سؤال: لماذا خلق الله الكون ؟ ولِم لَم يخلقه من قبل؟
الجواب: السؤال له شِقَّان: أوَّلهما لماذا خُلق الكون؟ وثانيهما لِمَ لم يُخلق من قبل؟
أوَّلًا: أُشير هنا إلى أننا نحن البشر نقيس كل شيء بمقاييسنا المحدودة، وعلى ذلك تتشكل أفكارنا ونبني تصوّراتنا وَفْقها، فالباعث عندنا ضرورة في كل أمر، ولا نعزم غالبًا على فعل أمرٍ ما إلا إذا اقتضته الضرورة، ومثل هذا الدافع النفسي يسوقنا إلى أن نقيس فعل الله على أفعالنا، لكن يجب أن نعتقد ونحن نطرح سؤالًا كهذا أن الله تعالى منزَّه عن أي نقص أو خلل.
يمكن تناول السؤال المذكور جدلًا فنقول: من الذي يزعجه خلق الكون؟ إنّ موارده متاحة بين أيدينا، فهل لكم أن تدلوني على إنسان لم ينشد السعادة في تلك الموارد مستغلًّا كل ما فيها… ينثر بذورًا ويلقحها ثم يجني ثمارها؟! من الناس مَن يتعجل في قراراته إذا ما ألمَّ به أمر، ويتذمّر لأنّه خُلِق، وقد يهم بالانتحار، بيد أن هؤلاء قلة لا أثر لهم، أما سواد الناس فإنّهم لا يتحسّرون، بل إنّ قلوبهم لتفيض حمدًا وشكرًا على نعمة الحياة والوجود والإنسانيَّة، مم يشكو الإنسان؟ من حمله في الأحضان طفلًا، أم من سعادته الغامرة فتوّةً وشبابًا، أم من اشتغاله بالبنين والحفدة كهلًا؟! … وأخصّ هنا من يؤمنون بالآخرة فإنهم لو قدَروا أن يتعاهدوا بذور السعادة السرمديّة التي تضمن السعادة المطلقة لغمرهم سرورًا عثورُهم على مفاتيح سريّة لمنافذ السعادة.
أجل، إن ضمائرنا لَتستشعر تلك النعم كلّها وإن قلوبنا لَتفيض شكرًا وحمدًا لله الذي أبدع الكون وأنعم علينا بالوجود. وبوسعنا أن نوضّح المسألة بما نشاهده فنقول: إن هذا الكون يتبدى لنا وكأنه مشهر أو عرض رسمي لمناظر لا تنتهي زُيّنت بآثار فنّية ملوّنة كبيرة وصغيرة حيّة وجامدة، وأُعدّت بصورة جذابة تدفعنا جميعًا إلى مشاهدتها والتأمّل فيها؛ هذه المناظر الخلابة وما فيها من عظمة وزينة رائعة تدلنا على صنعة في أحداث تجري جريان السيل وعلى يد لطيفة قادرة مهيمنة على تلك الصنعة، فمن عدسة هذه الأفعال نشاهد الأسماء الإلهية.. ونتابع ما يصدر عنها من ومضات وبارقات ولمعات وإشارات كما يتتبع العاشق حِبَّه بلهفة الوصال، وعندئذ نجد أنفسنا بين يدي دائرة الصفات الإلهية التي لا نعرف ماهيتها تمامًا، فتصيبنا الحيرة والتعب ويعترينا شوق عظيم.. ونتابع “شؤوناته الذاتية” من نوافذ تُفتح إلى القلب فيعترينا الذهول…
ولا يزال هذا البحث جاريًا صعودًا وعروجًا في فضاء رحبٍ جدًّا، مبدؤه الحوادث والأشياء ومنتهاه العلاقة بين الكون والإنسان، ومنها إلى العلاقة بين الإنسان ودائرة أسماء الله وصفاته.
والآن ونحن نتحدّث عن حكمة الخالق U من خلق الكون لنتتبّعْ قليلًا هذا الاكتشاف والإدراك بقدر فهم العوامّ: مثلًا –ولله المثل الأعلى- لنتأمل فنّانًا عنده عدّة مهارات منها حسن الخط، إنَّه بمهارته هذه يتجاوز حدود الموضوعية ويتمرد على الذاتية، ويعلن عن نفسه بقدرته على الإنشاء.
ولنفترض أن هذا الفنان نحّات خارق للعادة أيضًا، فبضع ضربات من مطرقته تنفخ الروح في أعتى الحجارة وأقساها، ومهارته تتبدّى بما يرسمه نحتًا في بسمات الشفاه وغمزات الوجنات، دعوا هذا الفنان الذي عجب الناس لحسن خطه.. دعوه يستمتع بما كُتِب عنه من مدح وثناء لمهارته في النحت ولنبحث نحن عن مهارة ثالثة له:
لنفترض أن فناننا العبقري نجّار ماهر أيضًا… نجار طَفرة يضفي على الجوز روح الفنّ، ويهب شجر الزان الخلود، ويبعث شجر الأبنوس بروح الفن، دعوا ذلك النجار تصفق له أيادٍ خبيرة بالفن والفنانين، ولننظر إلى مهارة أخرى من مهاراته:
مثلًا لنفترض أنه هو هو رسّام مبدع يظهر أجمل النقوش وأروع التشكيلات حيثما مرَّت فرشته ويرسم بحركة أو حركتين من يده ما يذهل العقل… وبوسعنا أن نضيف فنونًا أخرى كثيرة ليضيء كل فنّ جديد نضيفه جانبًا آخر لدى فناننا العبقريّ وييسّر لنا التعرّف عليه من خلال ذلك الجانب.
وكما يتعذر علينا الآن معرفة فنّانٍ كهذا دون أن يُظهر لنا مهاراته لا يمكننا أيضًا القول بأنّنا نعرفه معرفةً كاملة دون أن يُظهر لنا بعض فنونه؛ ومن هنا فكلّ ذي ملكة يريد أن يُظهر ما لديه من مهارات خفية ويريد أن يُلبِس ما له وجود علمي وجودًا خاريجيًّا. فالبذرة تنتعش فيها العقدة الحياتية، والماء الدّافق تتنازع الحيوانات المنويّة فيه الحياة رَغَبًا ولهَفًا، وحبيبات الرطوبة تتجشم آلاف الصعاب لتغدو أمطارًا… فهل ثَمّة ما يحدوها إلى هذا كلّه سوى حبّ الإراءة والظهور؟
هذا كله تعبير عما فينا وفي كل الكائنات من نقص وضعف ورغبة لا تُقاوَم، لأننا مجرد ظلال لأصل، أما الصانع الأصلي والمُبْدِع الحقيقي فمنزَّه مطلقًا عن عوارض النقص، ولا بد ألا ننسى أن تجلي الظلّ ليست كتجلي الأصل.
أجل، إن ما يملأ الكون أجمع من تموجات في شتى أنواعها وألوانها ليدلّنا على ألف اسم واسم من أسماء الله تعالى، وكلّ اسم منها يكشف لنا -كما النور الساطع على أثر فنّيّ- عن صفات ذاتٍ عليم حكيم، ويوقظ قلوبنا برسائل عن ذلك الذات الذي لا تدركه الأبصار.
ويريد هذا المبدع العظيم أن يعرّفنا بنفسه معرفةً وافية، فيجلِّي لنا آلاف الأسماء والصفات، فمثلًا يدلّنا على جماله من خلال أنواع الجمال كلّها، وعلى إرادته وقوته من خلال ما في الكون من نظام وانتظام بديع، وعلى رحمته وشفقته بما يهبه لنا حتى أخفى ما ترغب فيه قلوبُنا.
وبتعبير آخر يريد هذا المبدع العظيم أن يُظهر جلوة قدرته وإرادته فيعرض الحقائق العلمية في علمه الواسع بإلباسها وجودًا خارجيًّا؛ ويريد أن يوقظ مشاعر الحيرة والإعجاب والتقدير فيعرض أروع آثار صنعته على أولي الألباب ليشاهدوها بمنشور إدراكهم.
كما أن فنّانًا ماهرًا في آلاف الفنون يُظهر مهاراته بإظهار آثاره، فكذلك صاحب هذا الكون أنشأ قصر الكون الرائع هذا ليُظهر لنا بديع صنعته.
ثانيًا: “لِم لَم يخلق الله الكونَ من قبل؟”
نقول بدايةً: ما معنى “من قبل”؟ إن كنت تعني “لماذا خُلق قبل كذا وكذا من الزمان ولم يُخلق قبل أكثر من ذلك؟” فسترد عليك سلسلة أسئلةٍ لا تنتهي حول مسلسل “القبلية” المقيدة بزمن، فيقال مثلًا: إن كان خلَقه قبل تريليون سنة فلِمَ لَمْ يخلقه قبل مائة تريليون سنة؟ ولا أعرف سببًا منطقيًّا لسؤال أو اعتراض من هذا الضرب.
فإن كنا نعني قِدَم العالَم بقولنا “لِم لَم يخلق الله الكون من قبل؟” أي لا يحدُّه زمان، فجوابه أن القِدم من صفات الله الخاصّة به سبحانه فهو من لوازم ذاته، وهو صفةٌ ذاتيّة، أي إن هذه الصفة له لا لسواه، فكل ما سواه حادث.
نعم، علم الله سبحانه بوجود الكائنات قديم، فالكائنات موجودة في علمه منذ أن كانت عَدَمًا، سواء أعبّرنا عن هذه “الموجودات العلمية” بمصطلح أهل التصوف “الأعيان الثابتة، وظلال الأنوار” أم بعبارة أخرى، فمن الخطأ إسناد القدم لهذه الكائنات، وبحث مسألة كهذه لا يعدو أن يكون من سوء الأدب مع الله.
لنا أن نبحث في الموجودات التي لها “وجود خارجي” بمقاييسنا المحدودة، لكن الحديث عن الحقائق التي هي غيب بالنسبة لنا صفاقة على الأقلّ. ففي الحديث الشريف: “مَا السَّمَاوَاتُ السَبْعُ فِي الكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ العَرْشِ عَلَى الكُرْسِيِّ كَفَضْلِ تِلْكَ الفَلَاةِ عَلَى تِلْكَ الحَلْقَةِ”[1] أنى للإنسان إذًا أن يعرف صاحب هذا العرش العظيم حق معرفته فيعبّر عن أسرار ربوبيته!..
أجل، هناك أشياء كثيرة غدت مرآة لشؤونه الخاصة وذاته سبحانه، علمًا أنه يَعلم ذاتَه قبل خلق الكائنات كما يَعلم شؤونه دون أن يفتقر إلى شيء، أجل، إنه يعلم شؤونه الذاتية في أسمائه، ويعلم ذاته حقّ العلم بتجلي أسمائه في عالم الأسماء والأثير والجسيمات، وفي الذرات وكبرى المركبات، ثم يجليها لأولي الألباب.
في كل لحظة هو عالم بهذه العوالم كلها علمًا مختلفًا في نظرنا عمّا كان قبله، أمَّا في الحقيقة فلا تغيُّر ولا تبدّل في ذاته ولا في صفاته سبحانه، وأحسن العلامة إبراهيم حقي إذ يقول:
تعالى ربنا عن أن يأكل أو يشرب أو يدور به الزمان،
تنزَّه سبحانه عن التبدل والتغير والأشكال والألوان،
وتلك هي الصفات السلبية له فهو عظيم الشان.
إننا لنرى ما خلق وأظهر اليوم من آثار صنعته، بيد أنَّا لا يمكن أن نعلم ماذا كنّا قبلُ وإلامَ سنصير غدًا.
ولا طاقة لنا بالوقوف على ماهية الوجود العلمي والأعيان الثابتة وعالم الأرواح، ولا نعرف أيضًا أي نقطة مظلمة في الوجود صاغتها السُدم الحلزونيّة شعرًا ولحّنته أنغامًا وكشف عنها الحجاب. أجل، فكما لا يتسنى لنا معرفة هذا كلِّه فإننا نقف أيضًا أمام السرّ العظيم للحياة الآخرة ونقول: “ما عرفناك وشؤونك حقَّ المعرفة يا معروف”.
فإن كنتُ أسهبت قليلًا في هذه المسألة فما ذاك إلا لأنّ مثل هذا النوع من المسائل يستدعي مزيدًا من الحيطة والحذر، فإن أخطأت في شيء فأسأله سبحانه العفو والغفران، والله أعلم بالصواب.
[1] ابن أبي شيبة: العرش وما روي فيه، رقم الحديث: 58؛ صحيح ابن حبان: 2/77؛ تفسير الطبري، 3/ 77.