سؤال: لقد بيّن القرآن الكريم أن الإرادة الكلّيّة لله تعالى وحده، ومعلوم كذلك أن للإنسان إرادة جزئية، فإذا كان الأمر هكذا فهل يتبع حين يقترف الإثم إرادته الجزئية أم الإرادة الكلية لله تعالى؟
الجواب: نستطيع أن نعبر باختصار عن هذا الموضوع فنقول: إن هناك إرادة للإنسان سواءٌ أطلقنا عليها اسم “الإرادة الجزئية” أم “المشيئة الإنسانية” أم “الكسب الإنساني”؛ أما خلق الأشياء فيرجع إلى الله عز وجل سواء أعاد إلى “الإرادة الكلية” و”القدرة على الخلق” أم إلى “الإرادة التكوينية” وكلها من صفات الله تعالى. وعندما نظرنا إلى المسألة من الجانب المتعلق بالله تعالى تبدو وكأن الله تعالى يُلزِم ويجبر الحوادث أن تأخذ مجرى معيّنًا، وهكذا يدخل الجبر في المسألة؛ أما إذا تناولنا المسألة من الجانب المتعلق بالإنسان فتبدو وكأن الإنسان يعمل أعماله بنفسه، أي “كل إنسان هو خالق لأفعاله” وهذا مذهب المعتزلة.
الله خالق كل ما يحدث في الكون، وهذا هو معنى “الإرادة الكلية” الواردة في السؤال. ومعنى ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ (سُورَةُ الصَّافَّآتِ: 37/96) أي خلقكم وخلق الأعمال الصادرة منكم.
مثلًا إن قمت بصناعة سيارة أو ببناء بيت فالله هو خالق هذه الأعمال، لأنك أنت وأفعالك تعودان لله تعالى. ولكن هناك ما يعود إليك في هذه الأفعال وهو “كسبك” و”مباشرتك”. وهذا الكسب شرط عادي وسبب بسيط، فيشبه تمامًا قيام شبكة كهربائية ضخمة بإنارة منطقة واسعة جدًّا بمجرد قيامك بالضغط على زر واحد. فكما لا يمكن هنا القول بأنك لم تفعل شيئًا ولم يكن لك أي دخل في الموضوع، كذلك لا يمكن القول بأن هذه الإضاءة والإنارة تعود تمامًا إليك. وهكذا الأعمال تعود تمامًا إلى الله، ولكن الله تعالى عندما خلق هذه الأعمال عدّ مباشرتك الجزئيَّة هذه شرطًا عاديًّا وبنى ما سيفعله على هذه المباشرة الجزئية.
ولنفرض وجود ماكنة جاهزة للعمل، فوظيفتك تنحصر فقط في الضغط على زر واحد فيها. إن تحريك هذه الماكنة يعود إلى من أنشأها وصنعها في الحقيقة، لذا نحن نطلق على المباشرة الضئيلة العائدة للإنسان صفة “الكسب” أو “الإرادة الجزئية” ونطلق على ما يعود إلى الله تعالى صفة “الخلق”. وهكذا يظهر أمامنا تقسيم للإرادة:
- الإرادة الكلية
- الإرادة الجزئية
ومعنى الإرادة هو التوجه والمشيئة، وهذه تعود إلى الله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (سُورَةُ الإِنْسَانِ: 76/30). يجب ألَّا يُساء فهم هذا، لأننا عندما نقول إن للعبد نسبةً صغيرةً من الإرادة تتمثل في ضغط أصبع نكون قد افترقنا عن الجبرية الصرفة. وعندما نقول إن الله هو خالق العمل نفترق عن فكر المعتزلة وعن أصحاب الفلسفة العقلانية (Rationalism). وهكذا لا نكون قد أشركنا أحدًا في ربوبية الله وألوهيته تعالى، ولا وضعنا له ندًا تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا. فكما أن الله تعالى واحد أحد في ذاته، كذلك لا يُشرك في أفعاله وتصرفاته أحدًا غيره. الله هو خالق كل شيء ولكنه من أجل التكليف والامتحان ومن أجل أسرار وحكم أخرى قَبِل عزم البشر على الفعل وكسبهم شرطًا عاديًّا. ولكي أُوضح الموضوعَ أكثر فإني أُورد هنا مثالًا ذكره الأستاذ بديع الزمان:
“إذا أخذتَ طفلًا عاجزًا ضعيفًا على عاتقك، وخيّرته قائلًا: إلى أين تريد الذهاب، فسآخذك إليه. وطلب الطفل الصعود على جبلٍ عالٍ، وأنت أخذته إلى هناك، ولكن الطفل مرض أو سقط. فلا شك أنك ستقول له: أنت الذي طلبت! وتعاقبه، وتزيده لطمة تأديب. وهكذا -ولله المثل الأعلى- فهو سبحانه أحكم الحاكمين جعل إرادة عبده الذي هو في منتهى الضعف شرطًا عاديًّا لإرادته الكلية” ([1]).
هل في وسعك إنكار إرادة الصبي هنا؟ لا تستطيع، لأنه هو صاحب الطلب. ولكنك كنت أنت الذي ذهبت به إلى ذلك المكان. أما المرض فلم يكن من عمل الصبي، وإنما صدر منه الطلب فقط، فهنا يجب التمييز بين من أعطى المرض وجلب الصبي إلى هناك وبين من طلب الذهاب.
نحن ننظر بهذا المعنى وبهذا المنظار إلى القدر وإلى الإرادة الإنسانية. والله تعالى المقدر لكل شيء هو الأعلم بالصواب.
<المبحث الثاني، الوجه السابع.