سؤال: يُذكر في آخر سورة لقمان أن نزول المطر وعلم ما في الأرحام في خمس لا يعلمهنّ إلا الله، إلا أن هذين الأمرين قد خرجا عن الغيبيات اليوم، فماذا تقولون في هذا؟
الجواب: أتذكر أنّا تحدّثنا عن هذه المسألة، وفصّلنا فيها القول، لكنّي كلما سُئلتُ عن مسألة قرآنية لم أجد بُدًّا من الإجابة عنها وإن مرارًا وتَكرارًا؛ فما من مسألة قرآنية إلا وهي في عظمتها وشموخها كالجبال الرواسي، فسأطاوع مشاعري وأذكر شيئًا في المسألة.
يقول الله تعالى في آخر سورة لقمان: ﴿إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (سُورَةُ لُقْمَانَ: 31/34).
يذكر القرآن الكريم أن الله ﴿عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾، ويجعل من هذه الحقيقة أساسًا، ليس لأيّ شخص أن يدلو بدلوه فيها أو يتفوه ولو بحرف اللهم إلا بعد أن يقول: “الله أعلم”.
في حديث جبريل المشهور المرويّ عن سيدنا عمر بن الخطاب وأبي هريرة يسأل جبريل عليه السلام النبيَّ r عن الإيمان والإسلام والإحسان فيقول بعد كل إجابة: “صدقتَ”، وأخيرًا سأله عن الساعة فقال r: “مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ”[1]. أجاب سيدنا رسول الله r على هذه المسألة الغيبية بأدب نبويّ، لأنه عليه الصلاة والسلام وجبريل كانا يشتركان في علم أنه لا يعلم وقت القيامة إلا الله.
أما كيفية قيام الساعة فهناك أسباب كثيرة في دائرة الإمكان يكفي أحدها لقيامها، كاصطدام نجم مذنب بالأرض.. وانشطار الشمس أو انطفائها وَفقًا لقانون الديناميكية الحرارية.. وظهور سلسلة تفاعلات بخطأ يرتكبه الناس على الأرض، فينتج عنها تدمير النظام الشمسي وهكذا.
المسألة الثانية: ﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾، وهي من أكثر ما يُثار حولها الجدل، يقولون تبعًا لمنطقهم: “لنا اليوم أن نعلم متى ينزل المطر، بناء على نتائج علم الأرصاد الجوية؛ إذًا لا معنى لقولنا إنها من الغيبيات…”
إن الذين يختلقون مثل هذا السؤال يهدفون إلى تلبيد سماء القرآن الصافية بالشبهات، وحساسيتنا في الإجابة عنه تنطلق من هذا السبب.
ترى! ما العلاقة بين ما يدّعون معرفته بالتقنيّات الحديثة وبين الغيب؟
نعم، إن تنبؤهم بوقت نزول المطر -وقد لاحت في الأفق أماراته وبدأت تظهر في عالَم الشهادة علاماته- لا يمتُّ إلى معرفة الغيب بِصلة.
وهاك مثالًا يسيرًا يوضّح المسألة:
نفترض أننا عبّأنا غرفة بثاني أكسيد الكربون، ولما أجرينا تجاربنا بآلات تكشف عن وجود ثاني أكسيد الكربون كانت النتيجة: بعد ساعتين سيشعر من بالغرفة جميعًا بثقل وصداع، فإذا ما وقع هذا أفيكون علمًا بالغيب؟ كلّا، فهذا ليس غيبًا، فالغيب هو ما استأثر الله تعالى بعلمه، فمثلا معرفة وقت نزول المطر ومكانِه وقدْرِه تفصيلًا في سنة أو سنوات قادمة هذا يُعدّ غيبًا، أمَّا التنبؤ بنزول المطر غدًا في مكانٍ ما فليس من الغيب في شيء، ومع هذا إن عدم وقوع تنبؤاتهم أحيانا يُثبِت أن معرفتهم بالأمر ناقصة؛ وإن المتخصصين في هذا العلم هم يسمّونه “تنبُّؤًا”. وفضلًا عن السنة القادمة، هل لهؤلاء أن يعلموا شيئًا عن قدر المطر الذي سينزل غدًا؟
وإن العلم بوقت نزول المطر إذا لاحت أَماراته في عالم الشهادة لا يعوزه آلات ولا أدوات، فهناك كثيرون من الناس يتنبؤون بذلك بتجربتهم وخبرتهم، ومن المناسب هنا أن أكرر حادثة ذكرتها من قبل:
زار بعضُ العلماء الأمريكيين تركيا، لإجراء بحث خاصّ، وقابلوا راعيًا في قرية، وبعد مدة ساق الراعي المعز نحو المربض، فسألوه عن ذلك، فقال: يوشك المطر أن يهطل، فتحيروا ودهشوا، فلا شيء ينبئ بذلك من علامة في الجو أو إشارة في مقياس الضغط الجويّ “البارومتر”، وما مضت مدّة حتى بدأ المطر يهطل بغزارة، فهرْوَلوا إلى المربض وسألو الراعي: كيف عرفت؟ فكان جوابه مثيرًا غريبًا: من خلال تجربتي منذ سنوات شاهدت ذيل المعز ينكمش قُبيل نزول المطر، فعرفت أن المطر سيهطل”، فألقَوا ما بأيديهم من آلات، وقالوا: “لَذيلُ المعز أنفع منكِ!”
يقول الأستاذ بديع الزمان: “إني أشعر أحيانًا بشعور مرهف في أعصابي بـما سيأتي من الغيث قبل مـجيئه بأربع وعشرين ساعة”. والتنبؤ بنزول المطر والثلج شائع في القُرى استئناسًا بعلامات وإشارات ما، فليس من العلم بالغيب إذًا أنْ نعلمَ وقت نزول المطر بهذه الصورة وتلك الحسابات، فالاعتراض على حكم القرآن بإظهار التنبُّؤ بوقت نزول المطر على أنّه علم بالغيب جهلٌ محض، كيف وهناك حسابات معيّنة وأَمارات ظاهرة نتجت عن عوامل جويّة مثل وضع السحابة المحملة بالمطر، والضغط الجوي، وأنظمة الرصد الجوي؟
وأودُّ أن أعرِض للإعجاز العلمي في السنة النبوية في حديث أقرَّت البحوث العلمية الحديثة بمفاده: “مَا عَامٌ بِأَمْطَرَ مِنْ عَامٍ”[2]؛ أي معدَّل المطر لا يختلف بين عامٍ وآخر، أمَّا قدْر ومكان نزول المطر فذاك هو الغيب الذي لا يعلمُه إلا الله.
المسألة الثالثة: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ﴾، ويجادلون في هذه أيضًا، يقولون: إن الأشعة السِّينيّة تتيح لنا اليوم تشخيص حالة الجنين، ومعرفة نوعه ذكرًا كان أم أنثى.
ولما كان العامل في الذكورة والأنوثة هو ذكورة الحيوان المنوي أو أنوثته فمن الممكن أيضًا تحديد جنس الجنين في هذه المرحلة.
والأصل الذي ذكرناه آنفًا يأتي هنا أيضًا، أعني ليس من الغيب معرفة شيء أصبحت مقدماته ظاهرة للعِيان.
فتحديد الحيوان المنوي الذكر -في الرحم أو في الأنبوب- ليس من الغيب في شيء؛ لتقدُّم العلم بالأسباب الدالّة عليه.
يقول r: “إِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ”[3]؛ وأخطأ التأويل من لم يفهموا الحديث، وتوهّموا أن الغلبة إذا كانت للرجل كان المولود ذكرًا، وإن كانت للمرأة كان أنثى. ولعل الصواب في تأويله: إذا سبقَ الحيوان الذكريُّ الأنثويَّ ولقّح البويضة كان المولود ذكرًا، وإلا كان أنثى.
وهذا من الإعجاز العلميّ في السنة النبويّة، واليوم يقرِّره العلماء.
فمن عرف مسألةً كهذه بعد ظهور مقدِّماتها، وعدَّ هذا علمًا بالغيب فقد خدع نفسه.
وعندما ذكر القرآنُ الكريمُ المسألةَ قال: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ﴾، وكلمة “ما” في الآية من ألفاظ العموم؛ أي إنَّه سبحانه يعلم كلّ ما في الأرحام، وليس في الآية ما يخصص العموم ليقصره على الذكورة والأنوثة؛ فهو سبحانه يعلم نوع المولود كما يعلم مراحل حياته كلها؛ مستقبله، وطباعه وخصائصه وعيوبه، وشقي أم سعيد، فهو وحده سبحانه من له علم هذه المسائل كلها.
فالغيب في هذه المسألة هو كل ما يدخل في عموم لفظ “ما”، لا الذكورة والأنوثة فحسب، فحديث القرآن عن المسألة عامّ شامل، فمعرفة ما شمله الحدُّ القرآنيّ علمٌ بالغيب، وما سِوى ذلك دعاوى هدفها الجدلُ والتضليلُ.
ولتقريب المسألة إلى الأذهان إليكم هذا المثال:
لو أنّكم أمام شجرة تفاح، جذرها وجذعها حيثُ أنتم، وفروعها وأغصانها من ناحيةٍ أخرى لا ترونها، ولما جاء الموسم قلتم: أغصان هذه الشجرة المستورة عنّا مُثقلة بالثمَر، فهل هذا الاستنتاج من العلم بالغيب أم أنّه أمر ربما يدركه الناس جميعًا وينتبهون إليه عادة؟ لو سُئلتم فلا ريب أنكم ستختارون الجواب الثاني، وهكذا القول في معرفة حال الجنين بناءً على مقدمات سبقَت، فهو ليس من الغيب في شيء، بل هو نظير التنبؤ بثمر شجرة جذعها في عالم الشهادة وأغصانها في عالم الغيب، وإنّ نفث السموم لتلبيد سماء القرآن الصافية بالغيوم ودعوى أنّ معرفتهم تلك علمٌ بالغيب لهو عينُ الحماقة والبلاهة.
المسألة الرابعة: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾، لا ينبغي تقييد هذا بالكسب الماديّ، فالعطاء ماديًّا كان أم معنويًّا كسب، وما يحظى به المرء من الطمأنينة كسب، وزيادة العلم أيضًا كسب، وهو وحده سبحانه مَن يعلم قدْر هذا الكسب، فربّما يقرأ المرء أسفارًا ولا يرجع منها بشيء، وقد يقرأ معلومة تعدِل كتابًا وتستثير مصادر الإلهام كلَّها لديه.
ولو فكرنا في الكسب المادي فقط، لوجدنا أيضًا أن الإنسان ولو ذا راتب مستقرّ لا يدري ماذا يكسب غدًا. فذو التجارة والحرفة لا اختلاف في عدم علمه، أما ذو الراتب فقد يكافأ أحيانا وقد يفاجأ بعقوبة، فيتغيّر ما يتقاضاه، وقد تنزل به مصيبة تُوقِع على الوارد والمصروف ما لا يُتوقع؛ نعم، قد يُهدَى إلى الإنسان شيء قيمته باهظة مما لم يكن في الحسبان، بل لم يكن قبل خمس دقائق متوقعًا؛ والأمثلة كثيرة، فنتفادى التطويل، ونقول كما قال سبحانه: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾.
والمسألة الخامسة: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾، علمها عند الله، وإننا لَنجهل حقًّا متى سيأتينا ملك الموت أو أحد أعوانه ليقبض أرواحنا، وهذا أمر مسلَّم به.
[1] البخاري: الإيمان، 37؛ مسلم: الإيمان، 1-7.
[2] المستدرك للحاكم: 3/437، السنن الكبرى للبيهقي: 3/507.
[3] البخاري: المناقب ،51؛ تفسير سورة البقرة، 8؛ مسند الإمام أحمد: 3/108.