Reader Mode

سؤال: يُقال إن الله خلق كل شيء.. فمَن -حاشا لله- خلق الله ؟

الجواب:كثيرًا ما يُطرح هذا السؤال، وأنا أَعد هذا السؤال علامةً ودليلًا من أدلة نبوة سيدنا محمد r. وأمام تحقق ما أخبر به من أخبار الغيب أنكس رأسي وأقول: “أشهد أن محمدًا رسول الله”.

أجل، إنه رسول من الله كريم، إذ أخبر عن كل شيء سيحدث حتى يوم القيامة وكأنه جالس أمام شاشة تلفزيون ينقل ما يشاهده. وقد نطق بالحق في كل ما أخبر عنه. فالأحكام التي ذكرها والحوادث التي أخبر عنها وقال إنها ستقع في المستقبل حدثت فعلًا وكما أخبر عنها تمامًا. وهذا هو ضِمْنَ ما أخبر به. يقول r: “لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟”([1])

وعندما وجّه لي هذا السؤال قلت في نفسي “أشهد أن محمدًا رسول الله!” ما أصدق ما رأيتَ وما أصدق ما قلتَ! فما كان بالإمكان التعبير بشكل أفضل من هذا التعبير لِسفالة طراز تفكير هؤلاء وضحالة إدراك الذين تمردت أنفسهم وأنانيتهم وتفرعنت، فأسبغوا صفة الألوهية على الأسباب وحاولوا إيضاح كل شيء بها وضمن إطارها.

فإذا رجعنا إلى المسألة الأصلية قلنا إن هذا السؤال من الأسئلة التي يطرحها المنكرون، وكثيرًا ما تنسحق العقول الغضة تحت ثقل مثل هذه الأسئلة، إذ لا تستطيع فهم معنى اللَّامُتَنَاهِي، ولا تستطيع ما في مسألة استمرار تسلسل الأسباب من خداع.

لذا نراهم يترددون ويشكّون، إذ يظنون أن الله أيضًا سبب مثل الأسباب الأخرى، لذا فهناك أيضًا سبب آخر له، أي هو أيضًا مُسبَّب، أي نتيجة. وهذا وهمٌ… وهمٌ يستند إلى عدم معرفة الخالق، لأن الله تعالى هو مسبِّب الأسباب ولا بداية لوجوده.

وقد قام علماء الكلام استنادًا إلى قواعد معينة بإثبات أن الأسباب لا يمكن أن تتسلسل هكذا إلى ما لَا نِهَايَة، وسعوْا لإثبات وجود مسبِّب الأسباب الذي هو الله تعالى. ومن المفيد تلخيص أفكارهم في هذا الصدد بمثال أو مثالين. يقول علماء الكلام: “إن القول بأن سلسلة الأسباب تستمر دون توقف تعبير عن الجهل بماهية الأسباب وغفلة عن الخالق”. أجل، فليس ثمة احتمال لظهور الأسباب عن طريق سلسلة الأسباب المستمرة منذ الأزل، والاعتقاد باحتمال هذا الأمر انخداع. فمثلًا إن قلنا بأن اخضرار وجه الأرض بالنباتات مرتبط بوجود الهواء والماء والشمس، وأن وجود الهواء والماء والشمس مرتبط بوجود بعض الأجزاء المادية مثل الأوكسجين والهيدروجين والكاربون والنتروجين…إلخ، ووجود هذه الأجزاء المادية مرتبط بوجود جزيئات أصغر، وهذه الجزيئات الصغيرة مرتبطة بجزيئات أصغر منها…

إن الظن بأن من المحتمل أن يستمر هذا التسلسل إلى اللانِهَاية، وأن من المحتمل إيضاح ظهور الأشياء عن هذا الطريق مغالَطةٌ وانخداع، ولا سيما إذا علمنا أن هناك أضداد المادة وأن الميتافيزيقا تغلب الفيزياء، وإذا علمنا أن الأسباب بأجمعها بدءًا من السبب الأول وانتهاء بآخره تعمل ضمن اتساق وتلاؤم وبصيغ قوانين وكأنها موظف مستخدم يقوم بأداء وظيفته.

أجل، إن القول “إن هذا نتج عن هذا، وهذا عن ذاك، وذاك عن ذلك…إلخ”، مثل هذا القول لا يَحل أي مشكلة ولا أي مسألة، بل على العكس يجعل المسألة مستحيلة الحل، لأن الظن بأن من الممكن أن يُعد هذا حلا يشبه الظن باحتمال استمرار سفسطة “البيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة” إلى الأبد. وهذا الادعاء والظن سيبقى معلقًا ودون سند حتى نسند البيضة أو الدجاجة إلى الموجود الأزلي ذي القدرة المطلقة. ولكن ما إن تسندهم إلى الخالق الأزلي -الموجود بذاته- حتى تنحل المعضلة، لأنه سواء أخُلقت البيضة -التي هي خلية واحدة- أولًا، أم خُلقت الدجاجة أولًا وجُعلت لها قابلية إنتاج البيضة لإدامة نسلها.. سواء أكان هذا أم ذاك فالأمر سِيّان.

إذًا فتنحية هذا وتركه جانبًا وتكرار “هذا من ذاك، وذاك من تلك…” لا يؤدي بنا إلى أي نتيجة ولا نصل إلى أي وضوح، لأن كل جواب من هذا النمط يجلب معه استفهامات أكثر. مثلًا المطر مرتبط بالغيوم، والغيوم مرتبطة بالجزيئات الموجبة والسالبة، وهذه الجزيئات متعلقة بالتبخر، والتبخر مرتبط بوجود الماء وأخيرًا بالعناصر المكونة للماء.. وهكذا فبعد بضعة خطوات فقط ينتهي التسلسل ويقف. وحتى عندما يقف التسلسل في نقطة معينة يجد الإنسان نفسه في خضم فرضيات عديدة يحاول بها إشباع عقله “قد يكون كذا… أو كذا… أو كذا…”

وليس هذا إلَّا محاولة لتفسير العالم الذي نشاهد فيه النظام الدقيق والتلاؤم والتناغم المدهش بين أجزائه ونحدس ظهوره من يد الحكمة الباهرة.. إنها محاولة لتفسير هذا العالم وكل الأشياء بهذيان الأطفال. كما أنها تضليل لأفق العلم وهدفه وإبقاؤهما في ظلام دامس. علمًا بأنه لا بد لكل نتيجة من سبب، ومجرد تزايد الأسباب غير المنطقية وغير المعقولة وتسلسلها لا يجعلها معقولةً ولا يضفي عليها صفة التلاؤم مع المنطق، فمثل هذا الظن هذيان وهو توهم المستحيل ممكنًا.

والآن لنشرح هذا بمثال: لنفرض أنني جالس على كرسي من دون قائمتَيه الخلفيتَين. ولكي لا يسقط الكرسي فقد أُسندَ إلى كرسي مثله، وهذا الكرسي إلى كرسي آخر مثله… وهكذا إلى ما لا نهاية، أي بعدد لا يستطيع العقل تخيله ولا يسعه الزمان ولا المكان. ومع ذلك فإن هذه الكراسي إن لم تُسنَد إلى كرسي ثابت وذي قوائم أربعة فإنه لا فائدة من هذا التسلسل.

ومثال آخر: لنفرض وجود صفر أمامنا، فهذا الصفر إن لم يُضَف إلى رقم على يساره يبقى صفرًا ودون قيمة وإن رصصت كومة من الأصفار على جنبه، حتى وإن وضع (تريليون x تريليون) صفرًا. ولكن ما إن تضع على يساره رقمًا حتى يكتسب الصفر قيمةً حسب هذا الرقم. وهذا يعني أن أي شيء إن لم يكن له وجود مستقل وإن لم يكن قائمًا بذاته فإن أمثاله من الأشياء العاجزة لا تستطيع منحه الوجود ولا منحه أي سند أو عون، ذلك لأن اجتماع العاجزين بنفس العجز لا يزيدهم إلا عجزًا.

وحتى لو فرضنا المستحيل وقبلنا بتأثير الأسباب فإن القانون الفيزيائي القاضي بـ”تناسب العلة” يوجب وجود تناسب معقول بين السبب والنتيجة، لذا يجب مثلًا التفتيش عن أسباب معقولة وذات قوة وقدرة كافية تكون وراء ظواهر عديدة بدءًا من تحول الكرة الأرضية إلى بيئة ووسط صالح لظهور الحياة واستمرارها وانتهاءً بِوجود هذا الإنسان المفكر العاقل.

هذا علمًا بأن الوضع الحالي للكرة الأرضية أي سرعتها ومقدار بعدها عن الشمس وطبقتها الجوية ودوراتها الطبيعية والمقدار المحسوب لميل محورها ومقدار ونوع الغازات التي تشكل جوها، وطبقتها الترابية والنباتات التي تكسو هذه الطبقة، وبحارها والقوانين الخفية الجارية فيها، والرياح والوظائف والمهام المختلفة التي تؤديها…إلخ، من آلاف بل مئات الآلاف من الحوادث الجارية بكل نظام واتساق وتناغم لا يمكن عزوها وإرجاعها إلى الأسباب العمياء والصماء أو إلى المصادفات العشوائية، فمثل هذا الأمر يجعل العقل وكأنه يناقض نفسه بنفسه.

والحقيقة أن علماء علم الكلام عندما حكموا عن طريق مفهوم “الدوْر والتسلسل” بنفي تأثير الأسباب وبإسنادها إلى مسبِّب الأسباب أي إلى الله تعالى، ذكروا أن كل شيء “ممكن الوجود” وأن كل الأسباب والعلل تستند إلى “واجب الوجود”، ففتحوا بذلك منافذ إلى التوحيد، غير أن من الممكن الوصول إلى هذه النتيجة عن طريق أسلم. أجل، ففي كل أثر من آثار الخالق Y نرى ختمه وسكّته وآيته. لذا فليس هناك دليل واحد بل آلاف الأدلة على وجوده. فمنذ أن بدأت العلوم بمحاولة الكشف عن أسرار الكون، كان كل علم يشير بلسانه الخاص إلى وجوده ويعلن عنه بأجلى صيغة. وهناك كتب قيمة جدًّا كتبت في هذا الموضوع.

أجل، لقد أُوجِد كل شيء بعد أن كان معدومًا، والله هو موجِدُ وخالقُ كل شيء، والله لكونه هو الخالق لم يُخلَق، إذ كل مخلوق شأنه أن يكون عاجزًا ومحتاجًا بينما وجود الله ذاتيٌّ لا حاجة له إلى أي أحد، فهو الغني المطلق الغنى. كل شيء يستند إليه ويعتمد عليه. وكل لغز يبدو وكأنه غير قابل للحل يظهر ويتضح به، فهو الخالق وهو الموجِد وهو القائم على استمرار الوجود، هو الأول وهو الآخر. فكيف يفتَّش عن مسبِّب له؟!

ولنوضح هذا بمثال أو مثالين: مثلًا إن رجليّ تحملان جسدي والأرض تحمل رجليّ. والآن وبعد أن توصلت إلى معرفة مثل هذا الحامل المعقول لا أحتاج إلى البحث عن أسباب جديدة خارجه. ومثلًا لنأخذ العربة الأخيرة من عربات قطار.. هذه العربة تجرّها العربة التي أمامها، وهذه تجرها التي أمامها… وهكذا حتى نصل إلى القاطرة، أي المحرك الذي يجر القطار. وعندما نصل إلى المحرك نقول: “إن هذا المحرك يحرك نفسه بنفسه”. هذه أمثلة مما خلق الله، يمكن للمخدوعين العثور على سبب وراءها، لكنهم مهما انتقلوا من سبب إلى آخر، فإنهم سيصلون حتمًا إلى سبب لا يستطيعون التقدم بعده إلى سبب آخر. عند ذلك سنواجههم ونسألهم “ها هي نهاية الأسباب! فماذا بعد؟”

هناك مسألة أخرى تعكر صفو بعض العقول وهي أن التفكير المحدود لبني الإنسان لا يستطيع فهم مفهوم الأزل وإدراكه، لذا نراه يضفي صفة الأزلية على المادة، ثم يرى احتمال وقوع أشياء غير معقولة في الماضي السحيق الذي لا تستطيع الأرقام إيضاحه.

قبل كل شيء إن الأزل ليس بداية الزمان الماضي، إنه لا زمان. فلو بلغت الأزمان (كاتريليون x كاتريليون) سنة لما بلغ عشر معشار الأزل. بينما يعرف الجميع تقريبًا الآن بأن المادة التي هي أساس تسلسل الأسباب لها بداية معيّنة. فحركات الإلكترونات، وأسرار فيزياء نواة الذرة، والعمليات الغامضة التي تجري في الشمس وتؤدي إلى إطلاق الإشعاعات، والقانون الثاني للديناميكا الحرارية (الثرموديناميك)، وهو القانون الشامل للكون يشير إلى أن لكل شيء نهاية. كل هذه الأمور أدلة بضخامة النجوم وبوضوح وبريق الشموس، وكل شيء له نهاية لا بد أن تكون له بداية، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى أي نقاش.

لذا فإن أي شيء أسبغت عليه نعمة الوجود يشير إلى الخالق ويدل عليه، كذلك فإن انطفاء وجود الأشياء وفناءه يدل على أن الخالق لا أوّل له ولا آخر. لأنه من الطبيعي أن ما كانت له بداية كانت له نهاية، كذلك من الضروري أن ما لم تكن له بداية لم تكن له نهاية. لذا فإننا نرى أن المادة -وكل شيء نبع منها- إن كان موجودًا اليوم فهو غير موجود غدًا. ولكن سير الكون البطيء نحو الفناء، والفناء التدريجي للمادة قد يخدع الكثيرين. ولكن مصير هذه العوالم -التي نمت وتوسعت ضمن عهود طويلة- هو إلى الفناء. أجل إن المادة مع أنها موجودة اليوم، فإنها -على ضوء بعض الأبحاث- متوجهة دون شك نحو التغير. والآن لنوضح هذا بمثال قطار أيضًا:

لنفرض أن قطارًا توجه من مدينة “إِزْمِير” نحو “طُرْغُتْلُو” التي تبعد عنها 55 كم. ولنفرض أن سرعة القطار كانت 55 كم/ساعة عند بداية الرحلة، أي إن الرحلة ستستغرق ساعة واحدة. سار القطار بهذه السرعة نصف ساعة ثم هبطت سرعته إلى النصف بعد أن بقي من المسافة 27.5 كم، أي إنه سيقطع نصف هذه المسافة في نصف ساعة، ولنفرض أن القطار كلما سار نصف ساعة أنقص سرعته إلى النصف… وهكذا، مثل هذا القطار يبدو أنه لن يصل إلى مدينة “طُرْغُتْلُو” أبدًا. ومع أن القطار سيصل حتمًا إلى هذه المدينة إلَّا أن راكب القطار قد يتصور أنه لن يصل إلى المدينة أبدًا بهذه السرعة المتناقصة.

وشبيه بهذا فإن المادة سائرة نحو التحلل والتجزؤ. وسيتحقق هذا وإن كان بعد عدة ملايين من السنين، أي كل شيء فانٍ سوى الموجودِ سبحانه وتعالى الذي لا يستند وجوده إلى شيء آخر غيره.

والخلاصة أن الله موجود وهو خالق كل شيء. وتوهم أنه مخلوق تفكير ساذج يسند إلى الخالق صفة المخلوق ولا يميز الفرق بين الخالق وبين المخلوق. والملحدون والمنكرون الذين أبرزوا هذا التصور والوهم -الذي يجفل منه الإنسان ويرتجف- أرادوا الظهور بمظهر العقل وهم لا يدرون أنهم سقطوا في تناقض صارخ مع العقل ومع المنطق. فمن يستطيع اليوم ادعاء أزلية المادة أو إنكار الألوهية؟! فمثل هذا الادعاء لم يعد غريبًا فحسب بل علامة على الجهل والتعصب.

ولكن مع أن بعض الماديين الذين لم يستطيعوا النفوذ إلى معنى الأشياء والحوادث لا يدركون الفناء والتحلل المقبلين على المادة ولا الفناء الذي تنتظره الذرة سيبقون -حتى يوم إدراكهم هذه الحقائق- وراء بياناتهم وادعاءاتهم هذه ليخدعوا بعض السذج البسطاء.

والله الذي أحاط بكل شيء علمًا هو أعلم بحقيقة الأمر.

[1] البخاري: الاعتصام، 3؛ مسلم: الإيمان، 212.

فهرس الكتاب