سؤال: ما الذي يجب أن نفهمه من مدلول كلمة “العدل”؟
الجواب: العدل هو التوسُّطُ بين الإفراطِ والتفريطِ، أي هو طريق متوازن بين الإفراط وعدم المبالاة.
والعدل هو استخدام جزءٍ من القابليّات الكامنة في ماهيّة الإنسان في الجهة التي حدَّدها الخالق جلَّ وعلا لِتكونَ وسيلةً لِخيرٍ جمٍّ. أجل، فإن وُجِّهَت القوى والقابليات العديدة للإنسان كالشهوة والغضب والوهم والعقل توجيهًا جيِّدًا وسُيِّرت في مسارها الصحيح ظهرَ العدل، أما إن تمَّ الميلُ نحو الإفراطِ أو التفريط فظهورُ الانحرافاتِ محقَّقٌ.
لنتناول الشهوةَ مثلًا فهذه الغريزة في معناها العام هي الشعورُ بالرغبة إلى الأشياءِ التي تؤمِّن استمرارَ حياةِ الفردِ والحفاظ على النوع الإنساني، ومن العواملِ التي يستطيعُ الإنسان أن يحفظَ بها صحَّته ووجودَهُ الجسماني تناولُ الطعام والشراب وما سواهما من الأمور التي تُعَدُ من جوانب هذه الغريزة، فإذا ما نَظَرْنا إلى هذه الغريزةِ خارجَ هذا الإطار فإما أن نراها عائقًا في الطريقِ الموصِلِ إلى الكمالِ الإنساني ونتجنَّبها تمامًا كما يفعل القساوسة في الكنيسة، وهذا من التفريط وعدم المبالاة، أو أن ننظر إليها بتلك النظرة المنحطَّة التي تُبيح كلَّ العلاقات وتراها مشروعةً دون التزامٍ بقيدٍ أو شرط، وهذا من الإفراط وتجاوز الحدود الذي نراهُ في أيامنا.
والغضب هكذا أيضًا، فيه إفراطٌ وتفريطٌ، إفراط عند من يغضبُ ويثورُ لِأَتْفَهِ الأمور، وتفريطٌ عند من لا يُحرك ساكنًا وإن أُهينت مقدساتُه وانتُهكت أعراضه ودُنِّس شرفه، أما العدلُ فهو الغضب والثوران أمام الكفر والظلم والجور، وفي المقابل اللجوء إلى الصبر والمسامحة واللين في المواضع التي يمكن أن يؤدي فيها الصبر واللين إلى خير عميم.
والشيء نفسه يحدث في الوهم أيضًا، فتوهُّم ما يستحيل وقوعُهُ والخوفُ منه والقلق عليه إنَّما هو إفراطٌ يُحوِّل الحياة إلى جحيم، أما عدمُ الخوف وعدمُ القلق مما يجب الابتعادُ عنه والخوفُ منه فهو تفريطٌ، فالأول تُسيطر عليه فكرة الخوف من كل شيءٍ في الكون وإسنادُ الألوهية لكلِّ شيءٍ، وهذا ما يُشاهَدُ في منطقة نهر “الغانج”، إذ إنَّ فيها أصنامًا وأوثانًا عديدةً كان الخوفُ والقلقُ وراءَ وجودها، أما الآخر فهو عدم الخوف من أيِّ شيء في الأرض ولا في السماء وهو نوع من الجنون يجرّ صاحبه ومن معه إلى الظلمات، أما العدل فهو اتخاذ التدابير والاحتياطات في الأمور المهمّة ورعايتها، وعدم إعطاء أهمية أكثر مما تستحقّ في بعض الأمور الباعثة على القلق.
ويمكن سردُ الملاحظات المشابهة بالنسبة للعقل أيضًا، فإن إغفالَ المشاهدة ونتاجات الحواس والاعتمادَ على العقلِ فقط إفراطٌ، أما إهمالُ العقل تمامًا والانغماسُ في “فلسفةٍ وضعيَّةٍ (Positivism)” مفرطةٍ أو الاعتماد على الضمير فحسبُ وإنكارُ كلِّ شيءٍ وراءه فهو تفريطٌ، ففي الحالة الأولى نَجِدُ مواربات علماء المنطق السابقين وجدليَّات المادّيين الحاليّين، وفي الثانية نجد وضعيَّة الفيلسوف “أوغست كونت” (1798-1857م) والروحانية المسيحية.
أما العدلُ في التفكيرِ والعقلِ فهو الوصولُ إلى تراكيبَ جديدةٍ من خلال الاستفادة من نتاجات الحواس والمشاهدات، ومحاولةُ فهم الأشياء التي لا تدخلُ في إطار الحواس والمشاهدة.
أما استقامة العقل فلا تتحقق إلا تحت الأطياف النيّرة للوحي، وعقل يولّي ظهره للنسمات الإلهية محكوم عليه بأن يكون فرعونًا من صنعِ غرورِ فلسفةِ “أرسطو”، أو شخصًا عاجزًا محصورًا بين جدران الكنيسةِ كذبابةِ الشتاءِ.
وكما أن العدل أساسٌ في الحواسِّ التي نملكُها؛ فهو أساسٌ أيضًا في جميع الأمور التي كُلِّفْنا بها، ومن جملةِ هذه الأمورِ الاعتدال في العقيدة، وفي المقدمة التصديقُ بوجودِ الله واتِّصافه بجميع صفات الكمالِ وتنزيهُهُ عن أيِّ نقص، وكما أن إنكارَ وجودِهِ وعدمَ الاعتراف بصفات كمالِهِ يُعَدُّ إلحادًا وتعطيلًا؛ فكذلك يُعَدُّ الاعتقادُ بأن الله “جسمٌ وجوهرٌ ومؤلَّفٌ من أعضاء ويشغلُ حيّزًا في المكان” تشبيهًا وكفرًا، أما الاعتقاد بأن الله موجود ويتصف بجميع صفات الكمال وهو منزَّهٌ عن الجسمِ والجوهرِ والأعضاءِ والآلات، وهو فوق الزمان والمكان ومستغنٍ عنهما فهو عدلٌ وطريقٌ وسطٌ بين الانحرافَين السابقين.
ويمكن تناول المسائل الأخرى للعقيدة على نفس المنهج، فمثلًا يعدّ من الجبرِ القولُ بـ”أن الإنسان لا يملك قدرة ولا مشيئة ولا إرادة”، كما يعدّ من قبيل الإراديّة المفرطَةِ القول بـ”أن الإنسان هو صانعُ وخالقُ كلِّ ما يصدُرُ عنه من أمور”، والقول الوسط هو قبول الإرادة الإنسانيّة كالشرط العادي ولكن على أساس أن الله تعالى خالق كلِّ شيء، فهذا هو العدل.
إننا نشاهدُ موضوعَ العدلِ في الحياةِ العمليّة أيضًا، فالعدلُ هنا قبلَ كلِّ شيءٍ هو تناولُ جميعِ شؤونِنا بوجهٍ عام في إطارٍ من التوازن بين الروح والجسد، وبين الدنيا والعقبى، فإن كانت الجسمانيّة بعيدة عن الحياةِ القلبيّة وعن الآخرة فهي مادِّيَّةٌ مُفْرِطَةٌ، أما الحياةُ الروحيّة القائمةُ على إنكارِ الجسد فهي تفريط، أما التوازنُ بين هذين الأمرين فهو الطريق المستقيم.
فإن كانت اليهودية تمثل أحد هذين الأمرين أو الأساسين؛ فإن النصرانية تمثِّلُ الأمرَ أو الأساسَ الآخر، فمثلًا نرى في الدين اليهودي إن قُتل إنسان عمدًا فيجب قتلُ القاتلِ حتمًا[1]، أما في المسيحية فيجب العفو عن القاتل[2]، هنا نجدُ إفراطًا في أحدهما وتفريطًا في الآخر، أما العدلُ فهو تطبيق القصاص مع الاحتفاظ ببابِ العفوِ كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/178)[3]، ومن الممكن إظهار ذلك في الحياة العملية والنظرية.
أما العدالة الاجتماعية التي كثيرًا ما طُرِحَت وأصبحت موضوع الساعة في أيامنا الحالية فهي جزءٌ فقط من مفهوم العدالة المنعكِس على الجانب الاجتماعي، فكما لا يمكن تصوُّرُ صدورِ إجحافٍ من أناس مستقيمين في الفكر والحياة العملية؛ كذلك لا يمكن أبدًا توقُّع حدوثِ أيِّ إجحافٍ اجتماعيٍّ وأيُّ بُعد عن العدالة الاجتماعية بينهم.
وربما يتساءل بعضهم عن مفهومنا للعدالة الاجتماعية، ولكن لا يمكننا طرحُ هذا الموضوع على صورةِ سؤال وجواب، ولا نرى حاليًا فائدة في تحليل هذه المسألة.
[1] انظر: العهد القديم، الخروج الباب 21، الآية 13-14؛ اللاديون الباب 24، الآية 17-22.
[2] انظر: العهد الجديد، إنجيل متى الباب 5، الآية 34-41؛ إنجيل لوفا الباب 6، الآية 27-36.
[3] انظر أيضًا: سورة المائدة: 5/45، سورة الإسراء: 7/33.