سؤال: إننا ندعو الله قائلين: “اللهم اجعلنا من الصابرين”، فهل في الدعاء بالصبر طلبٌ ضمنيٌّ للبلاء؟
الجواب: الصبر هو قوَّةُ تحمُّلٍ لدى الإنسان؛ بمعنى أن الإنسان يكشفُ بالصبر فحسب عن إرادته، وينال به ماهيةً وكيفيةً تُبرِزُ القوة الكامنة في روحه.
والصبر من حيث الأمور التي لا بدّ من المثابرة عليها، له أنواع متعددة، والصبر على هذه الأمور بمثابة درجات لتكامل الإنسان ورقيه وسموه حتى يكون إنسانًا كاملًا، ومن بين هذه الأنواع:
أولًا: الصبر على الطاعات؛ يقول سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم: “أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ”[1]، فهذه الأعمال الدائمة تُحدث تأثيرًا لدى العبد كما يُحدث الماء المستمرُّ تأثيرَه في الرُّخام.
ولقد سألَ أبو سلمة عَائِشَةَ عَنِ الركعتين اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَتْ: “كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا، أَوْ نَسِيَهُمَا فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا”[2]، وبعيدًا عن الآراء المختلفة لأئمة المذاهب حول هذه المسألة؛ فإنَّنا نُدْرِكُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم -سيِّدَنا وسيدَ البشر أجمعين- لم يكن يشرعُ في شيءٍ حتى يواظب عليه إلى نهايته، وهذا كان دأب الصحابة رضوان الله عليهم أيضًا.
أجل، كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابه التعبُ يومًا ولم يستطعْ أن يتعبَّد ليلًا ضاعفَ من كمِّية العبادت نهارًا؛ بمعنى أنه لو كان يواظِب ليلًا على ثماني ركعات ففاتَه ذلك لعلّةٍ ما؛ فإنّه يُصلّيها ستة عشر ركعة نهارًا، وهكذا..
أجل، كان صلى الله عليه وسلم لا يدع أمرًا بدأه ألبتة حتى آخر حياته، وفي هذا الصدد قالت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها: “مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا”[3].
وإن صلَّى خلفه صلوات الله عليه أناسٌ أحسَّ فيهم الضعفَ والعجزَ كان يأخذهم بعين الاعتبار ولا يشق عليهم، فهو منبع الرحمة الذي يؤثر الآخرين على نفسه، وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه: “إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ”[4].
يا الله! ما هذه الشفقة! وما تلك الرقة! فيا لِسعدنا وحظِّنا أن يكون رسول الله نبينا من بين جميع المرسلين وإن كنا لم نعرف قدره حق المعرفة! أجل، تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: “فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ”.
فلقد كان صلى الله عليه وسلم شديد التعمق في عبادته لربه، ولم تؤثِّر قط الشيخوخة ولا المتاعب ولا المصائب التي تقصم الظهر في الرقة والتعمق اللتين تتَّسم بهما عبادته، لله عز وجل، بل كلما اشتدت تلك المصاعب والمصائب زادَ تعمقه في أداء وظيفة العبودية إلى الله تعالى، ولقد رُوِيَ عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان في آخر حياته السنية يؤدي جزءًا من صلاة النوافل الطويلة وهو جالس، كان يطيل فيها من قراءة القرآن، فإن أراد أن يركع قام أولًا ثم ركع، لكنه ظل طوال حياته يصلي الفرض قائمًا باستثناء حالة أو اثنتين؛ وهي في الأوقات التي سقط فيها مغشيًّا عليه لتفاقم مرضه صلوات الله عليه…
وفي بعض الأحيان كان يتلو آيات القرآن في صلاته قاعدًا، فإن بقيت ثلاثون أو أربعون آية من الوِرد الذي عقد العزم على إتمامه في صلاته نهض وقرأ بقية هذا الوِرد وهو قائم، ثم ركع؛ لأنه منذ البداية وهو يؤدي عبادته هكذا، ويرغب في أن يؤدي عبادته على نفس المستوى وذات المنوالِ دون أن يُفسد هذه العلاقة الوطيدة بينه وبين ربه.
وعلى ذلك فالصبر على العبادة والطاعة من هذه الناحية أمرٌ مهمّ للغاية، والصابرون على هذا الأمر هم في مرحلة مهمّة من الرقي.
ثانيًا: الصبر على المعصية، وهذا الصبر له أهمّية كبيرة بالنسبة لشبابنا اليوم خاصة؛ لا سيما في هذا العهد الذي تحوَّلَتْ فيه الشوارع إلى قنوات تجري فيها الذنوب التي خالطت قلوبَنا بواسطةِ النظَرِ فَجَرَحَتْ أفئدَتَنا، إن الصبر على المعصية وعدمَ ارتكاب الذنوب والتصدي لها أمرٌ في غاية الأهمّية، وهذا النوعُ من الصبر بمثابة معراجٍ آخر لرقيّ العبد، ومن يستغلّ هذا المعراج قد يَصِلُ إلى عرشِ الكمالات.
ثالثًا: وهو أشدّ أنواع الصبر؛ الصبر على المصائب، يعني صبر الإنسان على ابتلاءِ الله له.
رابعًا: الصبرُ على زينة الدنيا ومفاتِنِها وعلى الشهوات التي تتطلَّع إليها النفس، وهذا أقصر طريق إلى البطولة المعنوية في الصبر.
خامسًا: الصبر على الألطاف المادية والمعنوية، وهذا لا يتأتَّى إلا للناس الكاملين فقط.
وجاء في السؤال: هل في طلب الصبر طلبٌ ضمنيٌّ للبلاء؟ وإجابة على هذا نقول: إذا كان الدعاء مقتصرًا بالصبر على البلاء فقط فاللهمَّ نَعَم، يقول أهل التحقيق: إن طلبَ الصبر قبل وقوع البلاء يأتي بمعنى طلب البلاء، لكن ثمة أمر مهمٌّ لا بدّ ألا يغيب عن وعينا وهو أن الصبر كما أوضحنا في البداية لا ينحصر في الصبر على البلاء فقط، ومن ثم فعلينا أن نقول: “اللهم ألهمنا الصبرَ على العبادات والطاعات، ولا تجعَلْنا ننفكُّ عنها، اللهم صبِّرنا على المعصية، اللهم حبِّبْ الطاعات إلى أرواحنا وقبِّحْ المعاصي إلى نفوسنا”، فمثل هذا الدعاء لا علاقةَ له بِطَلَبِ البلاء.
وجميع هذه المعاني كامنة في الدعاء بالصبر، ولا مانع مطلقًا من الدعاء بالصبر عليها جميعًا، ولكن إن كان الدعاء بالصبر على البلاء قبل نزوله فكأنه دعوة لنزول البلاء كما بينه أهل التحقيق، وانطلاقًا من ذلك يرى أهل التحقيق أنه ليس من الصحيح طلب الصبر على البلاء قبل وقوع البلاء -أعاذنا الله منه بفضله وكرمه-.
[1] صحيح البخاري، اللباس، 44؛ صحيح مسلم، صلاة المسافرين، 218.
[2] صحيح مسلم، صلاة المسافرين، 298.
[3] صحيح البخاري، المناقب، 24؛ صحيح مسلم، صلاة المسافرين، 125.
[4] صحيح البخاري، الأذان، 65.