سؤال: ما “القلب السليم”؟
الجواب: كلمة “سليم” من الفعل “سَلِمَ”، وتجتمع مع كلمة “الإسلام” في نفس الجذر، والمعنى اللغوي للقلب السليم هو القلبُ الخالي من المرض ومن أيِّ عارض، أما المعنى الخاصّ له فهو القلب الذي لا يعرف سوى الإسلام.
ولكي يُصبحَ الإنسانُ ذا قلبٍ سليمٍ؛ عليه تطبيق أخلاق المؤمن الواردة في القرآن الكريم، وهذا تعريفٌ عام ويتضمَّنُ كلَّ شيء، فقد ورد في الحديث عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: “كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (سُورَةُ القَلَمِ: 68/4)”(1)، وقد نـزلَ القرآنُ لكي يُنَظِّمَ الرسول r حياته على ضوئه أولًا، ومن ثم تقوم الأمَّة باتباعِ إمامها وتُنَظِّمُ حياتها وفكرها وتصوُّراتها حسب ما ترى من نبيها، ثم إننا نرى أن القلبَ السليمَ هو القلبُ السالـمُ عن كلِّ ما يضرُّ الناس، ذلك لأنه وردَ في الحديث الشريف: “المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ”(2)، وهذا تعريفٌ خاصّ، لكنه في غايةِ الروعة، فيجب على المسلمِ ألا يمدّ لسانه ولا يدَه لإيذاءِ أيِّ شخص.
وقد ورد تعبير “القلب السليم” في القرآن الكريم في موضِعين وكلاهما متعلقان بإبراهيم، كان إبراهيم u متألمًا جدًّا من وضعِ قومه وانحرافهم وضلالهم ولا سيما من وضع أبيه “آزر” وكان اهتمامه بأبيه شيئًا طبيعيًّا وفطريًّا، ذلك لأن كل إنسان يحمل في فطرته حبًّا واهتمامًا بعائلته وأقربائه، ويزداد حبُّهُ كلما كان الشخص قريبًا إليه، ولا يوجد هناك ابن صالح يرضى الضلالة والانحراف لأبيه، بل يتألم من ذلك ألمًا كبيرًا، ولا سيما إن كان يحمل روحًا شفّافةً وحساسةً كروح أبي الأنبياءِ خليلِ الله إبراهيم، لذا كان إبراهيم u يتلوى ألـمًا بسبب أبيه.
كان إبراهيم u يدعو قومه وأباه إلى دين التوحيد، ولكنهم كانوا يعاندون ولا يستجيبون، بحجة أنهم رأوا آباءَهم للأصنام عابدين، وكان هذا العذرُ يرِد على الدوام على لسان كلِّ قومٍ وفي كل عهد عندما يريدون التهرُّب من الحقِّ والحقيقة، ولذا لم يجد ابراهيم أمام هذا العناد إلا أن يرفع يديه إلى ربه متضرِّعًا قائلًا: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ $ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ $ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ $ وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ $ وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ $ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ $ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 26/83-89).
كان إبراهيم u صاحب قلب سليم، والآية الكريمة ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ $ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (سُورَةُ الصَّافَّآتِ: 37/83-84)؛ تُثبتُ هذا المعنى، ولقد أثبتَ القرآُ الكريمُ في موضِعٍ آخر بأنَّ يوم القيامةِ هو يومٌ لا ينفعُ فيه مالٌ ولا بنون ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 26/89)، أي إن القلب الكافر لا يمكن أن يصل إلى شاطئ الأمن والسلامة في ذلك اليوم، فلو كان ابنُ الكافر نبيًّا في مقام إبراهيم u فلن ينفع أباهُ بشيء، ومع أن إبراهيم u هو خليل الله وأبو الأنبياء، حتى إن سيد الرسل كان يفخرُ بأنه يُشبهه. أجل، ما كان أبوه حنيفًا مسلمًا، ومع أن ابراهيم عليه السلام ليحظى بمكانةٍ رفيعة عند الله إلّا أنه ما كان بإمكانه أن ينفعَ أباه أبدًا.
فإذا ما نَظَرنا إلى موضوع “القلب السليم” من هذه الزاوية نكون قد فهمنا معناه بشكل أفضل، فالقلبُ السليمُ يجبُ أن يكون سالمًا من الكفر ومن الشِّرك ومن الشكِّ والريبة والتردُّد، وإن القلبَ المملوءَ كفرًا مَهْما تصرَّفَ صاحبُهُ بشكلٍ إنساني لن يكون قلبًا سليمًا، يقول كثيرٌ من الناس اليوم: “إن قلبي طاهر لأنني أُحِبُّ الناس كثيرًا وأسعى إلى مساعدتهم”، ولكن هذا ادِّعاءٌ فارغٌ؛ لأنَّ القلبَ إذا استوطنه الإلحادُ والإنكارُ فقد عزَّ أن يعودَ سالمًا وسليمًا، إذ إنّه قد امتلأ بإنكارِ صاحبِ الكون ومالكه U.
إن حبَّ الناسِ وحبَّ الإنسانية شيءٌ جميلٌ ومهمّ، إلّا أنه يجبُ فهمُ وإدراك الوجهِ الحقيقيّ للإنسانية أولًا، ثم يجب أن يكون هذا الإدراك دائما وغيرَ منقطع، ومثل هذا الإدراك مرتبطٌ بالإيمان، فبِدون الإيمان تكونُ كلُّ صورِ الخيرِ والجمالِ والفضيلةِ إما كذبًا أو شيئًا مؤقَّتًا؛ لذا فهي دون قيمة.
إن قام شخص بتقديمِ خدماتٍ جليلة لوطنِهِ، بل حتى لو خدمَ الإنسانية جمعاء، ثمَّ ادَّعى أنه لا يعترفُ بقوانين البلد ولا بِنُظُمِهِ فإنه سرعانَ ما يتعرض للعقاب دون الأخذ بعينِ الاعتبارِ خدماته السابقة، وهكذا فالإنسان الذي يُنكر مالكَ الكون وصاحبه ولا يعترف به فإنه يؤخذ بالنواصي والأقدام ويعاقب، ولا يفيده أي عملٍ أو خدمة قام بها من قبل.
فقد قام أبو طالب برعاية رسولنا r ثم بحمايته قرابةَ ثمان وأربعين عامًا، ولكنه -ومع كل هذا- عندما لم يؤمن لم يحصل على الأمان الإلهي.. ولما جَاءَ أبو بكرٍ رضي الله عنه بِأَبيه أبي قُحَافَةَ يَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم شَيخًا أَعمَى يَومَ فَتحِ مَكَّةَ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم: “أَلا تَرَكْتَ الشَّيْخَ حَتَّى نَأْتِيَهُ؟” قَالَ: أَرَدْتُ يَا رَسولَ اللهِ أَنْ يَأْجُرَهُ اللَّهُ، أَمَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَنَّا كُنتُ أَشَدَّ فَرَحًا بِإِسْلامِ أَبِي طَالِبٍ مِنِّي بِإِسلامِ أَبِي، أَلْتَمِسُ بِذَلِكَ قُرَّةَ عَيْنِكَ، فقَالَ صلوات الله عليه: “صَدَقْتَ”[3]، وذلك لأنَّ أبا بكر كان يعرف مدى رغبة الرسول في هذا الأمر، إذ لم ينس موقفه معه وحمايته من المشركين، وقوله له: “اذهبْ يا ابن أخي! فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا([4])، وقوله:
واللهِ لَـنْ يَــصِـلوا إلـــيـكَ بـجَـمـعـهـمْ … حَـتى أُوَسَّـدَ في التُّـراب دَفــيـنا
فاصْدَعْ بأَمرِكَ ما عليكَ غَضاضةً … وابشرْ وَقَرَّ بذاكَ مِنْكَ عُيونا[5].
ثم إن أبا طالب كان قد سلم عليًّا الكرار وجعفرًا الطيار “بطلَ مؤتة” إلى الرسول، أي سلّمهما إلى آمَنِ وأفضلِ يدٍ عرفَتها البشريّة، ولكن هل أفادت كلّ هذه الخدمات أبا طالب؟ إن كان ماتَ على الإيمان فسيفيدُه هذا وإلا فلا.
والقلب السليم بهذا المعنى مهم جدًّا، فقد يؤدي الإنسان أعمالَ برٍّ كثيرة وقد يتصرَّف بشهامةٍ ومروءةٍ ويعطي ويبذل بكرم، ولكن يجب أولًا التأكّد من سلامة القلب وخلوِّه من الكفر والشِّرْك.
ويجب ثانيًا أن يُعمَّرَ القلبُ بالإسلامِ ويتزيَّنَ بالأخلاقِ القرآنية، وإلا لم يكن سليمًا.. وسلامةُ القلب تُقاسُ بمدى التخلُّقِ بأخلاقِ الرسول، لأنه هو مظهرُ تجلِّياتِ خُلُقِ القرآن والقلبِ السليم، وإلا فلا يَخْدَع أحدٌ نفسَه، ندعو الله تعالى أن يوفقنا إلى اتباع خلق رسوله الكريم r والتخلّق بأخلاقه.
وإننا على قناعةٍ بأنَّ المؤمنين الذين يخدمون الإسلام اليوم يؤدون عباداتهم وطاعاتهم قدرَ ما يستطيعون، ويُحاولون إعمارَ قلوبهم بذلك، وفي الوقتِ نفسِهِ كثيرًا ما يُضحون بفيوضاتهم المادية والمعنوية وبلذةِ العيشِ الرغيدِ يحدوهم الأملُ والشوقُ لإحياءِ الآخرين وإسعادهم في الدارين، وإن اجتماعهم على مائدة واحدة ليُعبّر عن محاولتهم تقويةَ العزائم لأداءِ خدمة أفضل، ومن يُنصت لكلامهم يرى أن قلوبهم تنبض بغاية واحدة وهي “إعلاء كلمة الله”.. وعند ذلك يتأكد بأنهم هم الأشخاص الذين جاءت البشائر حولهم؛ لأنهم مؤمنون حقيقيون، وهم ضمان انبعاث أجيالنا في المستقبل، وهم أصحاب القلوب السالمة والسليمة.
وإن موضوع القلب السالم والسليم لفي غايةِ الأهمّيّة، ذلك لأن عدة آيات من القرآن وضعت القلب السليم في مقابل المال والبنين ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ $ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 26/88-89).
لا تظنن أنهم في الآخرة يطلبون منك ذهبا أو فضة
إنهم لا يطلبون إلا القلب السليم في هذا اليوم العصيب.
إن وضعَك في الآخرة متوقِّفٌ على الأجوبةِ المعطاةِ لكثيرٍ من الأسئلة:
هل عشت بشكلٍ جيِّدٍ وعلى الطريقِ الصحيح؟ وانطلاقًا من ذلك: فهل أنهيتَ حياتَكَ وأنتَ على المسارِ السليم؟ وهل ستُبعَثُ بَعثًا صحيحًا؟ أتستطيع أن تَـجِدَ طريقك إلى “لواء الحمد”؟ أتستطيع الوصول إلى “حوض الكوثر”؟ هل تستطيع أن تجعلَ الرسول يراك من بعيدٍ ويعرفَك؟ ذلك لأن رسول الله r صرّح بأنه سيتعرف يوم القيامة على أمته ويميِّزُها من بين سائر الأمم، وعندما قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: “نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ”[6]، ذلك لأن الرسول r يعرف مَن ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ (سُورَةُ الفَتْحِ: 48/29)، فعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ رَأَى أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ حَتَّى كَادَ يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى رَفَعَ إِلَى السَّاقَيْنِ، ثُمَّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ”([7]).
وهذا من تجليات ومظاهرِ أصحابِ القلوبِ السليمة.