Reader Mode

سؤال: يقال إن الاسلام دين يلائم العقل والمنطق، ولكنه يستند إلى النصوص وهذا يستوجب التسليم والإذعان، فكيف الجمع بينهما؟

الجواب: أجل هو كذلك، فالإسلام موافق للعقل والمنطق وهو يستدعي الإذعان والتسليم كذلك. ذلك لأن العقل والمنطق لا يضادّان الإذعان والتسليم. فقد يكون شيء ما منطقيًّا، ويستلزم التسليم به. كذلك لا يستطيع أحد الادعاء بأن شيئًا ما إن اقتضى التسليم فهو لا بد غير منطقي، فالمنطق لا يقبل مثل هذا الادعاء. والآن لنشرح هذا الموضوع في نطاق العقل والمنطق.

لقد تناول الإسلام المسائل التي يجب الإيمان بها بكتابه الذي يقرأ الكون ويشرَحه لنا بشكل عقليّ ومنطقيّ. وبعد القيام بإثبات ألوهيته وربوبيته تعالى بهذا الشكل، تناول النبوة المتلازمة مع هذه الألوهية وهذه الربوبية -وهي نتيجة ضرورية لها- بأدلة مقنعة جدًّا، إذ لا بدّ من أنبياء يقومون بالإرشاد وإعلان وبيان الألوهية والربوبية، ثم شرَح هذا بأدلة عقلية ومنطقية قوية. وتناول أيضًا البعث بعد الموت، أجل، يقتضي العقل والمنطق بعث الناس ليحيَوا حياةً أبديةً، وإلا كانت غريزة حب الخلود المعطاة لهم عبثًا ودون معنى، وبما أن الله تعالى منـزه عن العبَث، فلا بد من إهداء مثل هذه الحياة الأبدية للإنسان، والذي خلق الوجود أول مرة هو الذي يُنشئ النشأةَ الآخرة.

القرآن كلام الله، ولو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بآية واحدة مشابهة لآياته لَما استطاعوا ذلك. وما دام هو كلام الله تعالى، إذًا فالكُتب والصُّحف السماوية الأخرى التي صدّقها القرآنُ من كلام الله تعالى أيضًا.

لن ندخل في شرح مفصل لهذه المواضيع التي سبق أن تناولناها في مواضع أخرى بشكل مفصّل، ولكننا أشَرنا إليها لإعطاء فكرة عنها. وبعد القيام بالإثبات والبرهنة على جميع مسائل العقيدة بشكل عقلي ومنطقي نصل إلى موضع لا يمكن السير فيه بأرجل المنطق وأدواته، لأن معاني الحقيقة التي يحسها الإنسان في وجدانه وقلبه فهي من القوة حتى إن جميع الأدلة تغدو ضعيفة باهتة بجانبها.

إن جميع أفعال الله تعالى وتصرفاته مستندة إلى العقل وإلى المنطق، كيف لا وهو العليم الحكيم، لا يصدر منه أي عبث. وقد رأينا أن الإنسان عندما يعمل في ساحات علوم الفيزياء والكيمياء والفلك والفيزياء الفلكية يصل بفضل قوانين هذه العلوم إلى مبادئ ثابتة. ونحن نشاهد أن ما يفعله وما ينجزه أمهر شخص وأعلمه يبقى شيئًا باهتًا بالنسبة إلى صنع الله. إذًا فللّهِ تعالى حكمة في كل فعل، وهذه الحكمة عقلية ومنطقية.

وهكذا فإن آيات الله في الآفاق وفي أنفسنا تربطنا وتسوقنا إلى الإيمان بالله تعالى. ففي البداية نجد العقل والمنطق وفي النهاية الإذعانَ والتسليمَ. وما دمنا قد أذعنا له فيجب علينا اتباع أقواله، وهنا تظهر أمامنا طبعًا المسائل المتعلقة بالعبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج، أي الخصائص المتعلقة بالعبودية.

إن القيام بهذه العبادات مظهر من مظاهر الإذعان والتسليم. ولكن نستطيع هنا تقييم كل هذه المسائل تقييمًا عقليًّا ومنطقيًّا وملاحظة الحِكَم الموجودة فيها. لا شك أن هناك حِكمًا عديدةً في الأوقات التي فرضت فيها الصلاة. ولا شك أن حركات الصلاة بهذا الشكل ليست عشوائيةً بل هي مقصودة، كما أن الأمر بغسل أعضاء معينة في الوضوء لا بد أنه مستند إلى فائدة وحكمة، وكما أن الصلاة جماعة لها دور مهم في تأسيس الحياة الاجتماعية، وفرض الزكاة له دور إيجابي وحكم عديدة في تأسيس التوازن بين الأغنياء والفقراء. أما الفوائد الصحية للصوم فهي أكثر من أن تعد، وفي أحكام العقوبات في الإسلام دروس مذهلة وحكم عديدة، ولو دققنا النظر فيها من ناحية العقل والمنطق لَوصلنا إلى النقطة نفسها، وهي الإذعان والتسليم.

لنأخذ الحج مثلًا، لنقل إننا قبِلنا الحج فريضة من البداية لأن الله تعالى يقول: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/97)، أي أصبح الحج فريضة على من استطاع إليه سبيلًا من الرجال والنساء. هذه النظرة تبدأ من نقطة الإذعان والتسليم، فنحن نقول “لبَّيك اللّهم لبَّيك” ونذهب إلى الحج ثم ننظر وندقق ماذا يعطينا الحج في نطاق العالم الإسلامي فنرى أنه مؤتمر إسلامي عالمي على المستويات كافة، وهو يؤسس أرضية خصبة مضمونة لتحويل المسلمين إلى جسد واحد من أقصر طريق. وإن نظرنا إلى القضية من ناحية العدالة الاجتماعية نرى أن اجتماع كل الناس -الفقراء منهم والأغنياء، العلماء منهم والعوام- على صعيد واحد وفي الشروط والظروف نفسها من أجل غاية واحدة، وهي إظهار العبودية لله تعالى، يقوّي يَقيننا بأن الإسلام نظام عالمي ويزيد من ثقتنا به.

إذًا فسواء أكانت نقطة انطلاقنا من العقل والمنطق فسنصل إلى الإذعان والتسليم، أو كانت نقطة انطلاقنا من الإذعان والتسليم فسنصل إلى العقل والمنطق، فالنتيجة واحدة، ومن ثم فالإسلام عقلي ومنطقي من جهة، وإذعان وتسليم من جهة أخرى. ففي أمر معين يتم الانطلاق من العقل والمنطق ليتم الوصول إلى الإذعان والتسليم، وفي أمر آخر يتم الانطلاق من الإذعان والتسليم ليتم الوصول إلى العقل والمنطق. وما كان هذا النظام الإلهي الذي وَضع أمامنا الكون كتابًا مفتوحًا إلا أن يكون بهذه الخصائص.

فهرس الكتاب

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts