربَّع على القمة بين الناس، فلا يمكن أن ترى إنسانًا آخر أوفى منه صلوات ربي وسلامه عليه.

روي عن عَمْرو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، “أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلاَسِلِ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: “عَائِشَةُ”، فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: “أَبُوهَا”، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: “ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ” فَعَدَّ رِجَالًا”[7].

وأظن أنه لا داعي هنا لإيضاح الفرق بين الحُبِّ وتحمُّل الوظيفة، كان صلى الله عليه وسلم ذا فطانة لا مثيل لها في استخدام كلِّ شخصٍ في موقعِهِ المناسِبِ، وأين وكيف يستخدم هذا الشخص، ولا نكاد نجدُ حادثةً أثبتَها التاريخُ تخالفُ ما ذكرناه، ولا ريبَ أن الشخص الذي يعهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأيِّ وظيفة فإنّه من أفضل من يُمَثِّلُون هذه الوظيفة.

وكما اصطفى الله تعالى سيِّدَ الكونين صلى الله عليه وسلم من بين الخلق اصطفى أيضًا صحابته، وهذا يعني:

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحلّى بخصال النبوة منذ ولادتِهِ؛ لأن كلَّ تصرفاته وسلوكياته في مرحلة الطفولة كانت بمثابة تدعيم لموقفه فيما بعد.

فمثلًا لم يحدث أن كشفَ النبي صلى الله عليه وسلم عن أعلى ركبتيه إلّا مرة واحدة في وقت كان أهل الجاهلية يطوفون عراةً حول الكعبة كما ولدتهم أمهاتهم، وفي هذه الواقعة الوحيدة جاءه الملك ونبَّهَهُ؛ ومن ثم كان اسمه عليه الصلاة والسلام هو أول الأسماء التي تخطر على البالِ عند الحديث في مكة وما حولها عن العفَّة والشرف والحياء حتى قبلَ أن تُسند إليه مهمة الدعوة.

كان صاحب عصمة، لم يرتكب ذنبًا قطّ، ولم يبزّه أحد في الوفاء بالوعد والصدق والأمانة، حتى كان يلقَّبُ بالصادق الأمين، عاش حياةً غايةً في النقاء والطهر، ولم يلتفت إلى هذه الدنيا بتمامها، ويا لها من كلمات ذات مغزًى عميق؛ تلك التي خاطبه بها أقرب أصحابه إليه سيدنا أبو بكر رضي الله عنه عندما رأى وجهه الأزهرَ الأنورَ، وجسده المبارك المسجّى: “فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا”[8]، بهذه الجملة استطاع سيدنا أبو بكر رضي الله عنه أن يُلخِّص حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدايتها إلى نهايتها.

ببراءة طفل فتحَ نبينا عليه الصلاة والسلام عينيه على الدنيا، وبحياته الراقية بلغ براءة الملائكة، ثم ارتحل إلى الآخرة  في علوّ شأنه وسموّ ذروته بشكلٍ لا يستوعبه عقلٌ.

من أجل ذلك لم يستطع مشركوا مكة أن يقحموا بين افتراءاتهم التي لا تنتهي ولو كلمة واحدة تنالُ من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم أنهم كانوا يفترون عليه افتراءات لا يقبلها أي عاقل، فمثلًا قالوا عليه: ساحر وشاعر، لكن ما استطاع أحد أن يعزوَ إليه الكذبَ أو المكرَ أو غير ذلك حاشا وكلا، وكأن الله عز وجل ألجمَهم وكمَّمَ أفواهَهم بأخلاقِ رسولهِ الطاهرة.

 لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم لِيُمَثِّلَ دعوةً عظيمةً، وكما خلقَهُ ربُّهُ تبارك وتعالى خلقًا خاصًّا، خَلَقَ أمَّتَهُ وصحابَتَهُ وأَخِلَّاءه خلقًا عظيمًا، وعلى صورةٍ تمكِّنُهم من القيام بأمر هذه الدعوة، حيث إنهم سيكونون أولَ من يحملونها على عواتقهم. أجل، لقد كان هؤلاء الصحابة مصطَفَين أخيارًا.

تأملوا في خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي شَهِدَ غزوة مؤتة ولم يكدْ يمضي على إسلامه أكثر من شهرين، شارك جنديًّا في هذه المعركة، فلم يكن اسمُهُ ضمن القادة الذين عدَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد بن حارثة، وجعفرُ بنُ أبي طالب، وعبد الله بنُ رَواحة، لكنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ؛ قَالَ: “أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ” ثمَّ قال وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ: “حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ”[9].

كان عدد المسلمين يوم مؤتة ثلاثة آلاف مقاتل، أما جيشُ الروم فكانوا يفوقونهم بستة وستين ضعفًا، أي كان عددهم مائتي ألف مقاتل، فتردَّدَ البعض وقالوا: ما كنا نتوقع أن نواجه عدوًّا بهذا العدد، فلنرجع إلى المدينة، فصدَّهم زيد بن حارثة، فما كان له أن يرجع ألبتة عن أمرٍ كلَّفَهُ به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان دومًا طيلة حياته، لقد تجسَّدَتْ فيه الطاعة كلُّها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عرض عليه سيد الكونين صلوات ربي وسلامه عليه أن يتزوج بأم أيمن التي كانت في سنّ أمه، أذعن دون تردُّدٍ لِطَلَبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جعل من جسده ترسًا يدفع الحجارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطائف، وها هو اليوم قد أصبح قائدًا للجيش، ورغم ذلك لم يتغيَّرْ جوهره وإن تغيرت طبيعة عمله، كان طائعًا على الدوام، يزأرُ كالأسد، ولا يتخلف عن معركة مهما كان عددُ الأعداء فيها وعتادهم؛ لأن من أمرهم بهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

استمرَّت المعركة طوال ستة أيام، وفي اليوم السادس استشهد قادة الجيش الإسلامي بأكملهم واحدًا تلو الآخر.

وكانت الراية على وشك أن تقعَ على الأرض، غير أن أحد الجنود تلقَّفَها، وأخذ يبحث عن شخصٍ جدير بها، فلما رأى خالد بن الوليد أعطاها له، فلم يرض خالد قائلًا: “لقد أسلمتَ قبلي، فأنت أجدرُ مني بها”، غير أنه اضطر في النهاية إلى أن يقبل الراية بسبب الإصرار الشديد.

في الواقع كان النبي صلى الله عليه وسلم يروي لأصحابه في المدينة ما جرى في مؤتة. أجل، كان يروي وهو يجهش بالبكاء.

قام خالد بن الوليد بعمل بطولي في ذلك اليوم، وإن قال البعض بأن معركة مؤتة قد أسفرت عن هزيمة لا عن نصر، إلا أننا نقول إن مؤتة كانت ملحمةً ونصرًا؛ وقد جعل الله هذا النصر على يدِ خالدٍ رضي الله عنه.

قسّم الجيشَ في تلك المعركة إلى سبع أو ثماني سرايا، وبدّل الأجنحةَ، وجعلَ الميمنةَ ميسرةً والميسرةَ ميمنةً والمقدِّمة مؤخرةً والمؤخرةَ مقدمةً، علاوة على ذلك كلّف بعض المجموعات بأن يتّجِهوا خفيةً صوب المدينة، وفي الليل يرجعون وهم يقرعونَ الطبول ويثيرون الغبار حتى يوهموا العدو بأن مددًا جديدًا قد جاءهم من المدينة.

فنفّذ المسلمون كلَّ ما قيلَ لهم، وفي اليوم التالي كان من الصَّعبِ على جيشِ العدوِّ أن يدركَ ماذا جرى، فلقد تبدَّتْ لهم وجوهٌ غير التي يعرفونها، وخاصة أن من جاؤوا من ناحية المدينة في صورة عرض عسكري قد أنهكوهم كثيرًا، ودمَّروا حالتَهم النفسيَّة.

وفي اليوم التالي امتطى خالد بن الوليد صهوةَ جوادِهِ، وأغار على مركزِ العدو، لا يأبه ولا يلوي على شيءٍ، انتبهوا جيِّدًا.. لم يمض على إسلامه إلا شهران، فما الذي عرفه وتعلمه خلال هذه المدة القصيرة حتى بلغ هذا المستوى.

طبَّقَ الجيشُ على أكمل وجه الإستراتيجيَّةَ الحربيَّةَ التي رسمَها خالد بن الوليد رضي الله عنه، وتتابَعَ مجيءُ من أسكَنَهُم خالد في المؤخرة كما أمرهم، فاهتزّ العدوُّ بِشِدَّةٍ، وبدأ في الانسحاب، فاقتنصَ خالد رضي الله عنه الفرصةَ وجمعَ جيشَهُ على الفور، وعاد به إلى المدينة، إلا أن الخوفَ قد بدأ يدبّ في أوصال العدوِّ ظنًّا منه أن ذلك الانسحاب ما هو إلا تكتيكٌ حربي، ولذا لم يجرؤْ على ملاحقة جيشِ المسلمين.

لقد ذكرتُ خالد بن الوليد رضي الله عنه هنا كمثالٍ واحد فقط من بين آلاف الأمثلة، أضيفوا إلى ذلك هؤلاء الخلفاء الذين كانوا يتمتَّعون بقابليَّات كبيرة وأداروا العالم من بعده، وعمرَو بن العاص الذي يشهد له الجميع بالدهاء السياسي، وقادةَ الجيوش، أو هؤلاء رهبان في الليل فرسان بالنهار، أو الذين يهرولون من ساحةِ حربٍ إلى أخرى وهم يحملون أرواحهم على أكفِّهم، فإن تخيَّلْتُم ذلك ستُسلِّمون تمامًا وتؤمنون بعين اليقين بأن هؤلاء كانوا كرسول الله صلى الله عليه وسلم أناسًا مصطفَين، وأنه من المستحيل أن نجدَ أحدًا ممن أتى بعدهم يشابههم أو يصلُ إلى مستواهم.

ولذا فضّل المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الجماعة المصطفاة المؤازِرة له على غيرها، وكان ينظر إليهم على أنهم الوارثون الحقيقيون له.

وبذلك نصِلُ إلى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ الذي هو مثال الوفاء لم يكن لينسى أمَّتَه.. وهل يمكن لهذا النبي الوفي وإن مرَّتْ عصورٌ وعصور أن ينسى تلك الأمة التي تَشْرُفُ بأنها أمتُه وهو الذي لم ينسَ قطّ الحجرَ والمدَرَ الذي فتحَ لهُ صدرَه.

كان صلى الله عليه وسلم يزورُ قباءَ كلَّ يوم سبت؛ فهو أوّلُ مكانٍ استضافه عندما رحل من مكّة، وفتحَ له صدره، وقال له: “امكث هنا يا رسول الله” وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يؤدِّي دين الوفاء لهذا المكان بزيارتِهِ له كلَّ أسبوع.

كما كان عليه الصلاة والسلام يزورُ “أُحُدًا” في أوقات معتادة، ويسكب العبرات من أجل صحابته في البقيع، وفي آخر زيارة بكى عليه الصلاة والسلام وقال: “السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا” قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ”[10]. فإخوانه هم من حملوا على كاهلهم مهمة إعلاء كلمة الله في هذا العصر؛ لأن الصحابة كانوا أصدقاءه، أما إخوانه فهم من أتوا من بعده وبايعوه دون أن يروه، وعملوا ليل نهار في سبيل تبليغ دعوته، وتحملوا كل صنوف المعاناة والآلام في هذا السبيل، فاستحقوا بأن يكونوا وارثي النبوة.

ربما كانت هذه العبارات مدحًا من رسول الله عليه الصلاة والسلام لتلك الأرواح التي نذرت أنفسها في سبيل الحق، وتآخت فيما بينها، واتخذت الفناء في الأخوة شعارًا لها، فعلى المخاطبين بهذا المديح أن يظهروا جدارتهم به ويفعلوا ما يليق بهم مع الاستشعار الكامل بالوظيفة التي يحملونها.

أما غير ذلك فهو ما يسبب الكدر والحزن لهذه الروح العظيمة.

إن هذه الأرواح المؤمنة قد أدّت بفراستها الخاصة الوظيفة المنوطة بهم في عصرها، والآن على إنسان هذا العصر أيضًا أن يؤدِّي الوظيفةَ نفسَها بالشعورِ نفسِهِ.

[1] صحيح البخاري، التوحيد، 36.

[2] صحيح مسلم، الإيمان، 327.

[3] صحيح البخاري، بدء الخلق، 7؛ صحيح مسلم، الجهاد والسير، 111.

[4] سنن الترمذي، المناقب، 103.

[5] ابن أبي شيبة: المصنّف، 6/405؛ البزار: المسند، 12/155؛ الطبراني: المعجم الكبير، 12/142.

[6] القضاعي: مسند الشهاب، 2/275.

[7] صحيح البخاري، المناقب، 34؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 1.

[8] صحيح البخاري، المناقب، 33.

[9] صحيح البخاري، المغازي، 46.

[10] صحيح مسلم، الطهارة، 39؛ سنن النسائي، الطهارة، 112.

فهرس الكتاب